يسعى فضيلة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي في أحدث كتبه (الحكم الشرعي في ختان الإناث) الصادر عن دار وهبة بالقاهرة، إلى صياغة تأصيل شرعي يضع حدا للجدل والخلاف المتجدد حول قضية ختان الإناث؛ ولذا فإنه لا يبدو مهتما بالانتصار لرأي على آخر بقدر ما يركز على إضاءة كافة الجوانب الفقهية للموضوع، حتى تستبين كلمة الشرع وحكمه في هذا الأمر للجميع.

الكتيب الجديد الذي لا تتجاوز صفحاته العشرين صفحة، هو في الأصل محاضرة ألقاها العلامة القرضاوي أمام "مؤتمر العلماء العالمي نحو حظر انتهاك جسد المرأة"، والذي عقد في القاهرة نوفمبر 2006 تحت رعاية (دار الإفتاء) المصرية، بالاشتراك مع الاتحاد العالمي -في ألمانيا- لمكافحة تشويه الجهاز التناسلي للمرأة، بهدف إظهار الموقف الإسلامي الصحيح من حماية الإنسان.

وفي مقدمة الكتاب، كان القرضاوي حريصا على إثبات المداخلة التي مهد بها لمحاضرته أمام المؤتمر، واحتج فيها على أمرين اثنين، الأول: أن عنوان المؤتمر (مؤتمر العلماء العالمي نحو حظر انتهاك جسد المرأة) يعني أنه تبنى رأيا وأعلن عنه مقدما، وبالتالي فما معنى البحوث والدراسات المقدمة! فقد كان من المفروض أن يكون العنوان محايدا.

أما الأمر الثاني الذي اعترض عليه القرضاوي فهو: أن تمويل المؤتمر مقدم من جهة أجنبية في ألمانيا؛ لأن هذا يعطي شبهة في أن المؤتمر يعمل لحساب جهات خارجية.

وعقب هذه المقدمة، يوضح القرضاوي الأسس التي سوف يبني عليها الحكم الشرعي في ختان الإناث، وذلك من خلال الرجوع إلى جذور الأمر، محددا الأدلة الشرعية التي تؤخذ منها الأحكام، بأنها أولا: القرآن الكريم، والسنة الصحيحة، ولا خلاف فيهما، ويأتي بعدهما: الإجماع والقياس.

القرآن والسنة

وفيما يتعلق بالقرآن الكريم، يقول القرضاوي: "مَن نظر في القرآن الكريم لم يجده تعرَّض لقضية الختان تعرُّضا مباشرا في أي سورة من سوره المكية أو المدنية. ولكن فقهاء الشافعية -الذين قالوا بوجوب الختان على الذكور والإناث- استدلُّوا -فيما استدلوا- بقوله تعالى في سورة النحل: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123]. وقالوا: إن الختان من مِلَّة إبراهيم، وقد ثبت في الصحيحين أن إبراهيم اختتن وهو ابن ثمانين سنة".

لكن القرضاوي يرفض هذا الاستدلال ويعتبره متكلَّفا، ويضيف قائلا: "فالأمر باتباع مِلَّة إبراهيم أكبر وأعمق من مجرَّد عملية الختان، بل المراد اتباع منهجه في إقامة التوحيد، واجتناب الطاغوت، والدعوة إلى وحدانية الله بالحكمة والحُجَّة، كما رأينا ذلك في دعوة إبراهيم لأبيه وقومه. فكل محاجَّته معهم كانت حول التوحيد، ولم تكن حول شيء من جزئيات الأحكام، ولهذا لم يذكر في القرآن أي شيء من هذه الفرعيات".

وينتقل القرضاوي بعد ذلك لبيان الأدلة التي يُستدل بها على ختان الإناث من السنة النبوية، لافتا إلى أن الفقهاء يعتمدون في ذلك على ثلاثة أحاديث، ويعقب على ذلك بأنه: "لم يصحَّ منها حديث واحد، صريح الدلالة على الحكم، أجمع على تصحيحه أئمة هذا الشأن"، فيما أنه "من المعلوم المجمَع عليه عند أهل العلم جميعا -محدِّثين وفقهاء وأصوليين- أن الحديث الضعيف لا يُؤخذ به في الأحكام. وهنا لم يوجد إلا حديث واحد صحيح، ولكن لا دلالة فيه على المطلوب".

وفي تفسيره لحديث: "الختان سُنَّة للرجال، مكرُمة للنساء"، يذهب القرضاوي إلى أنه يعني أن الختان للإناث "شيء مستحسن عُرفا لهنَّ، وأنه لم يجئ نصٌّ من الشارع بإيجابه ولا استحبابه. وهذا أمر قابل للتغير، فما يعتبر مكرُمة في عصر أو قطر، قد لا يعتبر كذلك في عصر أو في قطر آخر".

القياس والإجماع

وينتقل القرضاوي بعد ذلك إلى توضيح الدليل الثالث الذي يستدل به البعض على وجوب ختان الإناث أو استحبابه وهو القياس، مبديا احتجاجه على ما يذهب إليه البعض من قياس ختان الإناث على ختان الذكور، باعتبار أن الأصل في خطاب الشارع أنه للجنسين معا، مرجعا ذلك إلى افتقاد الأمر لشروط القياس الثلاثة، فلا توجد عِلَّة جامعة مشتركة بين المقيس والمقيس عليه، كما أن هناك فارقا كبيرا في هذه القضية بين الذكر والأنثى، حيث ينتفع الذكر بالختان، وتتضرَّر الأنثى به أضرارا شتَّى.

والشرط الثالث الذي يفتقده قياس الحكم في ختان الذكور على قياس الإناث هو "أن الأصل هو منع تغيير خلق الله، وقطع جزء من الجسم الذي خلقه الله، وقد استُثني هذا الأصل في ختان الذكور، وبقي ما عداه على أصل المنع. وِفقا للقاعدة الأصولية: ما جاء على سبيل الاستثناء يُحفظ ولا يُقاس عليه".

وعن الدليل الرابع، وهو الإجماع، يلفت القرضاوي إلى أن: "الذي يقرأ أقوال الفقهاء في ذلك، داخل المذاهب وخارجها، يتبيَّن له، أنه لا يوجد بينها اتفاق على حكم محدَّد بالنسبة لخفاض الأنثى أو ختانها، فهناك مَن قال بالوجوب، وهناك مَن قال بالاستحباب، وهناك مَن قال إنه سنة للرجال مكرُمة للنساء. فلا إجماع في المسألة إذن".

وفي المقابل، يبدو القرضاوي حريصا على التأكيد على أنه " ينبغي عدم التشنيع على كل مَن قام بختان بناته (أو خفاضهن) على الوجه الذي جاء به الحديث، ولا يجوز تسمية ذلك بأنه (جريمة وحشية) تُرتكب في القرن الحادي والعشرين، إلا ما كان متجاوزا للحدود الشرعية المتَّفق عليها، وهي تتمثَّل في ثلاثة أشياء: الاستئصال والمبالغة في القطع، وأن يباشر هذا الختان الجاهلات من القابلات وأمثالهن، وألا تكون الأدوات المستخدمة مُعقَّمة وسليمة.

قواعد أساسية

وفي نهاية الكتيب يشدد العلامة يوسف القرضاوي على نظرتين أساسيتين، يلزم الفقيه أن يضعهما في اعتباره عند النظر إلى هذه الأمور التي تختلف فيها وجهات النظر عادة بين أهل الاجتهاد في الفقه، الأولى هي: أن هناك من الأمور الجائزة والمباحة ما يجوز منعها بصفة كلية أو جزئية، إذا ثبت أن من ورائها مفسدة أو ضررا، فإذا أثبتت الدراسة الموضوعية من قِبَل الخبراء والمتخصصين المحايدين أن الختان يضرُّ بالإناث، ضررا مؤكَّدا أو مرجَّحا وجب إيقاف هذا الأمر، ومنع هذا المباح؛ سدًّا للذريعة إلى الفساد، ومنعا للضرر والضرار.

أما بالنسبة للنظرة الثانية، فقد لخص فيها القرضاوي قواعد الحكم الشرعي الذي تبين له في (ختان الإناث)، ومفادها:

أن الأصل إبقاء خلق الله سبحانه على ما خلقه، وعدم تغييره؛ وبالتالي فإن ختان المرأة أو خفاضها بقطع جزء من جسمها بغير مسوِّغ يوجبه يكون أمرا غير مأذون به أو محظورا شرعًا، وإنه إذا كان قطع هذا الجزء من جسم المرأة يترتَّب عليه أذى أو ضرر معيَّن لها، في بدنها أو نفسها، كان ذلك محظورا شرعا. وإن ختان الذكور خارج هذا الحكم، لما ورد فيه من أدلَّة شرعية ظاهرة صحيحة الثبوت صريحة الدلالة، بينما لا يوجد في ختان الإناث مثل ذلك، ولا قريب منه؛ ولذا فالأصل هو منع إيلام الإنسان في بدنه لغير حاجة.

وبعد أن يورد القرضاوي رأيا طبيا يعارض (ختان الإناث) ويوضح أضراره على المرأة، يبدي عدم تحبيذه لإصدار تشريع بمنعه، ويقترح بدلا من ذلك "توعية الناس في هذا الموضوع توعية دينية، وتوعية طبية، تسيران جنبا إلى جنب، وقد يغني التوجيه والتثقيف الشرعي والصحي عن التشريع والإلزام بالقانون".