إن الإسلام دين واقعي، فهو يتعامل مع الإنسان كله: جسمه وروحه، وعقله ووجدانه،

ويطالبه أن يغذيها جميعا، بما يشبع حاجتها، في حدود الاعتدال، الذي هو صفة (( عباد الرحمن )): (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67) بلفظ ( والذين . . . ) ، وليس هذا خلقهم في أمر المال فقط، بل هو خلق أساسي عام في كل الأمور، هو المنهج الوَسَط للأمة الوسَطَ. وإذا كانت الرياضة تغذى الجسم، والعبادة تغذى الروح، والعلم يغذى العقل، فإن الفن يغذى الوجدان.

ونريد بالفن: النوع الراقي الذي يسمو بالإنسان، لا الذي يهبط به.

المنفعة والجمال في الكون

وإذا كانت روح الفن هي الإحساس بالجمال وتذوقه، فهذا ما عني القرآن بالتنبيه وتأكيده في أكثر من موضع. فهو يلفت النظر بقوة إلي عنصر (( للحسن )) أو (( الجمال )) الذي أودعه الله في كل ما خلق، إلي جوار عنصر (( النفع )) أو (( الفائدة ))‌فيها.

كما أنه شرع للإنسان الاستمتاع بالجمال أو «الزينة » مع المنفعة‌ أيضاً. يقول الله تعالي في معرض الامتنان بالأنعام : (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) (النحل:5)، و في هذا تنبيه على جانب المنفعة والفائدة، ثم يقول : (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) (النحل:6)، فهذا تنبيه على جانب الجمالي، حيث يلفتنا إلى هذه اللَوحة الربانية الرائعة‌، التي لم ترسمها يد فنان مخلوق، بل رسمتها يد الخالق سبحانه.

و في نفس السياق يقول سبحانه : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (النحل:من الآية 8)، فالركوب يحقق منفعة مادية مؤكدة ، أما الزينة فهي متعة جمالية فنية، بها يتحقق الكامل للوفاء بحاجات الإنسان، كل الإنسان.

و في هذا السياق من نفس السورة امتن الله تعالي بتسخير البحر فقال : (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا)(النحل: من الآية14)، فلم يقصر فائدة‌ البحر على العنصر المادي المتمثل في اللحم الطري الذي يؤكل ، فينتفع به الجسم ، بل ضم إليه الحلية التي تلبس للزينة ، فتستمتع بها العين والنفس.

وهذا التوجيه القرآني تكرر في أكثر من مجال ، ومن ذلك : مجال النبات والزرع والنخيل والأعناب والزيتون والرمان متشابهاً وغير متشابه ، يقول تعالى في موضع من سورة الأنعام : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا)(الأنعام: من الآية141).

و في موضع آخر من نفس السورة يقول بعد ذكر الزرع و جنات النخيل والعنب (انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(الأنعام: من الآية99).

فكما أن الجسم في حاجة إلي الاستمتاع بالنظر إلي ثمره إذا أثمر ينعه . و بهذا يرتفع الإنسان أن يكون همه الأول أو الأوحد هو هم البطن!

و مثل ذلك قوله تعالي : (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)(الأعراف:31)، (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)(لأعراف: من الآية32).

فأخذ الزينة‌ لحاجة‌‌ الوجدان، والأكل والشرب لحاجة الجثمان، وكلا هما مطلوب.

وكذلك نجد الاستفهام الإنكاري في الآية الثانية‌ ينصب علي أمرين : تحريم (الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) و (زِينَةَ اللَّهِ) ، تجسد عنصر الجمال الذي هيأه الله لعباده ‌، بجوار عنصر المنفعة‌ الذي يتمثل في (الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) .. و تأمل هذه الإضافة‌ كلمة « زينة » - إلي لفظ الجلالة : (زِينَةَ اللَّهِ) ففيها تشريف لهذه الزينة و تنويه بها .

و في هذا السياق جاء قبل هاتين الآيتين قوله تعالي في شأن اللباس : (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ)(الأعراف: من الآية26)، فقد جعلت الآية اللباس – الذي امتن الله تعالي بإنزاله – أنواعاً ، و إن شئت قلت : جعلت له مقاصد و مهمات: مقصد «الستر» المعبر عنه بقوله : (يُوَارِي سَوْآتِكُمْ)، و مقصد «التجمل والزينة‌ » المعبر عنه بقوله :‌ (وَرِيشاً) (26) و مقصد «الوقاية» من الحر والبرد ، المعبر عنه بقوله : (وَلِبَاسُ التَّقْوَى)

المؤمن وعناصر الجمال

إن المتجول في رياض القرآن يري بوضوح :‌ أنه يريد أن يغرس في عقل كل مؤمن و قلبه

الشعور بالجمال المبثوث في أجزاء الكون من فوقه و من تحته و من حوله : في السماء‌ ، و الأرض ، و النبات ، و الحيوان ، والإنسان .

في جمال السماء يقرأ قوله تعالي : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ) (سورة ق: 6).

(وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ)، (سورة :16).

وفي جمال الأرض و نباتها يقرأ : (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (ق: 7).

(وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ )(النمل: من الآية60).

و في جمال الحيوان يقرأ ما ذكر ناه قبل عن الأنعام : (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) (النحل :6) .

و في جمال الإنسان يقرأ: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) (التغابن:3)، (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ)(الانفطار:6-8).

إن المؤمن يري يد الله المبدعة في كل ما يشاهده في هذا الكون البديع ، ويبصر جمال الله في جمال ما خلق و صور ، يري فيه (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ )(النمل: من الآية88) ، (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ )(السجدة: من الآية7).

و بهذا يحب المؤمن الجمال في كل مظاهر الوجود من حوله ؛ لأنه أثر جمال الله جل و علا .

و هو يحب الجمال كذلك ؛ لأن «الجميل» اسم من أسمائه تعالي الحسنى و صفة من صفاته العلا .

و هو يحب الجمال أيضاً ، لأن ربه فهو جميل يحب الجمال .

........

* نقلاً عن كتاب " الإسلام والفن " للعلامة القرضاوي