من محاسن عصرنا الذي نعيش فيه، أن وجد من هم على شاكلة الشيخ محمد الغزالي - رحمة الله عليه - والشيخ يوسف القرضاوي، زاد الله لنا النفع بعلمه وفقهه، هؤلاء الرجال هم قلة، وهذا أمر طبيعي؛ فمتى كان أمثالهم كثرة في أي زمان ومكان؟ إن الواحد منهم صنعته مرحلة تاريخية، هي هذه المرحلة التي نشأ فيها وعاش وتفاعل مع مشاكلها وقضاياها وتحدياتها.

الشيخ محمد الغزالي كان أميل إلى الفكر السياسي الإسلامي، وعلى مدى نصف قرن عالج أكثر ما ثار في هذا المدى الزمني من قضايا السياسة، والمجتمع وهموم الأمة، وهو هنا يكمل شجرة المفكرين الإسلاميين من أمثال محمد عبده، ورشيد رضا، وحسن البَنَّا… وغيرهم سابق ولاحق.

الشيخ يوسف القرضاوي يجد مكانه الثابت على ذات جذوع هذه الشجرة ويكمل صنيع سابقيه، وهو في الوقت ذاته ينشغل بفتاوى الأحكام وقضايا فقه المعاملات؛ تأليفًا للكتب، وإصدارًا للفتاوى في مسائل الفروع، عبادات، ومعاملات، ويكمل هنا شجرة تضم محمود شلتوت، وأحمد إبراهيم، وعبد الوهاب خلاف، وعلي الخفيف، ومن على شاكلتهم سابق ولاحق.

وأهم ما يميز الشيخين، ويجعلهما علامة على عصر وعلى مرحلة من مراحل الفكر الإسلامي، أنه على أيديهما ارتأب الصدع الذي عانى منه فقه الإسلام وفكره على مدى قرن سابق، وعلى مدى القرن الرابع عشر الهجري (الذي بدأ في ثمانينيات القرن التاسع عشر الميلادي نحو 1883م) عانى الفكر الإسلامي نوعًا من الانفصام بين حركة التجديد وحركة المحافظة، وكانت حركة التجديد تنشر وجوهًا لاستجابة الفكر الإسلامي لأنواع معاملات جديدة وأوضاع نظم اجتماعية وسياسية حادثة، وتفتق حلولاً لمشاكل طرأت لا تجد لها في فكر السابقين حلولاً جاهزة.

وكانت حركة المحافظة تنظر إلى الوافد الأجنبي من الغرب وأوروبا بقلق شديد، ترى فيه فكرًا يريد أن يجتث الأصول من ركائز الفكر الإسلامي التليد، وترى فيه أنماط عيش وأوجه سلوك وأنواع معاملات تتعارض مع نظام الواجبات والمحرمات الإسلامية، وتتبجح في تحديها لهذا النظام، وتعمل على توليد الاستهانة به وعدم الاعتبار بأوزار المخالفة له، مع تشبعه من قيم معارضة للقيم السائدة، وتمثل كل ذلك في مسائل المأكل والمشرب والملبس وأنواع التعامل مع البنوك، بمثل ما تمثل في تبجح بعثات التبشير المسيحي في نشر دعواها في بلادنا، وبمثل ما بدأت مجلات وكتب حديثة تنشر من الفلسفات بين الشباب المثقف ما يشكك في أسس العقيدة الدينية.

اعتبر المحافظون أن حركة التجديد في الفكر الإسلامي إنما تزكي هذا التفكك العقدي والقيمي والسلوكي، وأساءوا الظن بها وقاوموها، واعتبر المجددون أن حركة المقاومة المحافظة إنما تستبقي الوهن الإسلامي الاجتماعي في مواجهة مسائل التحضر والنمو، وأساءوا الظن وشنّعوا عليها، وظل العراك سجالاً يخفت ويعلو جيلين أو ثلاثة أجيال، ثم جاءت هذه الحلقة الأخيرة التي نتكلم عنها لتوحد بين دعوة الأخيرة التي نتكلم عنها لتوحد بين دعوة التجديد ودعوة المحافظة، بالدفاع عن ثوابت الفكر الإسلامي وأصوله وبتجديد ثوابته وفروعه، وكان من أزكى ثمار هذه المدرسة الموحّدة للتجديد والمحافظة على حركة واحدة شيخانا الجليلان: الغزالي والقرضاوي، الشيخ الغزالي ولد في 1335 للهجرة (سنة 1917 للميلاد)، وولد الشيخ القرضاوي في 1344 للهجرة (سنة 1926 للميلاد)، وكلاهما تعلم وتخرج بالأزهر الشريف.

(2) هذا هو ما أظنه وضع الشيخ القرضاوي في خريطة الفكر الإسلامي في القرن العشرين، وقف مع الشيخ الغزالي على ملتقى البحرين، بحر المحافظة وبحر التجديد، وصار البحران بحرًا واحدًا، وصار المجدد هو من يدافع عن الأصول ويذود عنها، وصار المحافظ هو من يتوسل بالتجديد لصيانة الوجود والبقاء، والفكر الإسلامي بهذا الالتقاء صار أحصن وأمنع، كما صار أحيا وأزهر مما كان في بداية القرن الرابع عشر للهجرة.

أما عن صلتي أنا بكتابات القرضاوي؛ فقد اتصلت بها منذ شتاء 1974 – 1975 على التحديد، بدَأَت اتصال قارئ بكاتب عبر الدوريات والكتب، وما أكثر ما تفاعلت مع رجال لم ألقهم ولا عرفت أشخاصهم بالاتصال المباشر، إنما تفاعلت معهم عبر الكلمة المكتوبة، وكثيرًا ما كفتني هذه الصلة، وما أكثر ما صرفتني فطرة الخجل عن السعي للتعارف الشخصي، إلا ما تدبره الأقدار للقاءات من بُعد، وكان هذا شأني مع الشيخ القرضاوي.

بدأت صلتي بكتاباته في ذلك الشتاء البعيد من عامي 1974 - 1975، كنت أعمل في أسيوط رئيسًا لمحاكم مجلس الدولة هناك، وكنا نذهب إليها دورًا في كل شهر، أيامًا نعقد جلساتنا ونهيئ قضايانا، ثم نعود إلى القاهرة ندرس ونتداول ونكتب، وقبل سفرة من هذه السفرات مررت على المكتبات - حسب عادتي - ألتقط ما تهمني قراءته، وصادفت مجلة دورية جديدة لم أرها ولا سمعت عنها من قبل اسمها "المسلم المعاصر"، وجدت عددين متجاورين، الأول اسمه (العدد الافتتاحي - نوفمبر 1974)، والآخر اسمه (العددان الأول والثاني - إبريل 1975)، وعجبت أن يكون ثمة عدد سابق للأول، ثم يَرِد العددان الأول والثاني مندمجين، وكان الأولى أن يصدر العدد السابق برقم والآخر برقم تال، وكفى الله المؤمنين الحيرة، وعزوت الأمر إلى قلة الخبرة في إصدار الدوريات وضعف الإمكانيات المالية، واستخلصت من ذلك أن القائمين على هذا الشأن يجتهدون لإيصال حكمتهم إلى القراء، وأن لديهم الإلحاح في توصيلها، رغم قلة الخبرة الصحفية وقلة المال، وأن من هنات المظهر ما يلفتك إلى المخبر ويحببك فيه.

في هذه السنوات - على التحديد - كنت أفتش عن المجددين في الفكر الإسلامي وعن التجديد فيه. أين هم؟ وماذا يقولون؟

كنت أطرح مسلماتي في الفكر السياسي والاجتماعي، وأعيد الفحص فيها، وأنظر فيما يمكن أن يبقى صحيحًا منها، وما لا يصح.. وكنت في تلمسي لهذا الأمر أدرك أن الفكر السياسي الغربي وحده لا يكفي ولا يصلح وحده هاديًا في حركتنا السياسية الاجتماعية، وأن الفكر النافع ينبغي أن يكون ابن حضارة بذاتها، ابن نسق تاريخي، وأن الثوابت المثمرة ينبغي أن تصدر عن الجذور الضاربة، وأنه كلما عمق الجذر قوي الجذع وازدهر الفرع وأثمرت الثمار.

ولكن بقي السؤال الأخير لدي: أين هي حركة التجديد المستندة إلى الأصول والثوابت؟ أين هي في الحقيقة والواقع المعيش؟ وعلى أي أسس تشكلت؟ وفي أية قضايا تمحورت؟ وهل اجتهاداتها تصدر عن حقيقة مشاكل الواقع المعيش حسبما نفهمها؟ وهل اجتهاداتها تستجيب لمستجدات هذا الواقع؟ وكيف يتصدى المجددون الآن لهذا الواقع بمشاكله وأساليب علاجه؟

(3) وجدت في العدد الافتتاحي، كلمة رئيس التحرير د. جمال عطية عن المجلة، ثم خواطر حول أزمة العقل المسلم المعاصر للأستاذ عبد الحليم محمد أحمد، والسنة التشريعية وغير التشريعية للدكتور محمد سليم العوّا، والخصائص الثابتة اللازمة والخصائص المكتسبة للحركة الإسلامية للأستاذ توفيق الطيب، ثم منهاج المجلة للدكتور فتحي عثمان، ثم أحاديث عن الاقتصاد الإسلامي والبنك الإسلامي للتنمية، ثم جاء العدد التالي فيه أبحاث عن أزمة الخلق للمسلم المعاصر، وتراث الفكر الإسلامي في النظم السياسية والإدارية، ثم صار باب الحوار واسعًا، كثيرَ الموضوعات، والأقلام حول العدد الأول (التمهيدي) ونقده والتعليق عليه، وفيه موضوع "نظرات في العدد الأول - د. يوسف القرضاوي".

حرمتني المجلة بعدديها نوم الليل ليالي، كنت بعد أن أنتهي من عملي في المحكمة وأنتهي مع زملائي من إعداد واجبات الصباح التالي، ويخلد كل منا إلى فراشه بحجرته، كنت أمسك المجلة من حيث توقفت في الليلة السابقة، وأظل أقرأ حتى الصباح، عندما يحين موعد التأهب للذهاب لمكان العمل، والمجلة كلها وجدت فيها طلبتي، وغالب من قرأت لهم فيها أيامها صرت من أصدقائهم فيما تلا ذلك من أعوام.

ولكن من أكثر ما استوقفني حديث الدكتور يوسف القرضاوي عن نظراته في العدد الأول.. وجدت نفسي أمام رجل يجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا، وهو لا يقفز بنظراته في الفضاء، وإنما يسير على نهج، ويتقدم في طريق يمهده ويستخرج الجذور والأصول بمعايير التقدم والتجديد.. كان الكثير من ذلك موجودًا في كتاب المجلة، ولكنه كان هو دائمًا يرد النتيجة إلى مقدماتها ويتفحص الآثار في ضوء المبادئ بمنهج أصولي بديع.

لفتني هذا المقال وملأ قلبي حماسًا واطمئنانًا، أما الحماس فلأنه ربط نظرات التجديد وتوجهات المعاصرة وتشخيص الأزمات وطرائق علاجها، ربط كل ذلك مما ورد في البحوث والمقالات الواردة بالعدد الافتتاحي، ربطها كلها بمرجعياتها الأصولية، وأكد مصداقيتها.

وأما الاطمئنان؛ فلأنني من رجال القانون، وممن يعالجون في عملهم القانوني النظر والتطبيق، يعالجون مسائل التفسير ومناهج التفريع في الأحكام، والحمد لله أن لم تنقطع صلتي بالفقه الإسلامي وأصول الفقه، حتى وأنا أمارس تطبيق القوانين الوضعية، ولم تنقطع صلتي بمناهج التأهيل الشرعية، للأحكام باعتبار ذلك جزءاً مكونًا ومؤسسًا لثقافتي الفقهية والقانونية، وبقيت هذه الصلة قوية حية أمارسها في عملي، حتى وأنا في عز اقتناعي بالنظريات السياسية الوافدة من الفكر الغربي.

لذلك لم يكن يرضيني في نظري إلى محاولة التجديد في الفقه الإسلامي وفكره، لم يكن يرضيني إيراد القياسات السريعة والاجتهادات المتعجلة التي تجدد في خفة يد وبمهارة في إخفاء العيوب المنهجية.. كنت أشعر أنها إما محاولات غير جادة من أصحابها، وإما أنها محاولات محكوم عليها بأن تذهب بددًا وأن تؤول هباء منثورًا، وأن ما لفتني في المسلم المعاصر بكافة - وفي كتابات القرضاوي بخاصة - أنها أبعد ما تكون عن هذه الخفة والتعجل، بل لعلها طرحت عددًا من المسائل المهمة في أعماق الشكل المنهجي، ولعل الشيخ يوسف - أدام الله النفع به - تصدى للعديد من هذه المعالجات في أعماقها المنهجية الصميمة.

وكنت أعرف أن الشريعة الإسلامية، أفرزت فقهها ومناهجها في التفسير، لم تستعن في ذلك بمادة غريبة عنها، إنما ولّدت من داخلها أساليبها في الفهم والتجديد، وأن تجديدًا يصدر من معايير احتكام ليست مستخرجة منها هو تجديد لا يصح، إنما لا بد أن يَرِد التجديد - إن ورد - من داخلها وبمادتها.. والمرجعية هنا تعتمد على نصوص منزلة بالقرآن والسنة، وأن أي منهج يخضع هذه النصوص للزمان والمكان اللذين نزلت فيهما هو منهج باطل يتنافى معها ولا يدوم تعامله معها، والفقه الإسلامي أيضًا هو أصول وثوابت وأحكام فرعية واستقراء للكليات من الفروع وأساليب استنباط للأحكام وأقيسة ومصطلحات، وأن التجديد الحق إنما ينبغي أن يراعي كل هذه التضاريس.

أذكر ذلك وأستطرد فيه لأوضح للقارئ لماذا صرت سعيدًا ومتحمسًا ومطمئنًا في تلك الأيام التي اطلعت فيها على "المسلم المعاصر" في عدديها الأولين، وطالعت "نظرات في العدد الأول" للشيخ يوسف القرضاوي، وكيف كان ذلك حاسمًا معي فيما جد لي من أيام.

(4) ماذا كتب الشيخ يوسف في "نظراته في العدد الأول".. إنني أنقل عنه هنا ما كنت أشرت إليه بقلمي الرصاص في تلك النسخة القديمة التي لا تزال عندي قال: "حسبها أنها مجلة الإسلام والعصر معًا، فهي تنظر إلى الإسلام بعين وإلى العصر بأخرى، وهي مجلة الحرية البنّاءة، فلا تتقيد بسياسة حكومة ولا بسياسة جماعة، ولا تحجر على ذي رأي أن يعلن رأيه من فوق منبرها، ما دام مبنيًّا على دراسة ومنهج "…"، مجلة كل من يرتبط بدينه ولا ينعزل عن واقعة وزمنه، كل من يحب الإسلام عن بيّنة، ويؤمن بالعمل له على نور وبالدعوة إليه على بصيرة، والجهاد في سبيله بالفكرة والكلمة، وحتى يعود إلى قيادة الحياة من جديد، وبنائها على تقوى من الله ورضوان "…"، إنها مجلة الذين يهتمون بالعلم والفكر والحركة جميعًا، هؤلاء الذين لا يعملون إلا بعد أن يؤمنوا، ولا يؤمنون إلا بعد أن يقتنعوا، ولا يقتنعون إلا بعد أن يدرسوا ويفحصوا ويناقشوا، فليس في دينهم كاهن يقول لهم (اغمض عينيك ثم اتبعني).

ثم يتحدث في موضوع الاجتهاد الذي تبنت المجلة الدعوة إليه وممارسته، ويناقش الدعوة التي أطلقها د. محمود أبو السعود عن الاجتهاد في أصول الفقه، فعرض رأيه فيما يراه ظنيًّا من مسائل أصول الفقه وما يراه قطعيًّا، ورسم دائرة الظني منها مخالفًا فيه قول الإمام الشاطبي، وحدد مجال الاجتهاد في الأصول الذي يراه مجالاً رحبًا، "وهو مجال التمحيص والتحرير والترجيح فيما تنازع فيه الأصوليون من قضايا جمة".

وإن تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية في حديث الدكتور العوا، رآه القرضاوي تقسيمًا جديرًا بإعداد الرسائل فيه، ثم عرض للإجماع وما كان منه مبنيًّا على أمر مصلحي قابل للتغيير بتغير الزمان والمكان، وإلى تغير الحكم والفتوى بتغير الزمان.

ثم ذكر أن ما نحتاج إليه أكثر من غيره هو الاجتهاد في مسائل الفقه، وهنا بيّن أمورًا ستة أوجب مراعاتها عند ممارسة الاجتهاد، الأمر الأول أن يقتصر مجال الاجتهاد على ما كان من الأحكام ظني الدليل ثبوتًا أو دلالة، والثاني ألا يكون الاجتهاد انسياقًا وراء المتلاعبين ممن يريدون تحويل المحكمات إلى متشابهات، والثالث أن تظل مراتب الأحكام كما جاءت فيبقي كل من القطعي والظني على حال مجيئه، والرابع يتعلق بالحذر من الوقوع تحت ضغط الواقع القائم مما لم يصنعه الإسلام ولا المسلمون، إنما فرض عليهم في زمن ضعف أو غفلة وتفكك، فليس الاجتهاد وظيفته تبرير هذا الواقع، والخامس ألا يكون أكبر الهم مقاومة كل جديد، إنما تجب التفرقة بين ما يلزم فيه التشدد والثبات وما تقبل فيه المرونة والتطور، والسادس أن يملك المجتهد أدوات الاجتهاد وأن يكون عدلاً مرضي السيرة.

ثم علّق على حديث الأستاذ عبد الحليم محمد عن أزمة العقل، قال: إن العقل نعمة بغير شك، ولكن الوحي نعمة أعظم وأكبر، وإذا كان المجتهد المخطئ مأجورًا، فشرط ذلك أن يكون أولاً من أهل الاجتهاد، وأن يكون قد استفرغ الوسع ولا يكون للهوى الخفي إلى نفسه سبيل، ولا يعيب المجتهد أن ينظر في تراث السلف وإن كان ذلك لا يلزم الخلف باجتهاداتهم.

شعرت وأنا أقرأ ذلك أن فضيلة الشيخ كما لو كان يخاطبني، أنا فلان ابن فلان، في زماني ذلك ومكاني ذلك؛ لأنه بالضبط كان يجيب على الأسئلة التي كانت تجول في صدري، وقد سجلت وقتها بالقلم الرصاص في هامش مقاله قبيل نهايته هذه بعبارة: "سبيل الاجتهاد ليس مجرد الوصول إلى جواز أمر من أمور حياتنا المعاصرة، لا ينبغي أن تقتصر على مثل قول: (هو جائز طبقًا لكذا، أو ليس جائزا معًا)، ولكن ينبغي أن نحدد باجتهادنا الجائز وغير الجائز معًا، فهذا أكثر أمنًا ومدعاة لاطمئنان النفوس إلى أن المجتهد لا يقود المكلفين إلى طريق غبر محفوف بحدود الدين التي هي أم لهم، أو أنه يغلق في وجههم الطريق".

وأتذكر من هذه العبارة أن رسالة الشيخ كانت وصلتني بحديها، الجائز والممنوع، فليس من فقه إلا وهو يضع الضوابط للجائز والممنوع، وتجديد الفقه يعني تحريك الضابط من حد إلى حد آخر؛ ليبقي دائمًا أن هناك جائزًا وهناك ممنوعًا، وهو لا يعني قط رفع الضوابط والحواجز والحدود، والفقه أيًّا كان، سواء كان شرعيًّا أو وضعيًّا، هو ضوابط وحدود، هو رسم للحدود بين الجائز والممنوع.

القرضاوي يقود سفينة الفكر الإسلامي

أتفق أن أول ما قرأت للشيخ بعد هذا المقال، هو كتاب (الحلال والحرام في الإسلام) قرأته في طبعته العاشرة (1396هـ – 1976م)، وكانت صدرت طبعته الأولى في (1380هـ - 1960م)، ألّفه بتكليف من الإدارة العامة للثقافة الإسلامية بالأزهر الشريف، ضمن مجموعة كتب أريد منها أن تكون للتعريف بالإسلام بين المسلمين وغير المسلمين في أوروبا وأمريكا.

وأن كتابًا يتوجه إلى الغرب، ويتعلق بالتحليل والتحريم أي بالقيود والحدود، كان يمكن أن يهتز بشأنه قلم كاتبه، إذا سعى لأن يقدم الإسلام في قيوده وضوابطه بالصورة التي تسوغ له أبناء حضارة الغرب المنتصر المزهو المتباهي بذاته، وكان سيصبح الكاتب معذورًا إن فعل، في ظروف السيادة الفكرية الغربية وهيمنتها الحضارية على بلاد الشرق بعامة، وفي ظروف الرغبة البريئة الساذجة؛ لنرى بعضًا من كُتاب الإسلام في تجمُّلِهم بأزياء هذه الحضارة المسيطرة ذات العنفوان.

ولكن شيخنا القرضاوي، ابن الرابعة والثلاثين من عمره عندما صدر الكتاب (1960) كان مسلمًا واثق الخطوة يمشي ملكًا حسب قول الشاعر العربي، أول ما يهمه في الحلال والحرام هو استخلاص الحكم الصائب الذي يرضي الله سبحانه، يفهمه ويقومه في ضوء مستجدات العصر، ولكن في إطار ما تسعه النصوص وحسبما يستخلص منها بمناهج التفسير المعتبرة في الفقه الإسلامي.

والكاتب في مقدمته للطبعة الأولى متنبه لكل ذلك، وهو يقول: "رأيت معظم الباحثين العصريين في الإسلام والمتحدثين عنه يكادون ينقسمون إلى فريقين: "فريق خطف أبصارهم بريق المدنية الغربية وراعهم هذا الصنم الكبير فتعبّدوا له.. هؤلاء اتخذوا مبادئ الغرب وتقاليده قضية مسلّمة لا تعارض ولا تنافس، فإن وافقها الإسلام في شيء هلّلوا وكبروا، وإن عارضها في شيء وقفوا يحاولون التوفيق والتقريب، أو الاعتذار والتبرير، أو التأويل والتحريف، كأن الإسلام مفروض عليه أن يخضع لمدنية الغرب وفلسفته وتقاليده.."، "والفريق الثاني: جمد على آراء معينة في مسائل الحلال والحرام، تبعًا لنص أو عبارة في كتاب...".

وذكر أنه حاول ألا يكون واحدًا من أي من الفريقين؛ لأنه لم يتخذ الغرب معبودًا، وإنما رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولاً، كما أنه لم يرضَ بالتقليد لمذهب معين ولم يقيد نفسه بمذهب سائد؛ لأن الحق في رأيه لا يشتمل عليه مذهب واحد.

لذلك نلحظ أن الكتاب لم ينسَق إلى مذاهب الغرب ومدارسه ودعاواه في القضايا والمسائل الخلافية الكبرى، التي لا تزال تثور حتى اليوم، وهي قضايا الفوائد الربوية، وخلوة الرجل بامرأة أجنبية عنه ليست محرمًا، وتحلي الرجال بالذهب والحرير، والطلاق، وتعدد الزوجات.

في كل ذلك كان الكتاب ذا رأي يدور في إطار ما هو معروف عن أحكام الإسلام، وكذلك بالنسبة للتماثيل والصور والغناء والموسيقى، لم يُجِز إلا ما رآه جائزًا حسبما تسع النصوص والأحكام بغير تفريط في المنع ولا إفراط فيه.

من متابعتي لأسلوب الشيخ في عرض مادته وتسبيب أحكامه، ورغم التبسيط الذي التزمه في عرض آرائه، أدركت أنه كما وصف نفسه صراحة لا يتبع، ولكنه يستعرض الآراء ويختار منها ما يقتنع بنفسه أنه الرأي الأقرب لقصد الشارع الحكيم والأنسب لزمان تطبيق النص في حدود ما يسعه، وأنه يتوسط في ذلك بغير تفلّت ولا تقبض، وأنه يعالج معاني النص وفي ذهنه علاقة النص بمنشئه تعالى، وفي ذهنه هيكل التشريع الإسلامي كله بتاريخه وجماعاته ومذاهبه ومدارسه، أي أدركت أنه يعمل مناهج التفسير والتجديد في إطار الجماعة برمتها ويتحرك من داخلها، كمن يحرك سفينة وسط شعاب البحر، لا يرى نفسه فردًا فيها إنما يرى نفسه بحجم السفينة كلها، بطول ما بين مقدمتها ومؤخرتها وبعرض ما بين جانبيها.

وكنت أعرف بتجارب العمل والممارسة والتدبير في ذلك الوقت (1975)، وكنت بلغت الثانية والأربعين من عمري وقتها، أعرف أن الإنسان فيما يفكر ويدعو يمكن أن يقفز فراسخ إلى الإمام بقدر ما يواتيه جهده الفردي وقدراته الذاتية، ولكن لن يحقق أي تقدم يذكر لجماعته بهذا القفز الواسع السريع، وأن الأجدى والأنفع له ولجماعته ولفكرته التي يدعو إليها، أن يحرك المؤسسة التي يعمل فيها أو الجماعة التي ينتمي إليها، يحركها بطولها وعرضها ولو بضعة أشبار وأمتار، فهذا هو العمل الحصيف المأمون وهو الإغناء الباقي، وإن كان في الأمر تحويل أو تغيير أو تعديل، فهو التحويل أو التغيير أو التعديل الذي يطمئن إلى استمراره من بعده.

(5) إن عملي القانوني في مجال التطبيق، وجّهني دائمًا، عند النظر في الأفكار والعلوم والنظريات ذات الطابع السياسي الاجتماعي، وجهني إلى الجانب التطبيقي منها، وعادة ما يسبقني نظري فيها إلى مآلاتها في التطبيق، وعادة ما يجري تصنيف الأفكار عندي، لا بمراعاة أسسها الفكرية وتشكّلاتها النظرية المنطقية فقط، ولكن بمراعاة أثرها في السياق الواقعي المشهور وفي المآل التطبيقي لها، وأن المنهج العلمي التجريبي ذاته يجعل آخر خطوة من خطوات الاستقراء والاستخلاص هي مدى اتساق النتيجة التي أفضى إليها البحث من غيرها من النتائج الواقعية.

أشعر عادةً أن العموميات مثل الصناديق المعلقة، علينا أن نفتحها لننظر فيما حوته، وأنه عند المحاورة بين عموميات أو التدقيق في المفاضلة، يتعين ليتم لنا استكمال المنهج أن نفتح الصناديق ونجرد المحتويات، وأنه عندما يتحدث المتحدث في أمور السياسة والمجتمع وفق نظريات عامة، يتعين أن نسأله من بعد، وماذا بعد؟. فليس المهم فقط هو الكمال النظري للأفكار السياسية والاجتماعية العامة ولا صدق مرجعيتها الفكرية والفلسفية، ولكن المهم أيضًا هو كيف توظف في صورها الملموسة والمشهودة، دعوة كانت أو سياسة منفذة.

وقد أعجبني في قراءاتي السابقة في الصحف القديمة، صحف 1951 أن ذكر أحد الإسلاميين أنه يتبع رأي الإسلام، فردَّ عليه "سيد قطب" متسائلاً: "وما هو رأي الإسلام الذي تراه؟". ذلك أن الأمر كان أمر موقف سياسي يتخذ، وأمر سياسة تنفّذ؛ لذلك لم يكن يكفيني في سنوات السبعينيات الماضية، السنوات التي أعدت فيها البحث في المرجعية السياسية الاجتماعية لي، لم يكن يكفيني أن يذكر ذاكر أن المرجعية الإسلامية أولي وأفضل من غيرها، فقد كنت بلغت هذا الشاطئ، بل كنت على مشارف الوصول إلى أنها بالنسبة لنا هي المرجعية وهي المشروع والمنبت، على وجه الاختصاص، ولكن بقي لدي السؤال.. وماذا بعد؟ وما هو رأي الإسلام الذي يراه ذوو الرأي في واقعنا المعيش؟ وما هو الوزن النسبي لكل من هذه الآراء التي تسعها شرعة الإسلام ومنهاجه؟

القرضاوي والحلول المستوردة

أصل الآن إلى الكتابين الأثيرين عندي في هذه المرحلة، هما أثيران لا بما فضلهما الله سبحانه على غيرهما من كتب الشيخ القرضاوي، ولكنهما أثيران بما أنتجت قراءتهما من حاصل في صدري، ولا زلت إلى اليوم، بعد ثلاثة وعشرين عامًا، كلما قرأت للشيخ أو تردد اسمه أمامي أو جال بخلدي، لا زلت كلما حدث ذلك لمع بخاطري اسما هذين الكتابين وهيئتهما، الأول بلون غلافه البرتقالي والثاني بلون غلافه الأخضر، ولا تزال نسخة كل منهما عندي بما تحمل من أثر قراءتي الأولى على هوامشها.

الكتابان بعنوان عام لهما هو "حتمية الحل الإسلام" (1)، (2). والأول منهما بعنوان (1) "الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا" قرأته في الطبعة الثالثة 1397هـ 1977م، وكانت صدرت طبعته الأولى بمقدمته 1391هـ - 1971م - والثاني منهما بعنوان (2) "الحل الإسلامي فريضة وضرورة"، قرأته في طبعته الثالثة 1397هـ - 1977م، وكانت صدرت طبعته الأولى ومقدمته 1394هـ - 1974م، وقرأتهما معًا في صيف العام نفسه، عام 1977.

الكتاب الأول، كان أول ما وجهت مقدمته نظر القارئ إليه هو هزيمة يونيو 1967، وأن لا حل ولا علاج إلا بالعودة إلى الإسلام، وهزيمة يونيو 1967 كانت هي ما ارتطمنا به وانكسرت عليه آمال، وسدت آفاق، وتحكمت آراء ونظريات، وانطرح البحث في المسلمات السياسية والفكرية والاجتماعية لدى كل ذي لب، فالمؤلف هنا بهذه البداية يشير إلى الجرح الغائر ويشير إلى من المسئول، ولكنه لا يزيدك وجعًا بتكرار الضرب على الجرح الأليم، إنما يبدأ من فوره بدعوة قرائه أن يلتفوا حوله ليسمعوه، أيًّا كانت مشاربهم، إن كانوا عربًا أو كانوا مسلمين أو كانوا بشرًا عقلاء، إن كانوا مؤمنين بالديمقراطية السياسية أو بمنطق الحوادث وسير التاريخ أو مستقرئين للصراع الدائر في العالم وأزماته الروحية والنفسية.

ثم هو في أول سطر في الكتاب نفسه، يحل مشكلة العراك المصطنع بين العروبة والإسلام فيقول: "لا ينكر عاقل أن وطننا العربي الكبير من الخليج إلى المحيط، وأن وطننا الإسلامي الأكبر من المحيط الهادي.. إلى المغرب والسنغال على شاطئ الأطلسي…".

فوضع مسألة الانتماء في صيغة تقبل الجمع والتداخل بين خصوص العروبة وعموم الإسلام وليست صيغة استبعاد ومحاربة بينهما، ثم في النقطة التالية مباشرة يصنف الحلول المطروحة على الأمة أي المرجعيات المطروحة عليها، وهي الحل الإسلامي القرآني، والحل الديمقراطي الليبرالي والحل الاشتراكي الثوري، وفي هذا الطرح تبدو الإمكانات الفنية والفكرية في النفاذ إلى صميم العلاقات بين الظواهر، والقدرة على التعميم وعلى التصنيف، مما يوفر على الكاتب وقارئه الكثير من الوقت والجهد، ويشيع روح التآلف والثقة، ويمهد لحسن التفاهم والنظر الموضوعي.

ثم يرد بعد ذلك سريعًا الموقف الفكري السياسي، فأصل المشكلة وأساسها التاريخي والاجتماعي والفكري، هو الوهن الذاتي لدينا وهو الغزو الأجنبي الذي سيطر علينا عبر السنين فلم نستطع أن نقاومه وخضعنا له، صور ذلك بقوله: إن كان ثمة "تخلف في العلم، وجمود في التفكير، وركود في الفقه والتشريع، وقصور في التربية والتوجيه، وفساد في الإدارة والحكم، وكان العدو الزاحف المنتصر متفوقًا في هذه المجالات، فبهر أبصار الكثيرين وخلب ألبابهم، فبدءوا يسيرون في دروبه ويتبعون سنته، شبرًا بشبر وذراعًا بذراع.."، ثم بدأ الحديث الطويل عن الغزو الخارجي وأثره في أمة المسلمين، دون أن يبرئ المسلمين والعرب من مسئولياتهم فيما كانوا فيه مما عبَّر عنه بلفظ الانحطاط" وما آل إليه كثيرون من انبهار بالغرب، ولم يبرئهم؛ لأنه يريد أن يصلحهم، ولا يكتفي بأن يعيب الزمان ويضرب الأمثال.

والشيخ القرضاوي مثقف إسلامي إلى النخاع، والمشكل يبدأ عنده دائمًا متعلقًا بالإنسان، ويبدأ من الإنسان ومن الفكر، على العكس تمامًا مما يفعل الماركسيون عندما يبدءون دائمًا بالواقع المادي، تفريعًا على ما يؤمنون به من أصالة المادة وحداثة الفكر وطروئه، والغزو لدى المفكر الإسلامي ليس غزو أرض فقط وليس غزو أرض أساسًا، إنما هو غزو الإنسان وفكره ووجدانه، وهذا أظهر وأعمق في الدلالة، فالاستعمار استعباد بشر في الأساس، والاستعباد لا يتم إلا بالإلحاق الفكري وضمان التبعية الثقافية، التي تمحو الشعور بالتميز لدى الجماعة المستعبدة، والتحرر لا يأتي إلا من خلال فكر تتشربه العقول والنفوس وتبذل من أجله المهج.

والكتاب يُورد وسائل التأثير الغربي في الشرق الإسلامي، وهي في التعليم والتربية بالبعثات ومدارس التبشير ونظم التعليم الحديثة الآخذة عن الغرب، ثم في الصحافة، ثم في نظم التشريعات الآخذة عن الغرب والتقليد في السلوك والأذواق.

وهو هنا يفرق بين العلوم الطبيعية التي لا وطن لها، ويلزم الأخذ منها، والعلوم الإنسانية التي هي محل التأثير والتأثر الضار.

والكتاب بعد ذلك يتحدث عن القومية العربية وعن الدعوة القومية بعامة، فيعرض للأثر التفكيكي لهذه الدعوة بالنسبة لما كان قائمًا من وحدة سياسية إسلامية، ويعرض لأثر القومية التركية في هذا التفكيك ولدعوة أتاتورك، ولأثر القومية العربية، ولكنه هنا أيضًا يفرق بين موضوع "القومية" الذي يرى بشأنه هذا الرأي ومطلب الوحدة العربية الذي يؤيده ويدعمه ويعتبره جزءاً من مطلب الوحدة الإسلامية الأعم، كما يفرق بين (القومية) بما أدت من وظيفة تفكيكية في رأيه والنزعة الوطنية الموجهة للتحرير من النفوذ الأجنبي.

وقد كنت أتصور أن من مشاكل التقارب الإسلامي العروبي هو رفض الإسلاميين لمبدأ القومية العربية، فلما ميّز الشيخ بين المبدأ المرفوض ومطلب الوحدة العربية المؤيد، كما ميّز بين المبدأ المرفوض والأداء الوطني المقاوم للاستعمار على الصعيدين العربي والإسلامي، لمّا فعل ذلك من حل المشكلة في جوهرها، وجعل الخلاف خلافًا نظريًّا بحتًا لا يكاد يبقى له أثر في التوظيف السياسي والأداء السياسي، وجعله خلافًا هادئًا يتفكر فيه المفكرون في أوقات فراغهم من جهد العمل المطلوب، وأقام جسور الثقة بين الطرفين، قلت وقتها - لقد كسب فضيلة شيخنا قضيته عندي، لقد أحسن وضع المسألة وأحسن تحريرها.

ثم يرد حديث عن القوانين الوضعية والحياة النيابية، فذكر أن الأمة مصدر السلطات وأنه يوافق على هذا المبدأ مع تقييده بعبارة "في حدود شريعة الله سبحانه"، وبهذا القيد والضابط الصحيح ربط بين المرجعية الشرعية والأساس النظري الذي يقوم عليه التنظيم الديمقراطي، كما ذكر أن الأخوة الإسلامية لا تتعارض مع المساواة بين المواطنين، وذلك بما يتقارب مع مبدأ المواطنة الذي تقوم عليه الجماعة الوطنية حسب النظم القائمة الآن.

وعلى هذا فليست المشكلة تقوم بين الإسلام والعروبة، ولكنها تقوم بين الإسلام ومن ينفي من العروبيين المرجعية الإسلامية، ويتبنى المفاهيم العلمانية، وليست المشكلة بين الإسلام والديمقراطية، ولكن المشكلة تقوم مع من ينفي من الديمقراطيين المرجعية الإسلامية.

والكتاب في كل ذلك حريص على أنه لا يعرض لرأي فرد، ولكنه يعرض لتيار فكري منتشر ذي رموز معروفة، منهم: "أبو الحسن الندوي" و"مصطفي الخالدي" و"عمرو فروخ" و"محمد البهي"، و"محمد الغزالي" و"محمود شاكر" و"سيد قطب" و"حسن البَنَّا"، وبهذا يرى القارئ نفسه أمام موجات متراكبة من مفكري الإسلام المحدثين في العقود الوسطى من القرن العشرين وحركاتهم السياسية الاجتماعية.

القرضاوي وحتمية الحل الإسلامي

عرض الكتاب الأول لما لقي الحل الليبرالي الديمقراطي من فشل، يقصد التجربة التاريخية التي مرت بها بلادنا من نهاية الحرب العالمية الأولى حتى الخمسينيات، ولما لقي الحل الاشتراكي الثوري من فشل أيضًا، في الفترة التالية من الخمسينيات إلى السبعينيات؛ لذلك جاء كتابه الثاني عن البديل الثالث الذي يراه فريضة وضرورة أيضًا وهو الحل الإسلامي.

أول ما استفتح به الكتاب هو موضوع قضية فلسطين، أولى القبلتين وثالث الحرمين واستطرد إلى الصلة بين الإسلام والعروبة، وأن القيادة لم تستطع أن تستخلص هذه الصلة العميقة، وأن العرب لم يستفيدوا من الطاقة الإسلامية في مقاومتهم الاستعمار والصهيونية، ثم أشار بنوع من التفصيل إلى ما يشبه البرنامج السياسي، بدءاً بالإيمان بالله والتخلق بالقيم الإنسانية، والاعتزاز بالإسلام عقيدة وشريعة وحضارة ونظام حياة، ثم الإشارة إلى الجوانب التعليمية والاجتماعية وما يتعلق بالتنمية الاقتصادية والعدالة وتقريب الفوارق.

ثم أشار إلى الجوانب الدستورية بحسبان أن الإمامة منصب ديني وسياسي معًا والاختيار يرد بالبيعة والرضا، والمختار يخضع لرقابة الشعب وحق المواطن في الحرية التي هي خلاصة من كل سيطرة تتحكم في تفكيره أو وجدانه أو حركته دون اتباع الشهوات وإطلاق الغرائز السفلى. وبالنسبة لغير المسلمين ذكر أن يكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم "إلا ما اقتضته ظروف دولة أيدلوجية تقوم على أساس فكرة الإسلام"، ثم أشار إلى السياسة الخارجية وأن المسلمين أمة واحدة، ووجوب مناصرة حركات التحرير، انطلاقًا من الفكرة الإسلامية التي تفرض استبعاد الإنسان للإنسان" "أيًّا كان دينه وجنسه"، ثم أشار إلى ضرورة وضع شروط ثقافية ودينية وخلقية للمرشحين للمجالس النيابية وسائر المناصب حتى لا توضع قيادة الأمة في أيدي الجهلة أو الملاحدة أو الفسقة".

ونحن طبعًا لا نناقش مجمل هذه البنود الآن ولا تفاصيلها، بل إنني لم أكن عند قراءتي الأولى للكتاب في مناخ المناقشة لتفاصيل البرامج السياسية والاجتماعية، وما يمكن إقراره وما قد يختلف عليه وما قد يثير التحفظ والحوار؛ لأن الأمر لم يكن أبدًا أمر تفاصيل وجزئيات نقاش، إنما الأمر كان أمر حسم للموقف العام من تيار فكري عام، وهو أمر اهتمام بما يمكن أن ينبني من جسور بين التيارات الوطنية، وأمر إنشاء للتيار العام السياسي الأساسي في بلادنا، وبحث لمكونات هذا التيار، فكان الأمر أمرًا بعيد الأثر عميق الدلالة، وهو يتعلق بإقامة التوازن في حياتنا العقدية الحضارية الثقافية والسياسية الاجتماعية، وهو يتعلق بنطاق ما تجتمع عليه الأمة، وتدين به قوى التمسك بين جماعاتها وهيئاتها وأفرادها، وهو يتعلق بالواجهة التاريخية العامة لها بتحديد من تواجه ومن تؤازر وأين تقف وإلى أين تسير.

إن فضيلة الأستاذ الجليل، بهذه الجهود المعمقة في هذه الفترة المهمة التي تعينت عندها مفارق الطرق بين قوى الأمة وعناصرها الفاعلة الوطنية، قد بنى من ناحية الشاطئ الإسلامي رؤوس الجسور للالتقاء والتلاحم، بناها مع غيره من ذوي الفكر والرأي والغيرة على أساس صلب وبدعامات فكرية وثقافية وتأسيسية باقية إن شاء الله.

لذلك وجدتني عند نهاية قراءتي وقتها لهذا الكتاب الثاني في صيف 1977، وجدتني عند آخر كلمة من كلمات الكتاب، قد وقعت بالقلم الرصاص بعبارة (الحمد لله) نقولها عند الشبع والارتواء، ونقولها عند الاكتفاء. الحمد الله.

ــــــــــــ

* نقلاً عن موقع إسلام أونلاين – نشرت هذه المادة في 21/4/2001