د. يوسف القرضاوي

الناس صنفان: صنف مؤمن ملتزم، فهو يهتدي بهدى الله تبارك وتعالى، ورضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبالقرآن إماماً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً.

وهو يعرف مرجعه الذي يرجع إليه، ومصدره الذي يستند إليه، كلما نزلت به نازلة، وكلما وقعت له واقعة يعود إلى كتاب الله وسنة رسول الله، يسألهما فيجد الجواب واضحاً) قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) آل عمران: 32، و(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) آل عمران: 31، و (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) الأحزاب:36

فإذا أمر الله بأمر يجب أن يتبع، وإذا نهى الله عن أمر يجب أن يجتنب، وليس هناك خيار للإنسان المؤمن بعد أن عقد مع الله عقد الإيمان. فهذا العقد له موجبه ومقتضاه أن ينزل على حكم الله تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم.

وقد أقسم الله على ذلك، ونفى الإيمان عمن تردد في قبول حكم الله ورسوله بقوله تعالى (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما) النساء: 65

فمقتضى الإيمان التسليم بما حكم به الله ورسوله (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً. وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً) النساء: 60-61

فهذا يدل على أن إيمانهم مدخول ومغشوش، وليس إيماناً صحيحاً. فالمؤمن الصحيح إذا دعي إلى حكم الله ورسوله قال (سمعنا وأطعنا) ، (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله. وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) البقرة: 285.

أما الإنسان المنافق أو ضعيف الإيمان أو مغشوش الإيمان فهو الذي يأخذ من الأحكام، ومن النصوص الشرعية ما يتفق مع هواه، يقبل البعض ويرفض البعض، يقبل قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) البقرة : 183، ويرفض قبلها بآيات قوله تعالى) ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى(البقرة 178، ويقول إن الصيام من العبادات أما القصاص فهذا من أمور التشريع الجنائي أو هذا من حق المجتمع والعقل الإنساني. ما الفرق بين (كتب عليكم الصيام) و (كتب عليكم القصاص) أو بعد ذلك (كتب عليكم القتال وهو كره لكم) ؟ .

إن المسلم يأخذ أمر الله كله، ولا يجوز أن يأخذ قوله تعالى (أقيموا الصلاة) ولا يأخذ قوله تعالى (آتوا الزكاة) فيقول الزكاة هذه من الأمور المالية والاقتصادية، لا دخل للدين فيها. أليس الله هو الذي أمرك بالزكاة كما أمرك بالصلاة؟

وبعض الناس يأخذ قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) المائدة : 6، ولا يأخذ قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) البقرة: 278.

يقول هذه نقرة وتلك نقرة أخرى. لا .. فالإيمان لا يتجزأ، وإن كنت مؤمناً حقاً فلابد أن تأخذ الإسلام كله، ولابد أن تأخذ النصوص كلها، ولا تكون مثل بني إسرائيل الذين أخذوا بعض أحكام التوراة وأعرضوا عن بعض الأحكام الأخرى، فوبخهم الله تعالى بقوله عز وجل (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب) البقرة:85.

فلا ينبغي أن نحذو حذو بني إسرائيل في أن نأخذ بعض الكتاب ونترك البعض الآخر. والله تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل إليك) المائدة 49.

فلا يجوز أبداً في عرف المؤمن أن يأخذ ببعض الكتاب ويترك البعض، لا يجوز للمسلمة أن تقول: أؤدي الصلوات الخمس أما مسألة الحجاب فأنا حرة فيها. كيف تكون حرة؟ ألم يقل الله تعالى (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها. وليضربن بخمرهن على جيوبهن) النور 31. كيف تأخذين بعض الكتاب وتتركين آيات أخرى؟ والله تعالى يقول أيضاً (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) الأحزاب 59.

هذا هو الفصام النقي أو الشخصية المنفصمة أو المزدوجة التي تتعامل مع الله في مجال، وتعرض عن الله في مجال آخر حيث نجد إنساناً في المسجد مصلياً فإذا خرج من المسجد وجدناه مرابياً أو وجدناه سكيراً أو وجدناه يأكل أموال الناس بالباطل، أو وجدناه يظلم عماله وموظفيه. ولعله يذهب في كل رمضان ليؤدي العمرة ويمكث في المسجد الحرام وهو من الظلمة الذين يبغون في الأرض بغير الحق، ويأكلون عرق العمال بالباطل. هذه هي الازدواجية المرفوضة.

فعندما لا يأخذ الإنسان من القرآن أو من السنة أو من الشرع إلا ما كان موافقاً لهواه ومصلحته، فهذا شأن المنافقين الذين حدثنا الله تعالى عنهم فقال (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين) النور 47، و (إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون. وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين. أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون. إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون) النور: 48-50

هذا هو شأن المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله أن يقولوا سمعنا وأطعنا، دون تلعثم، ودون تردد . هذا هو منطق الإيمان والانقياد والإذعان لما أمر الله به ورسوله.

أما أن ينتقي الإنسان من الإسلام ما يحلو له ويرفض ما لا يروقه فهذا ليس من مقتضى الإيمان الحق في شيء إنما هو شأن المنافقين الذين لا يأخذون إلا ما وافق هواهم، وما عارضه فهو مرفوض. نسأل الله أن يرزقنا الإيمان وأن يعصمنا من النفاق.