د.يوسف القرضاوي

للعمل الخيري في الإسلام خصائص تميزه عن غيره من أعمال الخير في الديانات والفلسفات الأخرى، وهذه الخصائص هي:

أولًا: الشمول.

ثانيًا: التنوع.

ثالثًا: الاستمرار.

رابعًا: قوة الحافز.

خامسًا: خلوص العمل الخيري.

أولًا: الشمول، أو: لمَن يقدَّم الخير؟

يقدِّم المسلم الخير والعون لكلِّ مَن هو في حاجة إليه، سواء كان قريبًا أم بعيدًا، صديقًا أم عدوًا، مسلمًا أم كافرًا، إنسانًا أم حيوانًا. فالمسلم لا يقصُر خيره وبرَّه على أقاربه وذوي رَحِمه، أو عَصَبته وأهل بلده، وإن كان الإسلام يوصي بالأقربين أكثر من غيرهم، كما قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (البقرة:215)، وقال: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ} (البلد:11-15)،  ويقول الرسول الكريم: "الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصِلة"(1).

ومع هذا يرى الإسلام أن للغرباء والأباعد حقوقا أيضًا، بحكم إسلامهم إن كانوا مسلمين، وبحكم إنسانيتهم إن لم يكونوا مسلمين. وقد ذكر الله في آية الحقوق العشرة الوصية بالجيران فقال: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} (النساء:36)، أي البعيد.

ولا يُقصِر المسلم خيره وإحسانه على أصدقائه وأحبابه، ويحرم منه خصومه وأعداءه، فالمطلوب أن يعمَّ الخير الجميع، وإذا كان القرآن الكريم نهانا أن يحملنا بُغض قوم على أن لا نعدل معهم(2)؛ فكذلك، لا ينبغي أن تحملنا عداوة قوم أو بُغضهم على أن لا نرحمهم ولا نبرَّهم ولا نُحسن إليهم، فإن المؤمن إنسان رحيم بكلِّ خلق الله، وإن عادَوه وآذَوه. وفي الحديث: "لا يدخل الجنة إلا رحيم". قالوا: يا رسول الله، كلُّنا رحيم. قال: "إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكن رحمة العامة"(3).

ولا يكفُّ المسلم خيره وبرَّه عمَّن يخالفه في الدين، بحيث لا يقدِّم العون إلا لمسلم، ولا يجود بالخير إلا على مسلم، كأن الكافر لا يستحقُّ الرحمة! وهذا خطأ، فإن الكافر يعيش في ظلِّ ملك الله، ويأكل من رزقه، ولا يُحرم من برِّه ورحمته.

وهذا ما وجَّه إليه القرآن في التعامل مع غير المسلمين: أن نبرُّهم ونقسط إليهم ما داموا مسالمين لنا، ولم يظاهروا عدوا علينا، قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الممتحنة:8).

وقد قال تعالى في وصف الأبرار من عباده: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} (الإنسان:8)، وقد كان الأسير في ذلك الوقت من المشركين(4)، ولكن الله عزَّ وجلَّ مدح الذين يطعمونه في أَسره، ولا يَدَعونه يعاني الجوع أو العطش أو غيرهما. والمفروض أن الأسير كان إنسانًا محاربًا ووقع في الأَسر، ولكن هذا لا يحرمه حقَّه في الطعام والشراب وحسن المعاملة التي تليق بالآدمي المكرَّم.

ولا يقف المسلم بخيره وإحسانه عند الإنسان المكرَّم؛ بل يتجاوزه إلى الحيوان الأعجم، فهو يرحم الأنعام التي يستخدمها في الحرث والسقي والدرِّ والنسل، ويرحم الدواجن التي يقتنيها في البيت ليأكل من بيضها ولحمها، ويرحم الحيوانات الأخرى مثل الكلاب والقطط، وفي الحديث: "اتقوا الله في البهائم العجماوات، فاركبوها صالحة، وكلوها صالحة"(5).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينا رجل يمشي فاشتدَّ عليه العطش، فنزل بئرًا فشرب منها، ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثلُ الذي بلغ بي، فملأ خفَّه، ثم أمسكه بفِيه، ثم رَقِيَ، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له". قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ قال: "في كلِّ كبد رطبة أجر"[6]. ورطوبة الكبد: كناية عن الحياة، أي: في كلِّ كائن حيٍّ تحسن إليه أجر عند الله.

ثانيًا: التَّنوُّع

لا يأخذ فعل الخير لدى الفرد المسلم، ولا الجماعة المسلمة: صورة واحدة، ولا نمطًا واحدًا، بل تتعدَّد صُوره، وتتنوَّع أنماطه، بحسب حاجات الناس ومطالبهم، وبحسب قدرة فاعل الخير وإمكاناته. فقد يعمل على تحقيق المطالب المادية للإنسان، من مأكل ومشرب وملبس ومسكن وعلاج، وقد يعمل على تحقيق المطالب المعنوية للإنسان، من تعليم وثقافة وفقه في الدين.

ومثل ذلك: المطالب النفسية للإنسان، مثل إدخال السرور عليه، ومسح دمعته، ومعالجة قلقه وهمِّه، وملء نفسه بالتوكُّل والثِّقة بالله، ومطاردة شبح اليأس من قلبه. وقد يمنح المسلم الخير للفرد، أو يمنحه للأسرة، أو يمنحه للمجتمع. وقد يكون الخير في صورة أشياء عينيَّة، أو في صورة نقود. وقد يعطي فاعل الخير الشيء تبرُّعًا خالصًا، وقد يعطيه إعارة ينتفع بعينه مدَّة من الزمن ثم يردُّ العين لصاحبها، أو يقرضه قرضًا يستهلكه وينتفع به، ثم يردُّ بدله.

وقد يكون الخير في صورة صدقة عادية تُنفَق في الحال على مستحقِّها، وقد يكون في صورة صدقة جارية، أي دائمة متجدِّدة، وهي صورة "الوقف الخيري" الذي يحبَّس أصله وتسبَّل ثمرته للخير. وقد أجاز بعض الفقهاء وقف النقود، وأنا أُرجِّح هذا؛ تشجيعًا على البرِّ، وتوسيعًا لدائرة الخير. ولا مانع أن يكون هذا الوقف محدودًا بزمن، مثل أن يقف مليون دينار لمدَّة عشر سنوات أو عشرين.

وقد يكون الخير في صورة إسعاف وقتي، ومساعدة فردية تسدُّ الحاجة الفورية، وقد يكون في صورة مشروع جماعي، يحلُّ مشكلة جماعة من الناس، كأهل قرية، أو أهل حِرفة، أو نحو ذلك. كأن يبنى لهم من أموال الزكاة مصنع يملَّك لهم بالاشتراك، يشتغلون فيه، أو مزرعة مشتركة، يُصلحون أرضها، ويتعهَّدون زرعها وشجرها.

وقد يكون الخير بإعطاء ذوي الحاجة أموالًا يملكونها وينفقونها على أنفسهم، وقد يكون بمنح قروض لهم تُعينهم على الكسب، ثم يردُّونها من ثمرة كسبهم على سنين يتَّفق عليها، مع مراعاة التيسير عليهم، والتخفيف عنهم.

وقد يكون الخير بمنح جزء من المال لأهل الحاجة، قلَّ أو كثر، وقد يكون بمنح جزء من الوقت والجهد من ذوي الخبرة المعيَّنة، كأن يعطِي الطبيب ساعات معينة كلَّ أسبوع، ليقابل المرضى في المستشفى أو المستوصف الخيري، ويقوم بفحصهم أو علاجهم بغير مقابل؛ إلا ابتغاء وجه الله، أو بمقابل يسير.

ومثل الطبيب: أصحاب الاختصاصات المختلفة التي يفتقر إليها الناس في شتَّى المجالات. وربما كان التبرُّع بالجهد والوقت من بعض الناس: أهمَّ وأعلى من التبرُّع بالمال.

على أن التنوُّع هنا محمود ومحبوب، فكلٌّ يتبرَّع ممَّا عنده، فهذا يجود بما عنده من مال، وهذا يجود بما عنده من علم وخبرة وجهد. وبهذا تتكامل جهود أهل الخير في الأمة.

ومن روائع التوجيه النبوي: أنه صلى الله عليه وسلم حين أمر المسلمين بالصدقة، وفرضها عليهم في كلِّ يوم، بل فرضها على كلِّ مفصل من مفاصل جسمهم، أو عظم من عظامه، لم يقصر الصدقة الواجبة على الصدقة المالية، فيحتكرها الموسرون وأرباب المال؛ بل نوَّع في هذه الصدقة تنويعًا يشمل من أنواع الخير ما لا يخطر ببال الكثيرين.

فهناك الصدقة الاجتماعية: مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإصلاح بين المتخاصمين، فإن "فساد ذات البين هي الحالقة"(7).

وهناك الصدقة النفسية: كقوله عليه السلام: "الكلمة الطيبة صدقة"(8)، "وتبسُّمك في وجه أخيك صدقة"(9).

وهناك الصدقة الإنسانية: التي تتعلَّق بالضعفاء من البشر، كأن تعين الرجل الكَلَّ الضعيف، فتركبه على دابَّته، أو تحمل متاعه عليها، أو ترشد الإنسان الغريب التائه في الطريق.

وهناك الصدقة التي لا تتعلَّق بشخص معين، ولكن تتعلَّق بعموم الناس، مثل "إماطة الأذى عن الطريق"، فإزالة كلِّ ما يعوق الناس أو يؤذيهم من الطريق الذي يسلكونه؛ هو عبادة وصدقة يتقرَّب بها إلى الله: من عظم أو شوك أو حجارة أو زجاج مكسور، أو قشور الفاكهة كالموز، أو غير ذلك من كلِّ ما يؤذي الناس، ولا سيَّما الضعفاء منهم.

وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصدقة المطلوبة من كلِّ مسلم في كلِّ يوم عن نفسه، بل عن كلِّ مفصل من مفاصله؛ تتَّسع لكلِّ خير يصل نفعه إلى إنسان، وحيوان، أو إلى البيئة نفسها، وهو مأجور عليه عند الله تعالى.

وحسبنا أن نذكر هنا: حديث أبي ذر رضي الله عنه، الذي أورده الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب قال: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا ينجِّي العبد من النار؟

قال: "الإيمان بالله".

قلتُ: يا نبي الله، مع الإيمان عمل؟

قال: "أن ترضخ مما خوَّلك الله، وترضخ مما رزقك الله".

قلتُ: يا نبي الله، فإن كان فقيرًا لا يجد ما يرضخ؟

قال: "يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر".

قلتُ: أرأيتَ إن كان لا يستطيع أن يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر؟

قال: "فليعِن الأخرق". (أي الذي لا يحسن صنعة).

قلتُ: يا رسول الله، أرأيتَ إن كان لا يحسن أن يصنع؟

قال: "فليعِن مظلومًا".

قلتُ: يا نبي الله، أرأيتَ إن كان ضعيفًا لا يستطيع أن يعين مظلومًا؟

قال: "ما تريد أن تترك لصاحبك من خير! ليمسك أذاه عن الناس".

قلتُ: يا رسول الله، أرأيتَ إن فعل هذا يدخله الجنة؟

قال: "ما من عبد مؤمن يصيب خَصلة من هذه الخصال إلا أخذت بيده حتى تدخله الجنة"(10).

ثالثًا: الاستمرار

ومن خصائص العمل الخيري لدى المسلمين: هو الاستمرار. لأن فعل الخير عند المسلم، إما فريضة دوريَّة يلزمه أداؤها بحكم إيمانه وإسلامه، مثل زكاة المال الواجبة في كلِّ حَول، أو عند كلِّ حصاد: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (الأنعام:141)، أو كزكاة الفطرة الواجبة عند مقدم كلِّ عيد للفطر من رمضان.

أو فريضة غير دورية، مثل كلِّ حقٍّ ماليٍّ يجب بوجوب المقتضى له، مثل نفقة القريب على قريبة المعسر، لما توجبه صِلة الرحم، وحقوق أولي القربى، ومثل إطعام جاره إذا جاع وهو بجانبه، فإنه "ليس بمؤمن مَن بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع"(11).

ومثل قِرى الضيف، إذا لم يكن له مكان ينزل به، أو لم يكن لديه مال، وهو غريب الدار. ومثل إغاثة المضطَّر، وإخراجه من ضرورته. فهذه كلُّها واجبات يؤدِّيها المسلم، إبراء لذمَّته، وإرضاء لربه.

وهناك مساحة رحبة لفعل الخير والتسابق إليه في حياة المسلم، في غير الفرائض والواجبات اللازمة والملزمة، وذلك في دائرة التطوُّع بالخير لوجه الله تعالى. كما قال عزَّ وجلَّ في الثناء على عباده الأبرار المستحقِّين لجنَّته ورضوانه: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} (الإنسان:8-9).

فالخير وفعله ونيَّته: جزء من حياة المسلم. فإن استطاع فعل الخير لم يدَّخر وُسعًا، وإن لم يستطع نواه في قلبه، ودعا غيره إليه، ودلَّه عليه، ليكون له مثل أجره.

وقد علَّم الرسول الكريم كلَّ مسلم: أن يتصدَّق بصدقة كلَّ يوم تطلع فيه الشمس عن نفسه، بل عن كلِّ عضو من أعضائه أو مفصل من مفاصله. كما في الحديث الصحيح: "على كلِّ مسلم صدقة". فقالوا: يا نبي الله، فمَن لم يجد؟ قال: "يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدَّق". قالوا: فإن لم يجد؟ قال: "يعين ذا الحاجة الملهوف". قالوا: فإن لم يجد؟ قال: "فليعمل بالمعروف وليمسك عن الشرِّ، فإنها له صدقة"(12).

وفي الحديث الآخر: "كلُّ سُلاَمى من الناس عليه صدقة، كلُّ يوم تطلع فيه الشمس: يعدل (يصلح) بين الاثنين صدقة، ويعين الرجل في دابَّته، فيحمله عليها، أو يرفع عليها متاعه: صدقة، والكلمة الطيبة: صدقة... ويميط الأذى عن الطريق صدقة"(13).

ومن دواعي استمرار المسلم في عمل الخير وتصدُّقه عن نفسه: أن الله تعالى يثيبه على كلِّ عمل يقوم به، وإن احتقره في نفسه، فقد قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} (الزلزلة:7)، فكان بعض الصحابة يتصدَّق بشِقِّ التمرة أو بحبَّة العنب، ويقول: كم في هذه من ذرَّات!

وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليَقِ أحدكم وجهه النار ولو بشِقِّ تمرة"(14)، وعن عُقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلُّ امرئ في ظلِّ صدقته حتى يُقضى بين الناس". قال يزيد: فكان أبو الخير مَرثَد (راوي الحديث) لا يخطئه يوم إلا تصدَّق فيه بشيء، ولو بكعكة أو بصلة(15).

وفي رواية لابن خزيمة أيضًا عن يزيد بن أبي حَبيب، عن مَرثَد بن أبي عبد الله اليَزَني: أنه كان أول أهل مصر يروح إلى المسجد، وما رأيتُه داخلا المسجد قط إلا وفي كُمِّه صدقة: إما فلوس، وإما خبز، وإما قمح، قال: حتى ربما رأيتُ البصل يحمله. قال: فأقول: يا أبا الخير، إن هذا ينتن ثيابك. قال: فيقول: يا ابن أبي حبيب، أما إني لم أجد في البيت شيئًا أتصدَّق به غيره؛ إنه حدثني رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ظلُّ المؤمن يوم القيامة صدقته"(16).

رابعًا: قوة الحوافز

ومن خصائص عمل الخير عند المسلمين أفرادًا وجماعات: أن وراءه حوافز قويَّة، وبواعث حيَّة، تغري بحبِّه، وتدفع إلى فعله، وتبعث على الدعوة إليه، والاستمرار فيه، والتسابق في تحقيقه، وإنجاز متطلَّباته.

1- ابتغاء مرضاة الله:

وأول هذه الحوافز: ابتغاء مرضاة الله تعالى، كما قال الله تعالى في وصف الأبرار: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} (الإنسان:8-9).

وكما قال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (البقرة:265).

{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة:261).

ومما يدخل في ابتغاء مرضاة الله: طلب الجنة وما فيها من ثواب ونعيم وصفه الله تعالى في الحديث القدسي بقوله: "أعددتُ لعبادي الصالحين في الجنَّة: ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، اقرأوا إن شئتم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة:17)"(17).

والجنَّة ليست دار نعيم حسِّي فقط، بل هي دار الرضوان الأكبر من الله سبحانه، كما قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة:72).

وهذا الحافز الرُّوحي القوي هو الذي دفع كثيرًا من الصحابة حين كان ينزل عليهم القرآن، يحثُّهم على الخير، فسرعان ما تستجيب له قلوبهم، وتتحرَّك إرادتهم بالعمل والتنفيذ، لا يحول دون ذلك حبُّ الدنيا أو شحُّ الأنفس؛ لأن ثواب الله أعظم، وما عند الله خير وأبقى.

عن أنس رضي الله عنه: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالًا من نخل، وكان أحبُّ أمواله إليه "بَيرُحَاء"، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيِّب، قال أنس: فلما نزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران:92)؛ قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن الله تبارك وتعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، وإن أحبَّ أموالي إليَّ "بَيرُحَاء"، وإنها صدقة أرجو برَّها وذُخرَها عند الله، فضعها يا رسول الله، حيث أراك الله. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بَخٍ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح"(18).

2- الحوافز الأخلاقية:

وهناك حوافز أخلاقية يحتفي بها القرآن، كأن يوصف المنفق في سبيل الله بأنه من المتقين، كما في أوائل سورة البقرة: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (البقرة:2-3).

أو من المؤمنين حقًّا، كما في أوائل سورة الأنفال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (الأنفال:3-4).

أو من أولي الألباب، كما في سورة الرعد: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ... وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً} (الرعد:19-22)، أو من المحسنين، كما في سورة الذاريات: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ  ...  وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (الذاريات:17-19).

أو من الأبرار، كما في سورة الإنسان: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} (الإنسان:8)، أو من {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} (البلد:17)، كما في سورة البلد.

3- البركة والإخلاف في الدنيا:

ومن هذه الحوافز: ما يتعلَّق بهذه الحياة الدنيا، فممَّا لا ريب فيه: أن الحوافز المتعلِّقة بالدار الآخرة وحسن مثوبة الله فيها، هي الحوافز الأقوى والأكثر تأثيرًا، ولكن لأن الإسلام دين يجمع الحسنتين: حسنة الدنيا، وحسنة الآخرة: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ} (البقرة:201)،  جعل هناك حوافز للمؤمن في هذه الدار، تحفزه إلى فعل الخير، وإعانة الضعفاء والمحتاجين.

وذلك مثل "البركة" التي يحسُّ بها تملأ حياته في نفسه أو أهله وماله، وإخلاف الله تعالى عليه ما أنفقه بما هو خير منه وأزكى أضعافا مضاعفة. يقول تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (الأعراف:96)، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} (الطلاق:2-3)، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} (الطلاق:4).

ويقول عزَّ وجلَّ: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (سـبأ:39)، {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} (البقرة:272)، وهذا يصدق على الدنيا، كما يصدق على الآخرة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من يوم يصبح العباد فيه؛ إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعطِ منفقا خَلَفًا، اللهم أعطِ ممسكا تَلَفًا"(19).

والإخلاف من الله على المنفق في الخير قد يكون في صحَّة جسمه، أو في سكينة نفسه، أو في موافقة أهله، أو في استقامة ولده، أو في بركة ماله، بحيث يحيا حياة طيبة، كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل:97)، ولا يكون كالذين قال الله فيهم: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} (طـه:124).

خامسًا: الخلوص للخير

ومن خصائص العمل الخيري في الإسلام: أنه لا يُقبَل عند الله ما لم يكن خالصًا للخير، لا تشوبه شائبة أو تلوِّثه؛ وذلك يتحقق بأن تكون بواعثه دينية وأخلاقية، لا دنيوية ولا مادية، فلا يُقبَل - في ميزان الإسلام - الخير من امرئ جعله وسيلة لخداع الناس، أو كسب أصواتهم في الانتخابات، كما نرى المرشَّحين في بعض البلاد العربية، يقومون ببعض أعمال الخير، لا لرغبة حقيقية في فعله، ولكن لجذبهم إلى جانبهم!

ولا يجوز في الإسلام أن يصل إلى الخير بطريق الشرِّ، فإن الإسلام يرى كلَّ الأشياء والتصرُّفات بالمعيار الأخلاقي، ولا يفصل بين الأخلاق والحياة في شأن من الشؤون؛ لهذا لا يقبل من المسلم: أن يقبل الرشوة، أو يحتكر السلعة، أو يغلي في ثمنها على المستهلكين المستضعفين، ليقيم من أرباحها في النهاية مشروعًا خيريًا.

إن الإسلام يرفض هذه الطريق، ويقول رسوله الكريم: "إن الله طيِّب لا يقبل إلا طيِّبا"(20). فلا يحبِّذ الكسب الحرام الذي ينوي صاحبه به الصدقة؛ لأن النيَّة لا تؤثِّر في الحرام، فتجعله حلالًا، أو مستحبًّا.

وفي حديث ابن مسعود: "لا يكسب عبد مالًا من حرام، فيتصدَّق به، فيُقبل منه، وينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتركه خلف ظهره؛ إلا كان زاده إلى النار. إن الله لا يمحو السيء بالسيء، ولكن يمحو السيء بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث"(21).

.....

- المصدر: «أصول العمل الخيري في الإسلام» لسماحة الشيخ.

(1) رواه أحمد، وقال مخرجوه: صحيح، والترمذي وقال: حسن، والنسائي وابن أبي شيبة وابن حبان والحاكم والطبراني في الكبير والبيهقي والشعب والكبرى.

(2) إشارة إلى قوله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة:8).

(3) رواه عبد بن حميد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي عن أبي موسى الأشعري.

(4) رواه أحمد، وقال مخرجوه: إسناده صحيح، وأبو داود، والترمذي، وقال: حديث صحيح، وابن حبان والبيهقي في الشعب.

(5) متفق عليه: رواه البخاري ومسلم وأحمد عن أبي هريرة.

(6) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب، وابن حبان، وقال الأرناؤوط: صحيح، والطبراني في الأوسط. انظر: المنتقى (1610).

(7) رواه الطبراني في الكبير، وقال الهيثمي: رجال ثقات، وابن حبان، انظر: المنتقى (452). والحديث يدل على أن على المسلم زكاة اجتماعية يبذلها للمجتمع حوله من ماله، أو من نفسه معطيًا أو آمرًا بمعروف، أو معلما لأخرق، أو معينًا لمظلوم... فإن لم يستطع أن يقدم خدمة لمن حوله، فليكف أذاه عن الخلق، فإنه له صدقة.

(8) رواه أبو يعلى والطبراني في الكبير وقال الهيثمي والمنذري: رواته ثقات، ورواه الحاكم من حديث عائشة. انظر المنتقى (1531).

(9) متفق عليه: رواه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي.

(10) سبق تخريجه.

(11) رواه أحمد وقال مخرجوه: صحيح لغيره وهذا إسناد ضعيف، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وقال المنذري: إسناده صحيح. انظر: المنتقى (466).

(12) رواه أحمد، وقال مخرجوه: إسناده صحيح رجاله ثقات، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وأورد الهيثمي القرة المرفوعة منه عن عقبة، ثم قال: وفي رواية عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: وكان يزيد لا يخطئه يوم...إلخ، فجعل هذا من عمل يزيد لا من عمل مرثد (3/ 110)، وابن حبان وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح. انظر: المنتقى (449).

(13) رواه أحمد، وقال مخرجو: صحيح، وابن خزيمة والطبراني في الكبير والبيهقي في الشعب. انظر المنتقى (450).

(14) رواه أحمد، وقال مخرجوه: إسناده صحيح رجاله ثقات، وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان والطبراني في الكبير

(15) متفق عليه: رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود.

(16) متفق عليه: رواه البخاري ومسلم

(17) متفق عليه: رواه البخاري ومسلم.

(18) متفق عليه: رواه البخاري ومسلم.

(19) رواه ابن حبان وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح، والطبراني. انظر المنتقى (475)

(20) متفق عليه: رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه.

(21) رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح، وابن ماجه وابن أبي شيبة والبزار والدارمي وابن حبان.