د. عبد المنعم أبو الفتوح

تدين الصحوة الإسلامية في السبعينيات بالفضل لعدد من الشيوخ والرواد في مقدمتهم الشيخ محمد الغزالي رحمه الله والأستاذ عمر التلمساني والشيخ الجليل يوسف القرضاوي أمد الله في عمره ... تلك الصحوة التي تعد بحق الإحياء الثاني لما بدأه المصلحون الأولون مثل محمد بن عبد الوهاب والمهدي في السودان، وابن باديس وحسن البنا والسباعي والمودودي، وبطبيعة الحال نتيجة لجهود الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وغيرهم.

الصحوة.. صحوة الشباب

وإذا كان الدكتور العلامة الشيخ القرضاوي قد ذكر أن (شباب الجامعة هم الذين بدؤوا بالصحوة، وهم الذين قادوها، ولا يستطيع أحد أن يدعي أنه قام بالصحوة، لا الإخوان ولا غيرهم، ولكنها كانت انفجارا صنعه الله، بدأت بشباب الجامعات في كليات القمة، وحتى الأزهر تأخر عن هذا، بل وحين بدأت في الأزهر لم تبدأ في الكليات الشرعية وإنما بدأت في كليات القمة أيضاً، فكانت الريادة لهؤلاء الشباب). إلا أن ما لم يذكره الشيخ الجليل هو أن هؤلاء الشباب حين قاموا بصحوتهم – ومن فضل الله علي أن كنت أحدهم – كانوا يتطلعون إلى شيوخ ورواد يشيرون عليهم بالأصوب والأحسن والأسلم، وكان الشيخ القرضاوي هو أحد أهم وأعظم هؤلاء الرواد إن لم يكن أهمهم على الإطلاق. وكانت أعظم إشاراتهم هي الإشارة إلى وسطية الإسلام التي كانت تمثل مدرسة الإخوان المسلمين تجسيدها الفكري والحركي... والذي استطاعت من خلاله الصحوة الإسلامية في السبعينيات أن تتحرك بين الناس وتعبر عن نفسها وعما تحمله من أفكار.

صحوة عقول وأفكار

كانت الصحوة الإسلامية في هذه الفترة صحوة عقول وأفكار يكتنفها بعض الغموض، وصحوة قلوب ومشاعر وحماسة هائلة للدين ، وصحوة اهتمام بقضايا العالم الإسلامي، وصحوة إرادة وعزيمة، صحوة عمل وسلوك مثل القرضاوي لنا فيها مدرسة الوسطية الإسلامية في أجمل معانيها... تلك الوسطية التي تعني الوسط بين النقيضين، التشدد الديني من ناحية والعلمانية الغربية من جهة أخرى.

تعلق وإرتباط بالقرضاوي

ومما دفع أبناء الصحوة الإسلامية إلى التعلق والارتباط بالشيخ القرضاوي هو أنه كان ولا زال نموذجا للعالم المجاهد، المدافع الصلب عما يؤمن به ويراه حقا... يعيش هموم المسلمين وقضاياهم مهما كلفه ذلك من تبعات وردود أفعال ... فالمتعصبون يرفضون أرائه ويعتبرونه (مترخصا)... وإسرائيل وبعض الدوائر الغربية ترى فيه العدو الأول للصهيونية متشددا ومتعصبا ومن أكثر العلماء تحريضا ضد الصهيونية، وكذلك تراه غير مرحب به في بعض الدول العربية والإسلامية، كل هذه المتناقضات تجاهه بين الرفض من التشدد الإسلامي والصهيوني والأمريكي والعربي تؤكد أن هذا الرجل على الطريق الصحيح ويمثل الوسطية التي يرفضها المتعصبون والعلمانيون، وفي المقابل فله في قلوب الملايين من المسلمين في أقطار الأرض كل تقدير واحترام ومحبة.

عالم وكاتب وفقيه

القرضاوي عالم موسوعي فهو الخطيب والشاعر والكاتب والمجتهد وصاحب الفتوى، تجاوزت مؤلفاته أكثر من مائة كتاب غطت موضوعات إسلامية عديدة أهمها طريقة الدعوة إلى الله. وتحت هذا العنوان عشرات الموضوعات... وكذلك في الاقتصاد وكتابه عن الزكاة الذي حصل به على درجة الدكتوراه أحد أهم المراجع المتخصصة في جوانب المال والأعمال وتوصف بأنها أفضل ما كتب في تاريخ الإسلام كله في هذا المجال، وله كتابات كذلك في العدالة الاجتماعية والنظام السياسي في الإسلام.

القرضاوي فقيها مكنه الله من أدوات الاجتهاد بكل مكوناته تمكينا قويا... والوصف قاله لي المستشار طارق البشري... فالشريعة هي تخصصه الأصلي، كذلك هو دراية بعلوم بالسنة النبوية وبرع فيها وكتابه عنها من أوثق ما كتب عن منزلة السنة في التشريع.

أنا أعتبر أن القرضاوي الآن وبحق الناظر القويم لمدرسة الإخوان المسلمين بما تمثله من تاريخ ونهج ومواقف... فهو بفهمه العميق لمعنى الوسطية التي هي عنوان على رأس فكره كما هي بالأحرى عنوان للأمة كلها... وبتقديمه لهذا الفهم شرحا وتأليفا واجتهادا... يتأكد معه الوصف الذي لم أزد فيه على ذكر الحقيقة والواقع في شيء... تعلمنا من القرضاوي أن الإسلام منهج وسط في كل شيء في التصور والاعتقاد والتعبد والتنسك والأخلاق والسلوك والمعاملة والتشريع.

ضد الغلو والتطرف

وهو الطريق الذي سماه الحق تبارك وتعالى الصراط المستقيم والمنهج المتميز عن طريق أصحاب الديانات والفلسفات الأخرى من المغضوب عليهم ومن الضالين الذين لا تخلو مناهجهم من غلو أو تفريط. (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) (البقرة : من الآية 143)، فأمتنا أمة العدل والاعتدال والتوسط في كل شيء... والنصوص الإسلامية تدعو إلى الاعتدال والتوسط على طول الخط بوضوح شديد وتحذر منه بشدة.

النبي صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من قبلكم بالغلو في الدين، ومن قبلنا هم أهل الأديان السابقة، الذين خاطبهم القرآن بقوله (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل) (المائدة: 77)، فنهانا أن نغلو كما غلوا.

تعلمنا من الشيخ الجليل القرضاوي أن الغلو قد يبدأ صغيرا ثم تتسع دائرته، ويتطاير شرره، حيث نقرأ معه شرحه وفهمه لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم حين وصل المزدلفة في حجة الوداع وقال لابن عباس : هلم القط لي – أي حصيات ليرمي بها في منى – قال: فلقطت له حصيات من حصى الخزف، فلما وضعهم في يده، قال: نعم بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين... في إشارة إلى أنه قد يأتي من يفهم أنه كلما كانت الحصوات كبيرة كان هذا أدل على عمق الإتباع... فيدخل عليهم الغلو شيئا فشيئا، ولهذا لزم التحذير... كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (هلك المتنطعون) قالها ثلاثاً. أولئك الذين وصفهم العلماء بالمتعمقين المجاوزين الحدود في أقوالهم وأفعالهم.

سمعنا وتعلمنا في مدرسة الإخوان المسلمين شرح القرضاوي لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم).

فيقول: قاوم النبي صلى الله عليه وسلم كل اتجاه ينزع إلى الغلو في التدين وأنكر على من بالغ من أصحابه في التعبد والتقشف مبالغة تخرجه عن حد الاعتدال الذي جاء به الإسلام ووازن به بين الروحية والمادية ووفق بفضله بين الدين والدنيا، وبين حظ النفس من الحياة وحق الرب في العبادة، التي خلق لها الإنسان، وتتزكي بها نفسه ويرقى بها روحيا وماديا، مما ينهض بالجماعة كلها، ويقيمها على أساس من الأخوة والتكافل دون أن يعطل مهمة الإنسان في عمارة الأرض فالصلاة والزكاة والصيام والحج عبادات فردية واجتماعية في نفس الوقت فهي لا تعزل المسلم عن الحياة ولا عن المجتمع بل تزيده ارتباطا به.

ومن هنا نهى الإسلام عن العزلة عن الحياة وطيباتها، والعمل لتنميتها وترقيتها بل إن الإسلام يعتبر الأرض كلها مسجدا كبيرا للمؤمن ويعتبر العمل فيها عبادة وجهادا. جاء بالتوازن في هذا كله (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) (البقرة الآية : 201). وفي الدعاء اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي.

لقد أنكر القرآن، وشدد في إنكاره على أصحاب (النزعات التحريمية) في تحريم الطيبات والزينة التي أخرج الله لعباده، فقال تعالى: ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) (الأعراف: 31). (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) (الأعراف: 32). (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين * وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون) (المائدة: 87-88).

وهاتان الآيتان الأخيرتان تبينان للأمة حقيقة منهج الإسلام وسنة النبي الأكرم في التمتع بالطيبات ومقاومة الغلو... وسنته صلى الله عليه وسلم تعني منهجه في فهم الدين وتطبيقه، وكيف يعامل ربه عز وجل، ويعامل نفسه وأهله والناس من حوله، معطيا كل ذي حق حقه، في توازن واعتدال. وهو الفهم الميسور الذي تحمله دعوة الإخوان ويسيرون به بين الناس داعين مبشرين ميسرين.

هكذا حق لي أن أقول إن الشيخ الجليل يوسف القرضاوي هو ناظر مدرسة الإخوان المسلمين... ولأن الإسلام العظيم علمنا ألا ننسى الفضل بيننا... فنقول للشيخ القرضاوي في هذا الملتقى: إن جيل الإحياء الثاني لجماعة الإخوان المسلمين أو من يسمونهم جيل الصحوة الإسلامية في السبعينيات يشهد ويقر لك بالفضل أن قيضك الله له فتوضح ما غمض، وتشرح ما التبس وتسهل ما صعب ... مستهديا بقول الحق تبارك وتعالى (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) (يوسف: 108).

.........

- كان مقرر لهذه الورقة أن يتم إلقاؤها خلال فعاليات "ملتقى الإمام القرضاوي مع التلاميذ والأصحاب"، والذى عُقد فى العاصمة القطرية الدوحة خلال الفترة من 11-14 يوليو 2007 ، إلا أنه لم يتيسر لصاحبها د. أبو الفتوح الحضور.