عبد الحليم غزالي*

توقفت كثيرا أمام دعوة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي للتوبة ومراجعة أفكاره علي غرار ما فعل تنظيم الجماعة الإسلامية في مصر، فهذا الموقف من رجل بحجم القرضاوي مهم للغاية وسط حالات التباسات كثيرة في العالمين العربي والإسلامي، التباسات مثيرة للفوضي والاضطراب أظن أنها شديدة الخطورة.

ولعل ما فعله الشيخ القرضاوي هو إضاءة تستحق الرصد، لقد قال الرجل كلمة حق يحجم علماء ومثقفون آخرون عن قولها، ولقد كان القرضاوي شديد الوضوح في رسالة التعزية إلي الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في ضحايا حادثي التفجيرين الأخيرين في الجزائر، حيث اعتبر ما حدث جريمة نكراء ووصف هؤلاء الضحايا بأنهم شهداء، ولم يكتف الشيخ الجليل بالإدانة ودعوة مرتكبي الحادثين للتوبة، بل إنه قال بما لا يحتمل التأويل إنه إما أن تفيق هذه القلة الشاردة وتتوب وتنضم إلي شعبها وإما أن تزول وتنقرض كما انقرضت جماعات قبلها دمغ الحق باطلها ومحاها الرشد وفقا لسنة الله في الخلق .

وطرح القرضاوي سؤالا محوريا فيما يتصل بظاهرة العنف المتأسلم، بقوله:  كيف يزعم هؤلاء الذين يسفكون الدماء أنهم إسلاميون ..من أين يستقي هؤلاء أفكارهم السوداء التي تستحل قتل الناس بالجملة والرسول الكريم يحرم أن يشير المسلم إلي أخيه بالسلاح مجرد الإشارة، وقارن القرضاوي الجماعات هذه بالخوارج الذين استحلوا دماء من عداهم من المسلمين وأموالهم، ولعل أبرز ما حملته رسالة القرضاوي حسب فهمي لها الآتي:

أولا: ما يمكنني أن اعتبره فتوي شرعية بتحريم العنف المسلح باسم الإسلام ضد مسلمين أبرياء حتي لو كان ذلك في سياق مواجهة مع نظام أو حكومة، فنحن هنا أمام حالة تمرد ورفض عشوائي تنطوي علي حالة تخبط في التفكير والسلوك.

ثانيا:أن عدم الموافقة علي ممارسات بعض الأنظمة والحكومات يجب ألا يقود لتأييد العنف، ولا يصح القول بأن العنف العشوائي ضد هذه الدولة جائز لأن نظامها ديكتاتوري، أما تلك الموسومة بالديمقراطية فلا يجوز. فنحن أمام رفض جامع مانع للعنف المسلح يجب عدم تسييسه نظرا لخطورته علي الأمم وما يجلبه من فتن واضطرابات أخطر بكثير من أخطاء الحكام التي يصعب الدفاع عن بعضها.

ثالثا:أن هناك دورا مهما لعلماء ورموز الأمة في توضيح الحقائق للمخطئين انطلاقا من الدين والعقل والعرف والعلم، وأن الامتناع عن الجهر به خطيئة لا تغتفر وهو بمثابة تواطؤ علي الجرائم التي ترتكب باسم الإسلام، ذلك أن عدم مواجهة العنف وهو في مرحلة الفكر يقود إلي غوايات للكثيرين من الشبان الجهلاء بالدين المنجرفين بفعل عواطف تولدت عن مشكلات مجتمعية مثل الفقر والحرمان والتهميش .

رابعا:أن العنف العشوائي باسم الحرب علي الأنظمة لا يمكن أن ينتصر، وبالتالي هو في الأغلب يقود لدوائر قتل وقتل مضاد لا تنتهي، وهي إعلان عن حالة فشل وإفلاس للجميع وفي المقدمة من ألبسوا تمردهم ورفضهم ثياب الإسلام .

خامسا: تكتسب رسالة الشيخ القرضاوي دلالة مهمة من كونها موجهة لجماعة بعينها، فهي ليست مجرد نصح أو موقف في المطلق علي غرار ما يفعل بعض العلماء والمثقفين، وبالمناسبة هذه ظاهرة عربية تبعث علي الضيق فالتعميم يقودنا لظاهرة الكل ينتقد الكل و الكل يتباكي علي الكل ويتوه المخطئون في عواصف الكلام.

سادسا: تخصيص الشيخ القرضاوي لجماعة معينة في الإدانة والرفض يجل التعميم منطقيا، فعلي سبيل المثال ما الفرق بين تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وتنظيم الإمارة الإسلامية في العراق عندما يترك أعضاؤه مقاومة الاحتلال ويتفرغون لقتل الشيعة بل والسنة عشوائيا ضمن الحرب علي الحكومة العراقية؟

وما الفرق بين قاعدة المغرب وتنظيم فتح الإسلام في مخيم نهر البارد الذي ضم فلسطينيين وعربا من دول أخري، وادعي زعيمه المدعو شاكر العبسي الذي زعم أنه يقاتل الجيش اللبناني من أجل رفع راية الإسلام؟!

سابعا:أبدي الشيخ القرضاوي دعما واضحا لمشروع الجماعة الإسلامية في مصر التي نبذت العنف بعد مراجعة فكرية عاقلة لتجربتها في الصراع المسلح مع الدولة وكان ذلك عودة حميدة إلي الحق، وهذا موقف يحسب للشيخ لأن هناك فئات من الإسلاميين، جهاديين وغيرهم هاجموا هذا المشروع واتهموا أقطاب الجماعة الإسلامية بالعمالة للنظام، والسير في طريق الضلال وغيرها من الاتهامات القاسية، في حين أن هؤلاء القادة لم يكسبوا شيئا من الدولة، وبعضهم يعيش في ظروف معيشية صعبة.

وأهمية كلام الشيخ القرضاوي تنبع أيضا من فكرة أن كل من يتصالح مع أنظمة الغاضبون منها كثر تنالهم أشكال من التلويث والتلطيخ، وفي حالة زعماء الجماعة الإسلامية فقد تصالحوا مع أنفسهم أولا وهذا هو جوهر المراجعة إذ أنه ليس بسبب خوف وطمع ، ليس خوفا من الدولة وطمعا في ذهبها ومكاسبها، وإنما هو عودة اختيارية عاقلة للحق، والنتيجة حقن الدماء في مصر ومنع انزلاقها إلي مستنقع دموي علي الطريقة الجزائرية التي أوجعت قلوب العرب والمسلمين في كل مكان، لاتسام العنف بالهمجية والعشوائية، والبشاعة دون أن يقود ذلك إلي زعزعة الدولة والنظام كما تخيل الدمويون باسم الإسلام، وإن كان ذلك لا يعني تحميل الجماعات الإسلامية وحدها مسؤولية ما حدث من فظائع فثمة ما يشير لتورط أطراف محسوبة علي النظام والدولة في الفظائع التي ارتكبت بهدف تشويه صورة الجماعات الإسلامية وفقا لشهادات من ضباط في الجيش والمخابرات.

كما لا يمكن نسيان أن العنف كان سببه المباشر إلغاء الانتخابات التي فازت الجبهة الإسلامية للإنقاذ بجولتها الأولي، وكان ذلك درسا للإسلاميين في العالم العربي بأكمله مفاده أن وصولهم للحكم حتي لو كان من خلال انتخابات حرة نزيهة في ظل أجواء تجربة ديمقراطية خط أحمر غير مسموح بتخطيه بكل الوسائل بما في ذلك الانقلابات العسكرية إذا استدعي الأمر مهما كان الثمن، والمؤسف أن الكل يتذكر أن الغرب وعلي رأسه الولايات المتحدة أيد إجهاض التجربة الديمقراطية لمنع الجبهة الإسلامية من تسلم مقاليد الحكم، وهنا تجدر الإشارة إلي أن جماعات إسلامية لجأت للعنف في بلدان عربية عدة اتخذت ما حدث في الجزائر حجة ومبررا لقتال الأنظمة في بلدانها، قائلة إن العنف هو الوسيلة الوحيدة التي تفهمها هذه الأنظمة.

وعلي صلة بما قاله الشيخ القرضاوي فإن ممارسات جماعات العنف باسم الإسلام تقود غالبا إلي حالة قمع من جانب الأنظمة للتيار الإسلامي في مجمله وفي القلب منه، صحيح أن هناك توجهات مناوئة للاعتدال في أوساط العديد من الأنظمة في العالمين العربي والإسلامي خشية تعرض مراكزهم ونفوذهم وربما فسادهم للخطر، لكن هناك عقلاء في هذه الأنظمة يرون أنه من الضرورة فتح باب العمل السياسي أمام الإسلاميين، وفي كل الأحوال فالتحجج بميل الإسلاميين للعنف يستخدم سلاحا لمنع تمكينهم سياسيا، ولعل الكل يذكر كيف أن العرض الرياضي بزي موحد الذي قام به طلاب محسوبون علي جماعة الإخوان المسلمين في جماعة الأزهر كان حجة لحالة من الهياج المفتعل من جانب الحزب الوطني الحاكم في مصر ومناصريه والكثير من محاسيب السلطة وبينهم كتاب وإعلاميون وساسة، مع أنه من الثابت حتي الآن أن الإخوان لم يمتلكوا أسلحة ولم ينفذوا عملية قتل لأسباب سياسية واحدة منذ عقود، ولكنه نهج التربص والتصيد الذي يغلف سلوك المتخوفين من الإسلاميين بسبب الشعبية الكبيرة التي يحوزونها في العديد من البلدان العربية والإسلامية.

و هناك نقطة مهمة تتصل بالعنف المتأسلم الموجه ضد الغرب، فهناك صناعة خفية تجري لتشكيله، بوعي أو دون وعي من بعض الكتاب والمثقفين والتيارات السياسية في العالمين العربي والإسلامي، بإبداء التعاطف والارتياح وأحيانا السعادة بالهجمات التي تستهدف مصالح غربية وتلتصق بشبان مسلمين علي غرار تفجيرات مدريد ولندن، صحيح أننا نشعر بالغبن والظلم من ممارسات الغرب لكن التفجيرات والقتل ليست الوسيلة التي تمكننا من الانتصار عليه في مواجهة من الصعب إنكارها، لكن الطريق لوقف عدوان الغرب والولايات المتحدة علي بلادنا هو الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتقدم التكنولوجي، وعلينا أن ندرك أن الإصلاح الحقيقي لا يتأتي إلا بوعي النخب من مثقفين وعلماء وساسة بطبيعة التحدي الذي نواجهه، وسب الولايات المتحدة ليل نهار والتحريض عليها لن يحل مشاكلنا بل علي الأغلب سيعقدها، يجب أن نفهم أن المواجهة حضارية ثقافية سياسية ولعبة القنابل سنخسر فيها لأنهم يمتلكون أسلحة لا تنفد، غير أن هذا النهج لا يسقط الحق الشرعي والأخلاقي في المقاومة علي غرار ما يجري في العراق وأفغانستان، أما تحويل السخط إلي رافعة للعنف الغبي الذي يجعل الطبيب يترك دراسته للعلم في الغرب ليتفرغ للانتقام منه، فهذا ما يجب التصدي له.

لقد أصاب هاجس الاستهداف البعض بلوثات كلامية صراخية نظن أنها تبعدنا عن الأهداف الحقيقية التي يجب أن نتوخى الوصول إليها ، وهناك جانب آخر في خطاب الهجوم المتواصل علي الغرب وأمريكا تحديدا يتمثل في تحميلها كل مشاكلنا وأوجه قصورنا وأخطائنا، وهذا ينطوي علي خداع للذات قبل الآخرين، ولابد من إعمال العقل والتحلي بالإحساس بالمسؤولية بدلا من الهروب من الحقائق، ولعل في ما قاله الشيخ القرضاوي عبرة لمن يعتبر، فالعنف غير المبرر باسم الإسلام حالة مرضية تستدعي العلاج بالحكمة والموعظة الحسنة علي طريقة الشيخ الجليل التي لا يعوزها الصراحة والصدق والإخلاص ونبل المقاصد.

..........

- نقلا عن صحيفة الراية القطرية، 23-9-2007

* كاتب مصري