جمال سلطان

للمرة الأولى منذ عمر مديد يغيب الشيخ يوسف القرضاوي عن دروسه الرمضانية ، ويغيب عن صلاة القيام وعن خطبة الجمعة ، ويغيب أيضا عن طلته المبهرة في قناة الجزيرة ، الشيخ يوسف القرضاوي أبرز علماء الأمة الآن ، وأكثرهم عطاءً وجهدا على الإطلاق ، والذي ترى من كثرة مؤلفاته وكأنه يكتب وهو يمشي أو وهو في الطائرة أو وهو في السوق ، لأنه يقدم تراثا علميا بالغة الوفرة ، وبالغ العمق والجدية أيضا ، كما أنه يقدم كتبا ومقالات دائمة متوالية في الفقه والسيرة والحديث والتفسير واللغة والشعر والثقافة والتاريخ والأخلاق والتربية..

ونادرا ما يصلي القرضاوي الجمعة في بلد واحد مرتين متتاليتين ، من كثرة أسفاره لحضور ندوات أو مناقشة رسائل علمية أو تقديم دروس علمية أو أداء شعائر الجمعة أو المناسبات العامة أو الدينية ، أو تلبية الدعوات من رؤساء دول أو ملوك أو أمراء أو حتى مؤسسات من عامة الشعب..

وهذا الشيخ الذي بلغ الثمانين من عمره ، متعه الله بالصحة والعافية ، كان يمثل إهانة وإحراجا كبيرا لجيلي الأكثر منه شبابا ، حسابيا فقط ، لأن جهده وعطاءه وجلده وصبره وحيويته كانت تفوق أبناء جيلي كثيرا ، فنعجب لذلك ولا نستطيع مباراته أبدا ، وحتى عندما كنا نشاغبه بنشر مقالات تنتقد بعض مواقفه أو فتاويه ، كان يصبر علينا ويهتم كثيرا بما نقول ويجيبنا ويتلطف بنا في الجواب ، ثم يأخذنا في "حضنه" عندما نلقاه بعدها ، باشًا ، داعيا لنا بالتوفيق والبركة ، كشيمة الكبار وخلق الأئمة.

القرضاوي العالم الموسوعي يعاني في الفترة الأخيرة بعض متاعب الشيخوخة ، التي حلت عليه دفعة واحدة ، وقبل أسابيع داهمه المرض وهو في الجزائر ، فأمر الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بإدخاله إلى أرقى المستشفيات العسكرية في الجزائر وتوفير كافة الخدمات له ، لأنهم يعتزون به كثيرا هناك "ويتبركون" به أيضا ، لعلمه ووسطيته وحضوره الدعوي الطاغي في العالم كله ، ولكن الشيخ رغب في العودة إلى مصر ، وطنه ، فأمر الرئيس الجزائري بطائرة خاصة أقلته إلى القاهرة ، فلم يسأل فيه أو عنه أحد من أهل السلطة والسلطان ، لأنهم كانوا مشغولين بأمور أهم من القرضاوي مثل علاج بعض الممثلات والاتصال بآخرين في المستشفيات للاطمئنان والاحتفال ببعض الرياضيين ، فتضاعف همه وزاد عليه المرض ، فأرسل إليه أمير دولة قطر طائرة خاصة لنقله إلى الدوحة لكي يخضع لفحوصات طبية كافية على ضوئها يتقرر علاجه ومكانه الملائمين.

والحقيقة أن الشيخ يوسف ، العلم الإسلامي الكبير الذي طبقت شهرته الآفاق ، ولا يوجد مجمع علمي أو ديني في أرجاء الأرض قاطبة إلا وهو رئيسه أو رئيسه الشرفي أو أحد كبار مؤسسيه ، وينظر إليه بإكبار وإجلال ، إلا في بلده ، في مصر ، بل إن المدهش أن هذا الشيخ الجليل والعالم الأشهر كان حتى سنوات قليلة خلت يتم توقيفه في مطار القاهرة عند قدومه إلى مصر في أي زيارة أو عمل ، ويتم سحب جواز سفره ، وإخضاعه للتحقيق من ضابط أمن الدولة الشاب ، وسين وجيم ، (جاي ليه يا مولانا ، ومين كان معاك ، وها تقعد أد إيه) ، رغم أنه كان يحمل جواز سفر ديبلوماسي قطري تكريما له ، وعندما تدخل أكثر من حاكم عربي لدى الرئيس مبارك شخصيا ، تفضلت الحكومة المصرية وقررت رفع اسم الشيخ يوسف القرضاوي من قائمة ترقب الوصول الموضوعة للمشبوهين والمغضوب عليهم ، وكان هذا هو التكريم الوحيد والأهم الذي قدمته له بلاده ، سلامتك يا شيخ يوسف ، وننتظر عودتك قريبا بإذن الله، بحيويتك وحكمتك وعاطفتك وانفعالاتك الجميلة وبقية علم السلف.

.........

- عن صحيفة المصريون، 29-9-2007