سيد علي*

 في نهاية السبعينيات كان المرء يستقل مصعد «الأهرام» فيشعر بضآلة عندما يقف بجواره توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ولويس عوض وزكي نجيب محمود وأحمد بهاء الدين ولطفي الخولي والسيد يس وصلاح جلال، وعشرات الأسماء الكبيرة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، في عقد من اللؤلؤ يزين الحياة الفكرية والثقافية في مصر.

وانفرط هذا العقد، ولم تظهر أسماء بديلة تضيء حياتنا؛ إما بسبب الموت، أو لأن العصر لم يعد يحتمل هذه القامات العالية، ليس في الثقافة فقط، ولكن في الفنون والعلوم والهندسة والطب، ولو قام أي باحث بالمقارنة بين هذه الأسماء وأسماء من يجلسون مكانهم فسوف ينتج مسرحية عبثية وليس بحثا علميا، أقول ذلك بعد أن عاد الشيخ الجليل الدكتور يوسف القرضاوي مساء الأحد الماضي إلى شاشة الجزيرة عبر برنامج «الشريعة والحياة».

كان الرجل البالغ من العمر ٨١ عاما قد أصيب بوعكة صحية وهو في زيارة للجزائر، فقام الرئيس عبد العزيز بوتفليقة برعايته شخصيا، وأشرف على علاجه الدكتور مصطفى بوتفليقة شقيق الرئيس، وبدا أن القوم هناك يعاملون الشيخ الجليل معاملة رؤساء الدول، وحبس العالم الإسلامي أنفاسه خوفا على الرجل، خاصة أنه أصبح القدوة والموجه الذي تحتاج إليه الأمة في هذا الزمان، وغيابه في هذا الزمن الظالم أهله -حتى ولو لفترة التماثل للشفاء- يجعلها تغيب عن رشدها ورشادها.

 وعندما بدأ الرجل يتماثل للشفاء أبدى رغبته في العودة لمصر، وعلى الفور نقلته طائرة جزائرية خاصة، ويبدو أن القوم هنا كانوا مشغولين في الشائعات ومطاردة الصحفيين، ولم تنشر جريدة واحدة خبرا عنه.

 وفجأة أيضا عرفنا أنه غادر بلده بطائرة قطرية خاصة إلى الدوحة؛ لكي نتذكر أنه لا كرامة لنبي أو عالم أو مجتهد في وطنه، ويكفي القوم هنا الاهتمام بفريق الصقور، والبحث عمن قتل هند علام وإخوانها، وأخبار هيفاء ونانسي، والأهلي والزمالك، وكل العوالم وأحداث ٣٠ مسلسلا أصبحت ٣٠ جزءا تشغل الناس عن قراءة الـ٣٠ جزءا من كتاب الله في شهر القرآن، القوم الذين ينكرون الشيخ الجليل هنا لا يدرون شعبية الرجل على امتداد العالم الإسلامي وتلاميذه ومريديه، صحيح أن الكثيرين ربما يختلفون معه، ولكنه اختلاف في الفروع يتسع لصوابين.

ويتساءل المرء: كم قرضاوي لدى مصر لكي تنكره وتتجاهله؟، صحيح أنه عانى من الاضطهاد السياسي منذ بداية حياته، وسُجن عدة مرات لانتمائه لجماعة الإخوان، ولكنه انفصل تنظيميا عن الجماعة منذ أربعة عقود، ليصبح واحدا من أهم أعلام الإسلام البارزين في العصر الحاضر، بمنهجه المعتدل الذي يراعي قواعد المصالح الشرعية في الفتوى الأنسب والأصلح لزمن ومكان الفتوى التي يصدرها، مفضلا أسلوب التيسير في الدين لدرجة أن كتبه أصبحت تغطي العالم الإسلامي في تيسير الفقه للمسلم المعاصر، والاقتصاد الإسلامي، وظواهر الغلو، والحلول المستوردة، وأولويات الحركة الإسلامية، وهكذا فقد جمع الرجل بين فقه النظر وفقه الأثر.

والغريب أن كل كتب مراجعات جماعات التطرف عادت إلى ما يقوله الرجل، ونقلوا صفحات كثيرة مما كتب بعد أن كانوا يحظرون النظر إلى ما يكتبه، والأغرب أنه كان متهما بوسطيته واعتماده على الرأي أكثر من النص، وهو متهم من أهل الحديث باعتماده الأحاديث الضعيفة، ومن السلفيين لمخالفته الإجماع القطعي، ومن الجهاديين لتأييده النضال الفلسطيني من منطلق قومي أكثر منه إسلاميا، ومن الصوفية لانتقاده الأشاعرة في مسائل القدر والتأويل، ومتهم أيضا من العلمانيين لتأييده بعض الحدود.

المشكلة الأكبر عند الشيخ أنه يرى أن الاستبداد السياسي ليس مفسدة سياسية، وإنما هو أيضا مفسدة للأخلاق والاقتصاد والدين والحياة، والمشكلة الثانية أن الرجل وضع نظاما رائعا للتكافل الاجتماعي في رسالته للدكتوراة عام ٧٣ عن الزكاة وأثرها في حل المشاكل الاجتماعية، وأغلب الظن أن القوم لو أعادوا القراءة لاستفادوا كثيرا من علمه المتجرد ومكانته العلمية، أقول ذلك وفي ذهني أن مصر هي «أم الدنيا».

وأظن أنه أُطلق عليها تلك التسمية ليس لأنها أم الحضارات، ولكن لسماحتها ورحابة صدرها ودفئها في استيعاب أولادها وأبناء أمتها على مر التاريخ، وأظن أيضا أن كثيرا من مشاكل أم الدنيا حدثت عندما قسا قلبها على بعض أفضل أبنائها، فمنهم من هاجر، ومنهم من ينتظر.. شيخنا الفاضل لا أملك إلا أن أردد المقولة التي ترددها: لا تسأل الله أن يخفف حملك، ولكن سله أن يقوي ظهرك.

..........

- نقلاً بتصرف عن صحيفة المصري اليوم، 4-10-2007.

* كاتب وصحفي مصري