د. يوسف القرضاوي

كلُّ مَن درس تراث رجال الإصلاح الإسلامي، الذين قاموا بالدعوة للنهوض بالأمة، وتحريرها من نِيْر الاستعمار الغربي، وإخراجها من دائرة التخلُّف إلى دائرة التقدُّم والارتقاء، ابتداء من جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي، وغيرهم، يجدهم جميعا يؤمنون بأن لأوطانهم حقًّا عليهم، يوجب عليهم أن يبدأوا بإصلاحها أولا، من باب الأقربون أولى بالمعروف، كما قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [البقرة:215]، فبدأ بالوالدين والأقربين لما لهم من حقٍّ أوكد.

وقد كان الشيخ محمد عبده مع ثورة عرابي الوطنية المصرية، التي قامت ضدَّ الخديوي، وبعد ذلك كانت عنايته بالمجتمع المصري أكثر من غيره، عن طريق إصلاح التعليم العام، وخصوصا إصلاح الأزهر، وقال كلمته الشهيرة: يستحيل بقاء الأزهر على حاله، فإما أن يعمر، وإما أن يتمَّ خرابه!

وسمَّاه الأستاذ عباس العقاد في كتابه عنه (رائد الفكر المصري الحديث).

ولكنهم جميعا يؤمنون بوطنهم الأكبر: دار الإسلام، ولهذا عملوا على تحريرها من كلِّ سلطان أجنبي، وتوحيدها، والسعي في عودتها إلى الرقي والقيادة من جديد.

هكذا رأينا الأفغاني ومحمد عبده في مجلة (العروة الوثقى) التي كانت تصدر من باريس، والتي كانت تتكلَّم باسم العالم الإسلامي كلِّه، وتوجِّه دعاة الحرية والإصلاح في كلِّ بلاد الإسلام.

وهكذا رأينا الكواكبي في كتابه (أم القرى) الذي تصوَّر فيه مؤتمرا إسلاميا عالميا يعقد في (مكة المكرمة أم القرى) ليبحث مشاكل الأمة الإسلامية جمعاء، ويقترح الحلول لها.

ومن بعد هؤلاء المصلحين والمجدِّدين، ظهر مصلحون آخرون في أقطار شتَّى، اتَّفقت مقاصدهم، واختلفت طرائقهم، وسنقصر حديثنا هنا على اثنين من كبار المصلحين الإسلاميين: أحدهما من بلاد العرب، وهو حسن البنا. والآخر من القارَّة الهندية، وهو أبو الأعلى المودودي. وكلُّ واحد منهما له نظرة تخالف نظرة الآخر، وإن كان هدفهما الأساسي واحدا.

1. حسن البنا وموقفه من الوطنية والمواطنة:

ولقد تحدَّث الإمام حسن البنا عن مفهوم الوطنية في رسالة (دعوتنا) من رسائله الشهيرة، وبين المعاني والمقاصد التي يمكن أن تفهم من هذه الكلمة، وأن منها ما هو مقبول في منطق الإسلام وشريعته، ومنها ما هو مردود ومرفوض. وذلك بسبب ظهور وانتشار هذه المصطلحات الجديدة في المجتمعات الإسلامية، وولع بعض الناس بها، وفَهم كلِّ فريق لها بحسب هواه، أو هوى مَن يسير خلف فلسفتهم.

الوطنية المقبولة والوطنية المردودة:

وفي رسالة (دعوتنا) يفصِّل الإمام البنا القول في الوطنية تفصيلاً، فقد كان الرجل حريصا على تحديد المفاهيم الغامضة، أو المحتملة لاختلاف الأفهام، وعلى تفصيل المعاني والمصطلحات المجملة، وضبط الكلمات الهُلامية التي يفسِّرها كلُّ فريق بما يمليه عليه هواه، أو تبعيته لفكرة معيَّنة.

بيَّن في هذه الرسالة الموقف من الدعوات المختلفة التي طغت في هذا العصر، ففرَّقت القلوب، وبلبلت الأفكار. ومنها: الوطنية.

قال رحمه الله: (افتتن الناس بدعوة الوطنية تارة، والقومية تارة أخرى، وبخاصة في الشرق، حيث تشعر الشعوب الشرقية بإساءة الغرب إليها، إساءة نالت من عزَّتها وكرامتها واستقلالها، وأخذت من مالها ومن دمها، وحيث تتألَّم هذه الشعوب من هذا النِّير الغربي الذي فُرِضَ عليها فرضًا، فهي تحاول الخلاص منه بكلِّ ما في وسعها من قوَّة ومَنَعَة وجهاد وجِلاد، فانطلقت ألسن الزعماء، وسالت أنهار الصحف، وكتب الكاتبون، وخطب الخطباء، وهتف الهاتفون باسم الوطنية وجلال القومية.

حسن ذلك وجميل، ولكن غير الحسن وغير الجميل: أنك حين تحاول إفهام الشعوب الشرقية - وهي مسلمة - أن ذلك في الإسلام بأوفى وأزكى وأسمى وأنبل مما هو في أفواه الغربيين، وكتابات الأوروبيين: أَبَوا ذلك عليك، ولجُّوا في تقليدهم يعمهون، وزعموا لك أن الإسلام في ناحية، وهذه الفكرة في ناحية أخرى، وظنَّ بعضهم أن ذلك مما يفرِّق وحدة الأمة، ويُضعف رابطة الشباب)[1].

وقد تحدَّث الأستاذ البنا عن وطنية الحنين والعاطفة، ووطنية الحريَّة، ووطنية المجتمع وخدمته، ووطنية المجد والفتح، وأشاد بها، ونوَّه بشأنها، وترحيب الإسلام بها، ولكنه رفض وطنية الحزبية والانقسام، التي تؤدِّي إلى التباغض والتناحر وتفكُّك الروابط. وهو مبنيٌّ على رأيه في إنكار الحزبية وتعدُّد الأحزاب، وهو ما ناقشناه فيه في أكثر من كتاب لنا[2].

الوحدة الوطنية واختلاف الدين:

ثم يقول الأستاذ البنا: (وأحبُّ أن أنبِّهك إلى سقوط ذلك الزعم القائل: إن الجري على هذا المبدأ يمزِّق وحدة الأمة التي تتألف من عناصر دينية مختلفة، فإن الإسلام وهو دين الوَحدة والمساواة كفل هذه الروابط بين الجميع ما داموا متعاونين على الخير: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8]. فمن أين يأتي التفريق إذن[3]؟)[4] اهـ.

مصر في نظر حسن البنا:

ويعود الأستاذ إلى فكرة (الوطنية) أو (المصرية) بمعنى الانتماء إلى الوطن الخاصِّ: مصر وحبِّها، والعمل على تحريرها والنهوض بها، فيخصُّها بحديث جدير بمكانتها فيقول:

(إننا مصريون بهذه البقعة الكريمة من الأرض التي نبتنا فيها ونشأنا عليها. ومصر بلد مؤمن تلقَّى الإسلام تلقيًا كريمًا، وذاد عنه، وردَّ عنه العدوان في كثير من أدوار التاريخ، وأخلص في اعتناقه، وطوى عليه أعطف المشاعر وأنبل العواطف، وهو لا يصلح إلا بالإسلام، ولا يُدَاوى إلا بعقاقيره، ولا يطبُّ له إلا بعلاجه. وقد انتهت إليه بحكم الظروف الكثيرة حضانة الفكرة الإسلامية، والقيام عليها، فكيف لا نعمل لمصر ولخير مصر؟ وكيف لا ندافع عن مصر بكلِّ ما نستطيع؟ وكيف يقال: إنَّ الإيمان بالمصرية لا يتَّفق مع ما يجب أن يدعو إليه رجل ينادي بالإسلام ويهتف بالإسلام! إننا نعتزُّ بأنَّنا مخلصون لهذا الوطن الحبيب، عاملون له، مجاهدون في سبيل خيره، وسنظلُّ كذلك ما حيينا، معتقدين أن هذه هي الحَلْقة الأولى في سلسلة النهضة المنشودة، وأنها جزء من الوطن العربي العام، وأنَّنا حين نعمل لمصر نعمل للعروبة والشرق والإسلام.

وليس يضيرنا في هذا كلِّه أن نُعْنى بتاريخ مصر القديم، وبما سبق إليه قدماء المصريين الناسَ من المعارف والعلوم. فنحن نرحِّب بمصر القديمة كتاريخ فيه مجد وفيه علم ومعرفة. ونحارب هذه النظرية بكلِّ قوانا كمنهاج عملي، يراد صبغ مصر به ودعوتها إليه، بعد أن هداها الله بتعاليم الإسلام، وشرح له صدرها، وأنار به بصيرتها، وزادها به شرفًا ومجدًا فوق مجدها، وخلَّصها بذلك مما لاحق هذا التاريخ من أوضار الوثنية، وأدران الشِرك، وعادات الجاهلية)[5].

2. موقف المودودي من الوطنية والمواطنة:

لم أجد للأستاذ أبي الأعلى المودودي - فيما قرأتُ له - أيَّ كتابة فيها تعاطف مع فكرة (الوطنية)، وما يتبعها من المواطنة. بل وجدتُ منه هجوما عليها، ونقدا عنيفا لها.

فقد كان يرى أن أصلها غربي أو أوربي. وهو لا يستقي أفكاره من أيِّ منهل آخر غير الإسلام.

كما أن إقراره بالوطنية، ودعوة المسلمين إليها، قد يخاف من ورائها: أن تغيب هُوِيَّة الأقلية الإسلامية في الأكثرية الهندوسية. ولهذا وجَّه انتقادات عقلية حادَّة إلى فكرة القومية والوطنية.

نقد عناصر القومية (والوطنية) من ناحية العقل:

يقول رحمه الله متحدِّثا عن القومية والوطنية: (انظرْ فيها من حيث ذاتها وتفكَّرْ: هل لها أساس عقلي مستحكم أم هي لا تعدو في حقيقتها سرابا في الفكر والتخيُّل؟)

1. النَسْلية أو العنصرية:

ما هي النسلية؟ الوحدة في الدم ولا غير، وما نقطة بدئها إلا نطفة الوالدين، تنشأ بها في عدد من البشر رابطة الدم، ثم تتَّسع وتظهر بمظهر الأسرة، فبمظهر العشيرة أو القبيلة، فبمظهر السلالة أو النسل. والإنسان إلى أن يبلغ هذا الحدَّ النهائي، يبعد عن والده الذي جعله المورث الأعلى لسلالته بعدا شاسعا لا تبقى معه وراثته إياه إلا وهما من الأوهام الخيالية، وتنصبُّ في نهر سلالته المزعومة جداول كثيرة من الدم الخارجي، حتى لا يبقى في مقدوره أن يدَّعي أن نهره خالص، ليس فيه إلا ذلك الدم الذي كان بدأ جريانه من منبعه الأصلي.

وإذا كان للناس على الرغم من هذه الخلطة أن يقرِّروا سلالة من السلالات مادة لوَحدتهم، فماذا عليهم لو قرَّروا أساسا لتوحُّدهم مشاركتهم في ذلك الدم الذي يربطهم جميعا بأبيهم الأول وأمهم الأولى؟ وماذا يمنعهم أن ينسبوا الناس جميعا إلى سلالة واحدة وأصل بعينه؟ ومما لا ريب فيه أن الذين قد قررهم الناس مورثين لسلالاتهم، يلتقون نسبا إذا صعدوا - قليلا أو كثيرا - في شجرة نسبهم، ولا بد من الاعتراف - آخرة - أنهم من أصل بعينه، فما المبرِّر إذن لافتراق الناس على هذه الصورة بين الآريين والساميين؟

2. الوطنية:

أما الوحدة في المولد والمنشأ، فهي أوهن من النَسْلية وأوغل منها في الوهم والخيال، لأن المكان الذي يولد فيه الإنسان لا يزيد في عرضه وطوله عن ذراع في ذراع، وهو إذا عدَّ هذا المكان المحدود وطنا لنفسه، فلعله لا يستطيع أن يقول عن قطر ما في الأرض إنه وطنه، ولكنه يرسم حول هذا المكان خطا يبعد عنه أميالا، بل مئات وآلافا من الأميال في بعض الأحيان، ويقول: إن وطنه يتَّسع إلى هذا الخط، وإن كلَّ ما وراءه لا علاقة به أبدا.

فما كلُّ هذا إلا ضيق في نظره، وإلا فأيُّ شيء يمنعه أن يوسِّع هذا الخط إلى وجه الأرض من شرقه إلى غربه ومن جنوبه إلى شماله ويقول: إنه وطنه؟ لأن الدليل الذي يمكن أن تتَّسع على أساسه قطعة صغيرة من الأرض إلى آلاف الأميال، من الممكن على أساسه هو أن تتَّسع هذه القطعة فتشمل وجه الأرض كلَّه.

والإنسان إن لم يضيِّق وجه نظره، فله أن يرى بدون لبس ولا إبهام: أن هذه البحار والجبال والأنهار التي قد جعلها بزعمه حدودا، وفرَّق بها بين أرض وأرض، ليست كلَّها إلا أجزاء لأرض واحدة، فلماذا أعطى هذه البحار والجبال والأنهار حقًّا في حجزه لبقعة منها محدودة؟ وما له لا يقول إنه متوطِّن الأرض كلها، وأن كلَّ مَن يسكن على وجه الأرض هو أخوه في الوطن، وله في كلِّ بقعة من بقاعها من الحقوق مثل ما له من تلك البقعة الصغيرة التي وُلد فيها، ولا تزيد في عرضها وطولها عن ذراع في ذراع؟[6].

نظرية الإسلام الشاملة الجامعة:

ثم يعود بعد قليل ليحدِّثنا عن نظرية الإسلام الشاملة، والمعارضة للقومية والوطنية وأشباههما. يقول:

(فهذا - بعينه - ما يقول به الإسلام ويدعو إليه الناس جميعا. فهو لا يقرُّ بأيِّ فرق مادي ولا حسي بين الإنسان والإنسان. ويقول للبشر قاطبة إنكم جميعا من أصل واحد: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} [النساء:1].

وأن ليس الاختلاف بينكم في المواطن أو المساكن أو المدافن بشيء جوهري، {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} [الأنعام:98].

وأن حقيقة أجناسكم وقبائلكم ليست إلا من أب واحد وأم واحدة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]. أي ليس هذا الاختلاف بين شعوبكم وقبائلكم إلا لتتعارفوا، لا لتتباغضوا وتتفاخروا وتتناحروا وتتحاربوا بينكم، فلا تنسوا في هذا الاختلاف وحدة أصلكم. وإذا كان بينكم فارق حقيقي، فإنما هو على أساس الأخلاق والأعمال.

وما هذه الفُرقة بين طوائفكم والاختلاف بين جماعاتكم إلا عذاب من الله أنزله لتذوقوا به وبال ما بينكم من البغضاء والمعادة، {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65].

والإسلام يعدُّ هذه الطائفية من جملة الجرائم التي استحقَّ فرعون على أساسها اللعنة والعذاب الأليم: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} [القصص:4][7].

ويبيِّن أن الأرض كلَّها لله، وهو الذي كرَّم بني آدم، وجعلهم خلفاءه فيها، وسخَّر لهم كلَّ ما فيها. فما للإنسان أن يتقيَّد في بقعة محدودة من هذه الأرض ويتَّخذها معبودا له، بل إن الأرض كلَّها مُدَّت لأجله. فإذا ضاقت عليه ناحية منها، فليذهب إلى ناحية أخرى. وهو أينما يسير، يجد نعم الله تعالى موجودة مبسوطة أمامه. ففي ذلك يقول عزَّ وجلَّ: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، ويقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} [الحج:65]، {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء:97]، ويقول: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء:100][8].

اقرأ القرآن من أوله إلى آخره، لا تجد فيه كلمة تبرِّر النسلية والوطنية، لأنه يخاطب النوع البشري ويدعوه قاطبة إلى الخير والسعادة والفلاح، ولا يخصُّ بدعوته أمة دون أمة، أو بقعة من الأرض دون غيرها. وإذا كانت للإسلام علاقة خاصة ببقعة من الأرض، فإنما هي أرض مكة، ولكنه يصرِّح - مع ذلك - بأن المسلمين، من أهل مكة كانوا أو من خارجها، كلُّهم متساوون في أرضها، فيقول: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج:25][9]، ويقول عن المشركين الذين كانوا سكان مكة: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28]. فهذا التصريح يستأصل شأفة الوطنية في الإسلام ولا يبقى بعده لمسلم إلا أن يقول، كما عبَّر الشاعر الفارسي بما معناه بالعربية: كلُّ بلاد الأرض بلاده لأنها ليست إلا ملك ربه)[10].

أعتقد أن كلام الأستاذ الكبير المودودي رحمه الله، لم يخل من غلوٍّ في النظرة والتحليل، فإن انتماء الإنسان إلى وطنه حقيقة فطرية، وحقيقة واقعية، وإن فكرة الوطنية في حدِّ ذاتها ليست مشكلة، إلا إذا تعارضت مع الدين، أو اقترنت بالعلمانية، أو وضعت بديلا عن الدين، كما بيَّنا ذلك من قبل.

وربما كان وضع الأستاذ المودودي وقيام دعوته في الهند الكبرى، التي يتمتَّع فيها الهندوس الوثنيون بأغلبية كبيرة، يُخشَى على المسلمين أن يذوبوا فيها، إذا نسَوا انتماءهم الديني: هو الذي ترك أثره في تفكير هذا الإمام. والإنسان ابن بيئته، كما أنه ابن عصره.

الدين لله والوطن للجميع:

 ومن الكلمات التي تروج في المحيط العلماني، والمحيط الليبرالي: كلمة: (الدين لله والوطن للجميع).

 وهي تُقال في مقابل الذين يتمسَّكون بالدين ويرجعون إليه في حياتهم من مسلمين ومسيحيين وغيرهم، فيقولون لهم: الدين لله. وكأن هؤلاء المتدينين يجحدون هذه الحقيقة: أن الدين لله. والواقع أن كلَّ المؤمنين أو كلَّ المتدينين يؤمنون بأن الدين لله.

 بل رأينا الإسلام يأمر بالقتال حتى يقرَّ هذه الحقيقة في الواقع: أن يكون الدين لله، فيقول تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193]، وقال في مقام آخر: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ} [الأنفال:39].

 فهو يريد أن يستخلص الدين من أيدي الذين يتلاعبون به، ويريدون أن يكون في خدمة فئة أو شعب أو فرد من الناس، بل يجب أن يخلص الدين من كلِّ تبعية لغير الله، ويكون لله وحده، كما قال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3].

فما يريده هؤلاء من عبارتهم: الدين لله: ليس من الدين في شيء، إذ يُراد بها عزل الدين عن الحياة، وعن توعية الناس، وردِّهم إلى الله، وإلى صراطه المستقيم.

والحقيقة: أن العبارة المذكورة (الدين لله والوطن للجميع) نستطيع أن نقلبها على كلِّ الوجوه التي تقتضيها القسمة العقلية هنا.

فيمكنك أن تقول: الدين لله والوطن لله. على معنى أن الأرض كلَّها لله، والكون كلَّه لله، كما قال تعالى: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف:128]، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ} [البقرة:115].

ويمكن أن تقول: الدين للجميع والوطن للجميع. فكما لا يُحرم أحد من الوطن: لا يُحرم أحد من الدين.

ويمكنك أن تقول: الدين للجميع والوطن لله.

كما يمكنك أن تقول ما قالوا: الدين لله والوطن للجميع.

...........

[1] من رسالة (دعوتنا) صـ 19، 20 من مجموع رسائل الإمام الشهيد.

[2] راجع ذلك في كتبنا: (من فقه الدولة في الإسلام)، و(الدين والسياسة)، و(التربية السياسية عند حسن البنا)، و(الإخوان المسلمون).

[3] انظر: كتابنا (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي)، وفصل (الحل الإسلامي والأقليات الدينية) من كتابنا (بينات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين).

[4] من رسالة (دعوتنا) صـ 20 - 22 من مجموع رسائل الإمام الشهيد.

[5] من رسالة (دعوتنا في طور جديد) صـ 229، 230 من مجموعة الرسائل.

[6] صـ18 – 20.

[7] وهذه الآية تشير إلى جريمة فرعون التاريخية، إذ أثار الامتيازات بين أهالي مصر على أساس القبطي وغير القبطي، وعامل أحدهما بما لم يعامل الآخر.

[8] قال ابن عباس: المراغم: التحول من أرض إلى أرض، وقد قال النابغة بن جعدة:   كطَود يُلاذ بأركانه  **  عزيز المراغم والمهرب

[9] وبموجب هذه الآية لا تسلِّم طائفة كبيرة من فقهاء الإسلام لأحد من الناس بأي حق للملكية في أرض مكة. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينهى عن تبويب دور مكة لينزل الحاج في عرصاتها. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "مكة حرام لا يحل بيع رباعها، ولا أجور بيتها". ويقول: "إنما هي مناخ من سبق". هذا كله عن أرض مكة التي خصها الله بمزايا ليست لغيرها.

[10] صـ26 – 30.