د. يوسف القرضاوي

روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم؛ فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله، فليقل: إني صائم، إني صائم. والذي نفس محمد بيده، لخُلُوف"[1] "فم الصائم، أطيب عند الله من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه"[2].     (صدق رسول الله).

إضافة تشريف وتكريم

في هذا الحديث يروي لنا النبي صلى الله عليه وسلم، عن ربه عز وجل، في الحديث القدسي أنه سبحانه يقول: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به". هذه الإضافة، من الله سبحانه وتعالى، إضافة الصيام إلى ذاته تقدَّس وتعالى، إضافة تشريف وتكريم، كما يقال: بيت الله، للمسجد أو الكعبة، وكل الأرض لله عز وجل. وكما يقال عن ناقة صالح: ناقة الله، وكل النُّوق وكل الأشياء إنما هي ملك لله عز وجل.

عبادة لم تكن لغير الله

      فالإضافة للتشريف والتكريم، وإنما كرَّم الله الصوم فنسبه إلى نفسه، دون العبادات كلها، لما لهذه الفريضة من خاصَّة لا توجد في غيرها.

      هذه العبادة لم يعبد بها غير الله سبحانه ... كل العبادات قد عبدت بها الآلهة المزيَّفة، والأصنام التي عبدها المشركون على مر العصور.

الصلاة، كم جُعلت لغير الله، فرُكع وسُجد لغير الله!

الدعاء، كم دُعي غير الله!

القرابين، والصدقات، كم قُدمت لغير الله تعالى؟!

ولكنه لم يُعرف أنه قد صِيم لغير الله تعالى.

هكذا قال العلماء ... وقالوا أيضًا: إن في الصوم خصيصة لا توجد في غيره، وهو أنه لا رياء فيه، أي أن فعل الصوم لا رياء فيه، حيث إنه مجرد إمساك وكف، وامتناع.

والإمساك والامتناع لا يُرى، فهو شيء سلبي، لا يراه الناس، ولهذا لا تدخل المراءاة في الصوم، إلا إذا أَخبر الإنسان عن نفسه أنه صائم.

      أما عمل الصوم نفسه، فليس مما يُرى ومما يُحس.

أجر الصائم

فالصوم عبادة خالصة لله عز وجل، فاستحق أن يُنسب إليه سبحانه، ثم هناك أمر آخر، وهو: ما في هذه العبادة من مشقة، حيث يُجيع الإنسان كبده، ويُظمئ نفسه، ويَدَع شهواته كلها لله سبحانه.

وهذا ما جاء في الحديث الذي رواه ابن خزيمة في صحيحه وغيره: "كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله: إلا الصيام فهو لي، وأنا أجزى به. يَدَع الطعام من أجلي، ويدع الشراب من أجلي، ويدع لذته من أجلي، ويدع زوجته من أجلي ..."[3].

ومعنى هذا أن الله سبحانه وتعالى، هو الذي يتولى جزاء الصائمين بنفسه، هو الذي يُعطيهم بيده، والكريم إذا أخذ على نفسه أنه هو الذي يعطى فإنه يجزل، ولا يدع ذلك لوكلائه، ولا لخُزّانه، وإنما يتولى الأمر بنفسه، وعطاء الله لا حدَّ له، فهو أكرم الأكرمين، والغني الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما ...

الأعمال تتفاوت في جزائها، هناك عمل بعشرة أمثاله، وهناك عمل بسبعمائة ضعف، وهناك عمل بمثله، وهناك عمل لا يعلم جزاؤه إلا الله.

      إن الله قال في الصابرين: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]. "والصوم نصف الصبر"[4]، ومن هنا كان جزاء الصائمين لا حد له.

الصوم المطلوب

      ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم، في تتمة هذا الحديث مبينًا نوع الصيام الذي يستحق أن ينسب إلى الله، وأن يكون جزاؤه غير محدود عند الله سبحانه، فقال: "الصيام جُنَّة".

والجُنَّة هي الدِّرع والتِّرس، الذي يستتر به الإنسان في الحروب، حتى لا تتناوشه السهام والنبال، فهو يقى صدره، ويحفظ نفسه بهذه الجُنَّة. كذلك الصيام، كما جاء في الحديث: "الصيام جُنَّة أحدكم من النار كجنة أحدكم من القتال"[5]، وفي حديث آخر: "الصيام جُنَّة، وحصن حصين من النار"[6].

فهو درع يقي صاحبه من الإثم والمعاصى في الدنيا، ويقيه من النار في الآخرة وهذا ... ما لم يخرق هذه الجُنَّة ... كما جاء في الحديث: "والصوم جُنَّة ما لم يخرقها"[7]، وفي رواية: "الصيام جُّنَّة لأحدكم، ما لم يخرقها". قالوا: وبم يخرقها، يا رسول الله؟ قال: "بكذب أو غيبة"[8].

يخرق هذه الدرع بالغيبة، بالكذب، بالمعاصي التى تخدش الصيام، وتجرحه وتزيل آثاره ...

      فلا يؤدي إلى التقوى، التي هي ثمرة الصيام، ورتَّبها الله عليه في كتابه حيث يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].

تأثير المعاصي على الصيام

ومن هنا ذهبت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، إلى أن مَن كذب أو اغتاب في صيامه، فقد أفطر، وعليه أن يعيد يومًا بدل هذا اليوم. وأخذ بهذا الإمامان: الأوزاعي والثوري (الأول إمام الشام، والآخر إمام العراق) بأنه من كذب أو اغتاب فقد بطل صومه وعليه أن يقضي يومًا مكان اليوم، كما جاء في الحديث الآخر: "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجةٌ في أن يَدَعَ طعامه وشرابه"[9]، أي لا قيمة لصومه عند الله عز وجل.

      هذا هو قول هؤلاء الأئمة: عائشة وهذين الإمامين[10].

وقال جمهور الفقهاء: إنه ليس عليه أن يُعيد يومًا مكان هذا اليوم، ولكنه حُرم المثوبة والأجر ... حُرم أجر الصيام، وما أخيب إنسانًا، وما أضيعه يظل طول اليوم جوعان ظمآن، ثم يأتي في النهاية ولا أجر له، ولا ثواب له[11].

      وهذا هو الخائب المحروم حقًا.

أيها الصائم ادفع بالتي هي أحسن

ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفُث ولا يصخَب".

أي عليه أن يحفظ صيامه من الرَّفث، وهو الكلام في الأمور الجنسية، وكل كلام قبيح.

"ولا يصخب": أي لا يصيح، ولا يرفع صوته على الناس! ليضبط أعصابه، ليملك أمر نفسه، ولا يجعل صومه شجارًا، ويجعل يومه قتالاً مع الناس.

لا ... فإنما جعل الصوم لتربية الإرادة، وتهذيب الأنفس.

"فإن سابَّه أحد أو قاتله، فليقل: إني صائم ... إني صائم": أي لا ينبغي أن يقابل السيئة بالسيئة، وإنما يقابل السيئة بالحسنة، {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34،35].

وإذا كان هذا في شأن الناس جميعًا، فهو في شأن الصائم أجدر وأولى ...

من هنا علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نقول إذا دافعنا إنسان، أو شاتمنا ونحن صائمون ... ألا نرد عليه الشتيمة بمثلها، وأن نقول هذا القول: اللهم إني صائم... وليكرِّرها مرتين إن شاء.

هل يقولها بلسانه أم يقولها بقلبه؟ أم يقولها بلسانه وقلبه معًا؟ هذا هو الأولى: أن يقولها بقلبه ولسانه.

      يقول ذلك لنفسه، يخاطبها، ويخاطب صاحبه أيضًا، فيكفُّ بذلك خصمه، ويكفُّ بذلك نفسه عن الاستجابة لداعي الغضب، وإلى غريزة المقاتلة، التي تجعل من الإنسان سبعًا ووحشا مفترسًا.

      ولا يليق بالصائم أن يتشاجر، وأن يتقاتل، وأن يستجيب للغضب والشهوة.

      هذا هو الصائم الذي يقبله الله، والذي حلف النبي صلى الله عليه وسلم: أن خُلوفه "أطيب عند الله من ريح المسك".

      وخلوفه.. هي رائحة فمه المتغيرة من ترك الطعام والشراب طول النهار، هذه الرائحة التي قد يَنفِر منها بعض الناس، هي أطيب عند الله من ريح المسك.

للصائم فرحتان

ثم ختم النبي صلى الله عليه وسلم الحديث، بهذه البشارة للصائم: بالفرحتين اللتين جعلهما الله للصائم يفرحهما: فرحة الدنيا، وفرحة في الآخرة. فأما الدنيا فهو "إذا أفطر فرح بفطره": أي فرح بأنه عادت إليه الحرية في الأكل والشرب والتمتع بطيبات الحياة الدنيا، فيزول جوعه وعطشه، ويفرح أيضا بأن الله وفَّقه لإتمام صوم يوم من الفريضة المفروضة عليه، فهو فرح طبيعي، وهو فرح ديني أيضا.

      ثم تبقى الفرحة الكبرى يوم القيامة، حيث يفرح إذا لقي ربه بصومه، إذا جازاه الله، الذي يقول: "الصوم لي وأنا أجزي به". إذا نادته الملائكة فيمن تنادي: كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية. إذا فُتح له باب الريّان ... الذي لا يدخل الجنة منه إلا الصائمون فإذا دخلوا أغلق ... ولم يدخل منه أحد بعدهم[12].

...........

[1] الخُلُوفُ: بالضَّمِّ بمعنَى: تَغَيُّرِ الفَمِ هو المَشْهُورُ الذي صّرَّحَ به أَئِمَّةُ اللُّغَةِ، وحكَى بعضُ الفُقَهاءِ والمُحَدِّثين فَتْحَهَا، واقْتَصَرَ عليه الدَّمِيرِيُّ في شَرْحِ الْمِنْهَاجِ، وأَظُّنُّه غَلَطاً، كما صرَّح به جَمَاعَةٌ، وقال آخَرُونَ: الفَتْحُ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ، واللهُ أَعلمُ. (تاج العروس:1/5830).

[2] متفق عليه: رواه البخاري في الصوم (1904)، ومسلم في الصيام (1151)، وأحمد في المسند (7693)، والنسائي في الصغرى (2216)، وابن ماجه في الصيام (1638)، عن أبي هريرة.

[3] رواه ابن خزيمة في صحيحه كتاب الصيام (3/197)، وقال الأعظمي: صحيح، عن أبي هريرة، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (978).

[4] رواه أحمد في المسند (23073)، وقال محققوه: صحيح لغيره وهذا إسناد رجاله ثقات غير جري بن كليب النهدي، والترمذي في الدعوات (3519)، وقال: حديث حسن، وعبد الرزاق في المصنف كتاب الجامع (11/296)، والدارمي في الطهارة (654)، والبيهقي في الشعب باب في محبة الله (1/436)، عن جري النهدي عن رجل من بني سُليم، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (2509).

[5] رواه أحمد في المسند (16273)، وقال محققوه: حديث صحيح وهذا إسناد حسن من أجل محمد بن إسحاق، والنسائي في الصيام (2230)، وابن ماجه في الصيام (1639)، وابن خزيمة في صحيحه كتاب الصيام (3/193)، وابن حبان في صحيحه كتاب الصوم (8/409)، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم، والطبراني في الكبير (9/51)، عن عثمان بن أبي العاص الثقفي.

[6] رواه أحمد في المسند (9225)، وقال محققوه: صحيح وهذا إسناد حسن، والبيهقي في شعب الإيمان (3/289)، عن أبي هريرة، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد وإسناده حسن (3/418).

[7] رواه أحمد في المسند (1690)، وقال محققوه: إسناده حسن، والنسائي في الصيام (2233)، والطيالسي في المسند (1/31)، وعبد الرزاق في المصنف كتاب الصيام (4/307)، وابن أبي شيبة في المصنف كتاب الصيام (2/273)، وأبو يعلى في المسند (2/180)، وابن خزيمة في صحيحه كتاب الصيام (3/194)، والحاكم في المستدرك كتاب معرفة الصحابة (3/297)، وسكت عنه هو والذهبي، والبيهقي في الكبرى كتاب الجنائز (3/374)، عن أبي عبيدة بن الجراح، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد وأبو يعلى والبزار وفيه بشار بن أبي سيف ولم أر من وثقه ولا جرحه وبقية رجاله ثقات (3/27).

[8] رواه الطبراني في الأوسط (5/13)، عن أبي هريرة، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الأوسط وفيه الربيع بن بدر وهو ضعيف (3/400)، وقال الألباني في ضعيف الجامع: ضعيف جدا (3579).

[9] رواه البخاري في الصوم (1903)، وأحمد في المسند (9839)، وأبو داود في الصوم (2362)، والترمذي في الصوم (707)، وابن ماجه في الصيام (1689)، عن أبي هريرة.

[10] انظر: فيض القدير (4/250).

[11] للمزيد راجع ما ذكرناه في كتابنا: (فقه الصيام) صـ86، وما ذكرناه في (فتاوى معاصرة) تحت عنوان: تأثير المعاصي على الصيام (1/309).

[12] إشارة إلى الحديث: "إن في الجنة بابا يقال له: الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلن يدخل منه أحد"، متفق عليه: رواه البخاري في الصوم (1896)، ومسلم في الصيام (1152)، وأحمد في المسند (22818)، والنسائي في الصيام (2236)، عن سهل بن سعد.