د. يوسف القرضاوي

الحقُّ والخير: قيمتان من القِيَم العليا، التي تحرص عليهما كلُّ أمة راشدة، وكلُّ ديانة سماوية أو فلسفة أرضية: أن يعرف الناس الحقَّ ويعتنقوه، وأن يحبُّوا الخير ويفعلوه.

وأستطيع أن أقول وأنا مطمئن: إن عمل الخير وإشاعته وتثبيته، يعدُّ من أهداف الرسالة المحمدية، ومن مقاصد الشريعة الإسلامية الأساسية، وإن لم يذكره الأصوليون القدامى - صراحة - في المقاصد أو الضروريات الأصلية، التي حصروها في خمس أو ست، وهي: المحافظة على الدين، وعلى النفس، وعلى النسل، وعلى العقل، وعلى المال، وزاد بعضهم سادسة، هي: المحافظة على العِرض.

وإنما لم يذكر علماؤنا القدامى (الخير) وحبَّه وفعله والدعوة إليه، ضمن الأشياء الأساسية التي جاءت الشريعة للمحافظة عليها، لأنهم أدرجوها ضمن الضرورة الأولى والعظمى، وهي: الدين، فالدين عندهم - وهو أسُّ الشريعة وجوهرها - يشمل فيما يشمل: معرفة الحقِّ، وفيه تدخل العقائد التي هي أساس الدين، وحبُّ الخير وفعله، وفيه تدخل الزكاة والصدقات وغيرها من دعائم الخير.

و(الخير) قد يُذكر في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية، بلفظ (الخير) نفسه، وقد يذكر بألفاظ أخرى تحمل مضمونه، مثل: البرِّ، والإحسان، والرحمة، والصدقة، وتفريج الكُربة، وإغاثة الملهوف، وغير ذلك.

ويأتي العمل الخيري في القرآن والسنة بصِيَغ شتَّى، بعضها: أمر به، أو ترغيب فيه. وبعضها: نهي عن ضدِّه، أو تحذير منه.

بعضها مدح لفاعلي الخير، وبعضها ذمٌّ لمَن لا يفعل فعلهم.

بعضها يُثني على فعل الخير في ذاته، وبعضها يُثني على الدعوة إليه، أو التعاون عليه، أو التنافس فيه.

وهنا نجد الإسلام يدعو إلى:

فعل الخير:

قال تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77]، وقال: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} [آل عمران:115].

قول الخير:

قال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83]، وفي الحديث: "مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقُل خيرا أو ليصمت"[1].

المسارعة إلى الخير:

قال سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} [آل عمران:134،133]، وفي وصف بعض مؤمني أهل الكتاب: {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [آل عمران:114]، وفي وصف أهل الخشية من ربهم: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:61].

التسابق على الخير:

قال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } [المائدة:48]، وقال سبحانه: {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [المائدة:48].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء الفقراء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدُّثُور من الأموال بالدرجات العُلا، والنعيم المقيم، يصلُّون كما نصلِّي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموال يحجُّون بها، ويعتمرون، ويجاهدون، ويتصدَّقون. قال: "ألا أحدِّثكم بأمر إن أخذتم به أدركتم مَن سبقكم، ولم يدرككم أحد بعدكم، وكنتم خير مَن أنتم بين ظَهرَانَيه، إلا مَن عمل مثله؟ تسبِّحون، وتحمدون، وتكبِّرون خلف كلِّ صلاة ثلاثا وثلاثين"[2].

الدعوة إلى الخير:

قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران:104]، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من دلَّ على خير فله مثل أجر فاعله"[3].

الحضِّ على الخير:

ومن أعظم دلائل الخير: إطعام المسكين، حتى لا يهلك جوعا، والناس إلى جواره يطعمون ويشبعون!

قال الله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون:1-3]، وقال في شأن الكافر الذي استحقَّ دخول الجحيم: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الحاقة:34،33]، وينكر الإسلام على المجتمع الجاهلي تركه لهذه الفريضة: {كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الفجر:18،17].

وهنا أضاف الإسلام إلى فريضة إطعام المسكين: فريضة الحضِّ على طعام المسكين. ومثل طعام المسكين: كسوته ونفقته، ورعاية سائر ضروراته وحاجاته.

نيَّة الخير:

فمَن لم يكن لديه قدرة على فعل الخير، فليجعل ذلك من نيَّته، فربما كانت نيَّة المرء خيرا من عمله، كما في حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالا وعلما، فهو يتَّقي فيه ربه، ويصِل فيه رحِمه، ويعلم لله فيه حقَّا، فهذا بأفضل المنازل؛ وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا، فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالا لعملتُ بعمل فلان. فهو بنيَّته، فأجرهما سواء. وعبد رزقه الله مالا، ولم يرزقه علما، يخبط في ماله بغير علم، ولا يتَّقي فيه ربه، ولا يصِل فيه رحِمه، ولا يعلم لله فيه حقًّا فهذا بأخبث المنازل؛ وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما، فهو يقول: لو أن لي مالا لعملتُ فيه بعمل فلان. فهو بنيَّته، فوزرهما سواء"[4].

فعل الخير وإن صغُر:

قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة:7]، وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:40]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبق درهم مائة ألف درهم". قالوا: وكيف؟ قال: "كان لرجل درهمان، تصدَّق بأحدهما، وانطلق رجل إلى عُرض ماله فأخذ منه مائة ألف درهم فتصدَّق بها"[5].

 وقال صلى الله عليه وسلم : "اتقوا النار ولو بشقِّ تمرة، فمَن لم يجد شقَّ تمرة فبكلمة طيبة"[6]، وقال أيضا: "مَن تصدَّق بعَدل تمرة من كسب طيِّب - ولا يقبل الله إلا الطيِّب - وإن الله يتقبَّلها بيمينه، ثم يُرَبِّيها لصاحبها، كما يُرَبِّي أحدكم فَلُوَّه (مُهْره) حتى تكون مثل الجبل"[7].

ذمُّ المنَّاعين للخير:

وكما مدح القرآن فاعلي الخير والداعين إليه: ذمَّ أبلغ الذمِّ: الذين يمنعون الخير، فقال تعالى في التشنيع على بعض المشركين من خصوم رسول الله، وأعداء دعوته: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} [القلم:10-12].

فجعل من أوصاف هذا المشرك الذميمة جملة من الرذائل مثل: كثرة الحَلِف، والمهانة (حقارة النفس)، والهمز (الطعن في الآخرين)، والمشي بين الناس بالنميمة، وكثرة المنع للخير، والاعتداء، والإثم، وهكذا نجد صفة أو رذيلة (منَّاع للخير) ضمن ما ذمَّه القرآن الكريم.

وكذا قال تعالى على لسان قرين الإنسان يوم القيامة: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ} [ق:25].

التعاون على عمل الخير فريضة:

ومن أصول الخير في الإسلام: إيجاب التعاون عليه، فالمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه وأعوانه، وما لا يستطيعه الفرد قد تستطيعه الجماعة؛ ومن ثمَّ قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2].

وقال تعالى على لسان ذي القرنين يردُّ على القوم الذين طلبوا أن يدفعوا له خَرْجا ويتولَّى الدفاع عنهم: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} [الكهف:95]. وهي صورة التعاون بين الحاكم الصالح والشعب.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضا". وشبَّك بين أصابعه[8]، وقال: "يد الله مع الجماعة"[9].

ومن التعاون المطلوب هنا: تعاون أرباب الأموال مع الجمعيات الخيرية، والجهات المعنيَّة بالضعفاء، والمرضى والمعُوقين وذوي الحاجات الدائمة أو الطارئة من الناس. "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"[10].

إثابة كل مَن يسهم في النشاط الخيري:

ومن أصول عمل الخير: إثابة كلِّ مَن يقوم بجهد ما في عمل الخير، وتوصيله إلى أهله، فعن رافع بن خَدِيج رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "العامل على الصدقة بالحقِّ لوجه الله تعالى، كالغازي في سبيل الله عزَّ وجلَّ، حتى يرجع"[11]. فجعل العامل على الصدقة - تحصيلا أو توزيعا - كالمجاهد في سبيل الله، إذا توافر فيه أمران: تحرِّي الحق، وابتغاء وجه الله بعمله، وإن كان يأخذ عليه أجرا.

وعن عائشة رضى الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة، كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها بما اكتسب، وللخادم مثل ذلك، لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئا"[12]. فأشرك مع الزوج صاحب المال: الزوجة التي تنفق، والخادم الذي يساعد.

ويدخل في هذا العاملون في الجمعيات الخيرية والإغاثية، وإن كانوا يأخذون أجرا على أعمالهم، إذا صحَّت نيَّاتهم وقصدوا بعملهم - في الأساس -  وجه الله تعالى، ولهذا اعتبر الحديث الشريف العامل على الصدقة (الزكاة) كالغازي في المجاهد سبيل الله. مع أن القرآن فرض له أجره من الزكاة نفسها من مصرف (العاملين عليها).

..............
[1] متفق عليه: رواه البخاري في الأدب (6019)، ومسلم في الإيمان (48)، وأحمد في المسند (16370)، وأبو داود في الأطعمة (3748)، والترمذي في البر والصلة (1967)، وابن ماجه في الأدب (3672)، عن أبي شريح الخزاعي.

[2] متفق عليه: رواه البخاري في الأذان (843)، ومسلم في المساجد (595)، وأحمد في المسند (7243)، وأبو داود في الوتر (1504).

[3] رواه مسلم في الإمارة (1893)، وأحمد في المسند (17084)، وأبو داود في الأدب (5129)، والترمذي في العلم (2671)، عن أبي مسعود الأنصاري.

[4] رواه أحمد في المسند (18024)، وقال مخرِّجوه: حديث حسن رجاله ثقات رجال الشيخين، غير صحابيه أبي كبشة، وسالم لم يسمع من أبي كبشة، والترمذي (2325)، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (4228)، كلاهما في الزهد، والطبراني في الكبير (22/344)، والبيهقي في الكبرى كتاب الزكاة (4/189)، عن عامر بن سعد.

[5] رواه النسائي (2528)، وابن خزيمة (4/99)، وابن حبان (8/135)، وقال الأرناؤوط: إسناده حسن، والحاكم (1/576)، وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي، والبيهقي في الكبرى (4/181)، كلهم في الزكاة، عن أبي هريرة، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (3606).

[6] متفق عليه: رواه البخاري في الرقاق (6540)، ومسلم في الزكاة (1016)، وأحمد في المسند (18253)، والنسائي في الزكاة (2553)، عن عدي بن حاتم.

[7] متفق عليه: رواه البخاري (1410)، ومسلم (1014)، كلاهما في الزكاة، وأحمد في المسند (8381)، عن أبي هريرة.

[8] متفق عليه: رواه البخاري في المظالم (2446)، ومسلم في البر والصلة (2585)، وأحمد في المسند (19624)، والترمذي في البر والصلة (1928)، والنسائي في الزكاة (2560)، عن أبي موسى الأشعري.

[9] رواه ابن حبان في السير (10/437)، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح، والبيهقي في الشعب باب فضل الجماعة (6/66)، عن عرفجة الأشجعي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3621).

[10] رواه مسلم في الذكر والدعاء (2699)، وأحمد في المسند (7942)، وأبو داود في الأدب (4946)، والترمذي في القراءات (2945)، وابن ماجه في المقدمة (225)، عن أبي هريرة.

[11] رواه أحمد في المسند (15826)، وقال مخرِّجوه: حسن، وأبو داود في الخراج والإمارة (2936)، والترمذي (645)، وقال: حديث حسن، وابن ماجه (1809)، وابن خزيمة (4/51)، والحاكم (1/564)، وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي، أربعتهم في الزكاة.

[12] متفق عليه: رواه البخاري (1425)، ومسلم (1024)، كلاهما في الزكاة، وأحمد في المسند (24171)، وأبو داود (1685)، والترمذي (672)، كلاهما في الزكاة، وابن ماجه في التجارات (2294).