د. مصطفى الفقي  

لعله من اللافت للنظر أن معظم الرموز الدينية الإسلامية الكبيرة من أمثال الشيوخ «الشعراوي» و«الغزالي» و«سيد سابق» و«القرضاوي» قد ذاع صيتها وانتشر اسمها وهم خارج الوظائف الرسمية، ولا يشغلون مناصب بارزة في المؤسسة الدينية الوطنية.

والشيخ «القرضاوي» ـ وهو رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ـ الذي يعيش في قطر في العقود الأخيرة يمثل علامة بارزة في ميدان الدعوة الإسلامية علي المستوي الدولي، ولقد لمست شخصياً حفاوة الدولة القطرية بالشيخ الأزهري المصري وتقديرهم لمكانته واحترامهم لشخصيته في عهد الأميرين الأب والابن.

ولقد اقتربت من الشيخ الجليل ـ الذي كان واحداً من أقطاب جماعة «الإخوان المسلمين» منذ سنوات طويلة ـ حيث كانت مناسبة الاقتراب هي أنني تلقيت دعوة كريمة من رئيس نادي «الجسرة» في «قطر» لافتتاح موسمه الثقافي عام ١٩٨٩ وقد حظيت أثناء تلك الزيارة بلقاء مطول مع أمير قطر الحالي الذي كان ولياً للعهد

وقد تم اللقاء في حضور وزير الإعلام القطري آنذاك والسفير المصري في «الدوحة» ثم استقبلت في مساء ذات اليوم بمقر إقامتي بالفندق فضيلة الشيخ «يوسف القرضاوي» الذي سعدت بلقائه لعدة ساعات سمعت فيها منه ما أثلج صدري عن سماحة الإسلام وبساطة الشيخ وابتعاده عن التزمت وتفهمه الكامل لروح العصر،

 حتي إنني عرفت من فضيلته أن كريماته كن يدرسن في الغرب حينذاك طلباً لدرجات علمية عليا في مجالات البحث العلمي المتقدم وهن يعشن حياة الغرب مع الالتزام بالتقاليد الإسلامية وتعاليم الدين الحنيف، وقد شكا لي الشيخ يومها من أسلوب تعامل الأمن المصري معه واستهداف وزير الداخلية الراحل اللواء «زكي بدر» شخص الشيخ،

 ومعاملته بأسلوب غير مريح في زياراته لوطنه الأم مصر ووعدت فضيلته يومها بأن أنقل وجهة نظره إلي ولاة الأمور في مصر وقد فعلت، ولاحظت أن الرجل يحظي لدي المسؤولين في القاهرة بدرجة من التوقير لا تقل عن تلك التي ينالها في وطنه الثاني «قطر». وقد أهداني الشيخ في تلك الأمسية مؤلفاته، وظللنا نمطره ـ أنا وزوجتي ـ بعشرات الأسئلة في المسائل الفقهية والدعوية لاستجلاء الحقائق والاستنارة برأي ذلك الشيخ المرموق،

وكان ذلك في وقت لم تحتدم فيه المواجهة بين الإسلام وخصومه. كما ناقشنا دور «إيران» التي كانت خارجة لتوها من حرب طويلة مع «عراق» «صدام حسين» واتفقنا يومها علي أن «إيران» يجب أن تكون إضافة إيجابية وليست خصماً سلبياً للعالمين العربي والإسلامي.

 ثم ظللت لسنوات طويلة أتابع مسيرة الشيخ من خلال قناة «الجزيرة» وغيرها وأتعقب خطواته الرصينة، ومنها زيارته الشهيرة للمملكة المتحدة والموقف الواعي لعمدة لندن السابق تجاه شيخنا الوقور، إلي أن تلقيت دعوة مع بدايات عام ٢٠٠٨ لحضور حفل زفاف ابنة إحدي العائلات الصديقة

 وفوجئت أن والد العريس هو الشيخ «القرضاوي» فسعيت إلي المناسبة وهدفي أن أرى الشيخ الذي اشتقت للحوار معه ووجدته في يوم عرس ابنه كما هو دائماً واضح الفكر معتدل الرؤية لا يعرف التزمت إطلاقاً ويحمل من الإسلام سماحته وبساطته، حتي إنه حضر الجانب الترفيهي من الاحتفال بعرس ابنه بعد أن انصرف أقرانه الضيوف من الائمة والعلماء،

 كما تابع الشيخ فقرات الحفل الراقي واستمع إلي الموسيقي الهادئة بغير صخب أو ضجيج.

وقد لفت نظري عند استقباله لي حدة ذاكرته في هذه المرحلة من العمر لأنه تذكر لقاءنا في «الدوحة» كاملاً وأشار إلي بعض ما جاء فيه، وبدا لي في تلك الأمسية شاباً يزحف نحو الثمانين ورأيت فيه البقية الباقية من تلك الكوكبة النادرة من كبار علماء المسلمين في عصرنا،

ولقد لاحظت دائماً اعتزازه بأزهريته وارتباطه بالعلماء الكبار الذين درس علي أيديهم أو زاملهم في مشوار حياته الثرية بالعلم والمعرفة، بالتقي والورع، بالاعتزاز بالنفس وسمو المكانة وسوف أظل متأثراً بسماحة الشيخ واتساع أفقه.

 ولقد قرأت في الصحف مؤخراً أنه قد استقبل وفداً من الحاخامات اليهود الذين يرفضون الفكر الصهيوني ولا يقبلون سياسات إسرائيل بل يعلقون علي صدورهم شارات تقول «نحن يهود ولكننا لسنا صهاينة»،

وقد دافع الشيخ عن تصرفه المتحضر مؤكداً أن خلافنا لم ولن يكون مع اليهودية كديانة ولا مع اليهود كأتباع لها، وفي ظني أن نموذج هذا الشيخ يحتاج إلي تعزيز وتدعيم دائمين، فهو يري من دينه الحنيف وجهه الصحيح ولا ينصاع لفكر متطرف أو عقل متجمد أو فكر متزمت ولا يعرف الغلو أو التعصب في العلاقة بين أصحاب الديانات بل بين الفرق الإسلامية ذاتها داخل الدين الواحد.

.. إنه الشيخ «يوسف القرضاوي» ابن «الدلتا المصرية» الذي تشع أنوار علمه من فوق ضفاف الخليج ليرفع كلمة الله الصحيحة في كل زمان وينشر أنواره المضيئة في كل مكان.

..........
- نقلا عن صحيفة المصري اليوم