د. يوسف القرضاوي

من أبرز الدلائل على رسوخ معنى الخير، ومشاعر البرِّ والمرحمة، وعمق جذوره في تاريخ أمتنا: كثرة المؤسسات التي تُعنى بخير الإنسان، والبرِّ بالإنسان.

ويسرُّني أن أنقل هنا صفحات مشرقة مما كتبه الداعية الكبير العلاَّمة الشيخ الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله في كتابه البديع (من روائع حضارتنا) عن هذه المؤسسات، قال:

(كانت هذه المؤسسات نوعين: نوعا تنشئه الدولة وتوقف عليه الأوقاف الواسعة، ونوعا ينشئه الأفراد من أمراء وقوَّاد وأغنياء ونساء. ولا نستطيع في مثل هذا الحديث أن نعدِّد أنواع المؤسسات الخيرية كلَّها، ولكن حسبنا أن نلمَّ بأهمِّها:

فمن أول المؤسسات الخيرية: المساجد، وكان الناس يتسابقون إلى إقامتها ابتغاء وجه الله، بل كان الملوك يتنافسون في عظمة المساجد التي يؤسِّسونها، وحسبنا أن نذكر هنا مبلغ ما أنفقه الوليد بن عبد الملك من أموال بالغة على بناء الجامع الأُموي، مما لا يكاد يصدِّقه الإنسان لكثرة ما أنفق من مال، وما استخدم في إقامته من رجال.

ومن أهمِّ المؤسسات الخيرية: المدارس والمستشفيات. وسنفرد لها حديثا خاصًا إن شاء الله.

ومن المؤسسات الخيرية: بناء الخانات والفنادق للمسافرين المنقطعين وغيرهم من ذوي الفقر.

ومنها: التكايا والزوايا، التي ينقطع فيها مَن شاء لعبادة الله عزَّ وجلَّ.

ومنها: بناء بيوت خاصة للفقراء، يسكنها مَن لا يجد ما يشتري به أو يستأجر دارًا.

ومنها: السقايات، أي تسبيل الماء في الطرقات العامَّة للناس جميعًا.

ومنها: المطاعم الشعبية، التي كان يفرَّق فيها الطعام من خبز ولحم وحساء (شوربة) وحلوى، ولا يزال عهدنا قريبًا بهذا النوع في كلٍّ من تكيَّة السلطان سليم، وتكيَّة الشيخ محيي الدين بدمشق.

ومنها: بيوت للحجاج في مكة، ينزلونها حين يفِدون إلى بيت الله الحرام، وقد كثرت هذه البيوت حتى عمَّت أرض مكة كلَّها، وأفتى بعض الفقهاء ببطلان إجارة بيوت مكة في أيام الحج، لأنها كلُّها موقوفة على الحجاج.

ومنها: حفر الآبار في الفلوات لسقي الماشية والزروع والمسافرين، فقد كانت كثيرة جدًا بين بغداد ومكة، وبين دمشق والمدينة، وبين عواصم المدن الإسلامية ومدنها وقُراها، حتى قلَّ أن يتعرَّض المسافرون - في تلك الأيام - لخطر العطش.

ومن المؤسسات الاجتماعية: ما كانت وقفاً لإصلاح الطرقات والقناطر والجسور.

ومنها: ما كانت للمقابر يتبرَّع الرجل بالأرض الواسعة لتكون مقبرة عامة.

ومنها: ما كان لشراء أكفان الموتى الفقراء وتجهيزهم ودفنهم.

ومنها: المؤسسات الخيرية لإقامة التكافل الاجتماعي، واليتامى ولختانهم ورعايتهم، ومؤسسات للمقعَدين والعميان والعجز، يعيشون فيها موفوري الكرامة لهم كلُّ ما يحتاجون من سكن وغذاء ولباس وتعليم أيضًا.

وهناك مؤسسات لتحسين أحوال المساجين، ورفع مستوى تغذيتهم بالغذاء الواجب، لصيانة صحَّتهم، ومؤسسات لإمداد العميان والمقعَدين بمَن يقودهم ويخدمهم.

ومؤسسات لتزويج الشباب والفتيان العزَّاب ممَّن تضيق أيديهم أو أيدي أوليائهم عن نفقات الزواج وتقديم المهور ... فما أروع هذه العاطفة وما أحوجنا إليها اليوم!

ومنها: مؤسسات لإمداد الأمهات بالحليب والسكر، وهي أسبق في الوجود من جمعية (نقطة الحليب) عندنا، مع تمحُّضها للخير الخالص لله عزَّ وجلَّ، وقد كان من مَبَرَّات صلاح الدين: أنه جعل في أحد أبواب القلعة - الباقية حتى الآن في دمشق - ميزابًا يسيل منه الحليب، وميزابًا آخر يسيل منه الماء المذاب فيه السكر، تأتي الأمهات يومين في كلِّ أسبوع ليأخذن لأطفالهن وأولادهن ما يحتاجون إليه من الحليب والسكر.

ومن أطرف المؤسسات الخيرية: وقف (الزبادي)[1]، للأولاد الذين يكسرون الزبادي وهم في طريقهم إلى البيت، فيأتون إلى هذه المؤسسة ليأخذوا زبادي جديدة بدلاً من المكسورة، ثم يرجعوا إلى أهليهم وكأنهم لو يصنعوا شيئًا.

وآخر ما نذكره من هذه المؤسسات: المؤسسات التي أُقيمت لعلاج الحيوانات المريضة، أو لإطعامها، أو لرعايتها حين عجزها، كما هو شأن المرج الأخضر في دمشق الذي يُقام عليه الملعب البلدي الآن، فقد كان وقفًا للخيول والحيوانات العاجزة المُسنَّة ترعى فيه حتى تلاقي حتفها)[2].

...........

[1] جمع زبدية، وهي إناء من الفخار عادة يوضع فيه اللبن حتى يتخمر.

[2] من روائع حضارتنا للدكتور مصطفى السباعي (178 ـ 182).