د. يوسف القرضاوي

مما يتصل بقضية الدِّين والسياسة: ما انتهجته بعض الأنظمة الحاكمة وحرَّض عليه العلمانيون، أو رحبوا به، من حرمان الاتجاهات الإسلامية من تأسيس حزب سياسي، وتحريم ذلك عليهم تحريما مطلقا، متذرعين بحجج ليست في الواقع إلا شبهات واهية أوهن من بيت العنكبوت:

1- قالوا – أولا - إن الدِّين أطهر وأنقى وأعلى من أن يتدنس بالسياسة، لهذا لا يجوز إنشاء حزب سياسي على أساس الدِّين.

2- وقالوا – ثانيا - إن هذا الحزب لو سمح له أن ينشأ، سيزعم أنه يحكم بالحق الإلهي، وباسم السماء، فلا يجوز لأحد أن ينقده أو يعارضه، وإلا كان كافرا أو فاسقا.

3- وقالوا – ثالثا - إننا لو سمحنا للإسلاميين بتكوين حزب إسلامي، لا بد في بلد كمصر: أن تسمح للأقباط بتكوين حزب مسيحي. وهذا سيكون مدعاة لإثارة الفتن الطائفية، التي لا تؤمن عواقبها.

4- وقالوا – رابعا - إن الحزب الإسلامي سيستخدم المساجد للدعاية السياسية، في حين لا يستخدمها غيره.

وهذه كلها مردود عليها، ولا تثبت على محكِّ النقد:

1- فاعتقاد أن السياسة دنس ورجس من عمل الشيطان: اعتقاد لا أساس له من الدِّين ولا من العلم.

وإذا كانت السياسة عمل العقل في تدبير شؤون الخَلق بما يصلحهم ويرقى بهم في ضوء الشريعة، أو كما عرفها بعضهم[1]: كل عمل يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، فليست في ذاتها دنسا ولا رذيلة ولا حراما ولا رجسا، إنما الدنس في نفوس الذين يستغلون السياسة للإثراء الحرام، والإفساد في الأرض، والطغيان على عباد الله.

وكم رأينا من الساسة والقادة من أقام العدل، وأيد الحق، ودعا إلى الخير، وأحيا الله به البلاد، وأصلح به العباد.

2- ودعوى أن الحزب الإسلامي سيزعم أنه يحكم بالحق الإلهي، ويتكلم باسم السماء: دعوى غير صحيحة ولا صادقة. والحزب الإسلامي لا يرخص له بتكوين حزبه إلا بعد أن يقدم برنامجه، ويحدد فيه رؤيته ورسالته، ويبين أهدافه ووسائله، ومناهجه في إصلاح المجتمع من نواحيه المختلفة (اقتصادية واجتماعية وثقافية وتربوية وسياسية وأخلاقية ... إلخ) فإذا كان في هذا البرنامج دعوى الحكم بالحق الإلهي: رفض طلبه. وإن كان شأنه شأن غيره من الأحزاب يعمل في ظل الدستور، ويستمد مرجعيته من الشريعة الإسلامية السمحة، مقرونة بالاجتهاد والتجديد، المرتبط بفقه المقاصد والموازنات والأولويات، فليس من حقنا أن نُقوِّله ما لم يقل، ونرميه بتهمة ليس عليها دليل ولا برهان.

إن علي بن أبي طالب سمح لجماعة الخوارج المعارضين لحكمه: أن يكون لهم وجودهم الحزبي والسياسي، مع أفكارهم المعارضة، بشرط أن لا يبدأوا المسلمين بقتال.

3- ودعوى أن إعطاء الإسلاميين حق تكوين حزب: يفتح الباب لمطالبة الأقباط بحزب لهم: دعوى مرفوضة أيضا، فما المانع أن يكون للأقباط حزب سياسي يعمل في وضح النهار، بدل أن يتهمهم من يتهمهم بأنهم يعملون بالسياسة من خلال الكنيسة، بدون حزب مرخص.

إن إعطاء الأقباط وأمثالهم حق تكوين حزب سياسي علني يقوم على مبادئ وأسس إنسانية عامة؛ لا حرج فيه، ولا مانع منه، ما دام يقوم على رعاية المصالح الوطنية المشتركة، ولا يفتات على حق الأكثرية في أن يحكموا بشريعتهم إذا ارتضوها، ولا يستعين بأي قوة أجنبية على إخوانه ومواطنيه.

4- وادعاء أن الحزب الإسلامي سيستخدم المساجد للدعاية السياسية: ليس مُسلما، فالمسجد ليس للإسلاميين وحدهم، إنما هو مسجد المسلمين جميعا. ويجب أن يتجنب المسجد الدعاية للأشخاص، والمهاترات الحزبية والشخصية.

لكن لا نستطيع أن نمنع المساجد وخطباءها أن يؤيدوا من يتبنى الشريعة الإسلامية، وأن يرفضوا من رفضها، دون تحديد ولا تعيين. فهذا من باب النصيحة في الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي تميزت به هذه الأمة. وقد سئلت منذ سنوات عن استخدام المسجد في السياسة، وكان مما أجبته:

(ورأيي أن هذا لا يمنع على إطلاقه، ولا يجوز على إطلاقه.

 إنما الذي يمنع منه ما كان على وجه تذكر فيه أسماء محددة وتفاصيل جزئية، على وجه الطعن والتجريح والتشهير، فهذا لا ينبغي أن يعرض المنبر لمثله، ولا يجوز أن يسلك سبيل المهاترة والتعصب الحزبي.

إنما يتعرض لكل ما يخالف الشريعة، وإن كان هو سياسة الحكومة، فالمسجد قد أقيم لتأكيد شرع الله، لا لتأييد سياسة حكومة معينة.

فإذا خالفت الحكومة شرع الله، كان المسجد في صف الشرع، لا في صف الحكومة.

ولا يجوز بحال من الأحوال حرمان المسجد من هذا الحق الطبيعي والمنطقي والتاريخي: توعية الأمة وتحذيرها من الطواغيت الذين يعطلون شريعتها ويحكمونا تبعًا لأهوائهم أو أهواء سادتهم، الذين لن يغنوا عنهم من الله شيئًا.

في بعض البلاد الإسلامية أصدرت الحكومة قانونًا للأسرة مخالفًا لشريعة الإسلام، فقاومه العلماء، ونددوا به في المساجد، إذْ لا يملكون غيرها، فكل وسائل الإعلام الأخرى ملك الحكومة.

فما كان من السلطة الطاغية إلا أن حكمت على هؤلاء العلماء الشجعان بالإعدام والإحراق!

هذا ما حدث في الصومال على وجه التحديد[2].

إن السلطات الحاكمة تريد استخدام المسجد بوقًا لسياستها، فإذا اصطلحت مع إسرائيل فالصلح خير: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ}[الأنفال:61].

وإن ساءت علاقتها معها، فاليهود أشد الناس عداوة للذين آمنوا، والصلح مع العدو الغاصب حرام وخيانة!

وهكذا لا يصبح المنبر لسان صدق لرسالة الإسلام، بل جهاز دعاية لسياسة الحكام، وهذا ما يفقد المسجد مصداقيته، ويلغي تأثيره في الأمة، ويحط من كرامة العلماء والدعاة إلى الله، ونسأل الله العافية في ديننا ودنيانا)[3].

وأخشى أن يزيد العلمانيون في دعاواهم لحرمان الإسلاميين من حزب سياسي: أنهم يستدلون بآيات القرآن وأحاديث الرسول، التي تؤثر في جماهير الشعب، على حين لا يستطيع خصومهم أن يفعلوا ذلك.

هذا، مع أن القرآن قرآن الجميع، والرسول رسول الجميع، ولا يقدر أحد أن يمنع أي مسلم من استعمال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في تأييد وجهته، ما دام يضعها في موضعها الصحيح.

على أن هذه الدعاوى قد سقطت من الناحية العملية، فهناك عدد من البلاد فيها أحزاب إسلامية: في الأردن، وفي المغرب، وفي اليمن، وفي فلسطين، وفي تركيا، وفي ماليزيا، وفي إندونيسيا، وفي غيرها، وقد خاضت معارك الانتخابات، وحصلت على نسبة كبيرة من المقاعد، ولم يشتك الشاكون من وقوع هذه الاتهامات التي ألصقوها جزافا بالحزب السياسي الإسلامي.

إضاءات ضرورية:

وأود أن أذكر بعض الإضاءات في هذه القضية:

الأولى: أنه لا يجوز أن يحرم بعض المواطنين من حقهم في المشاركة السياسية في بناء وطنهم وإصلاحه وتطويره، لمجرد أنهم متدينون، أو لأن لهم رؤية في الإصلاح والتغيير منبثقة عن دينهم وتراثهم. فالتدين الصحيح والاستقامة على أمر الله: لا يجوز أن تكون سببا في حرمان الإنسان من حقه المشروع في المشاركة في سياسة بلده. وكذلك الرؤية للاصلاح، المنبثقة عن الدين.

وقد أعطي الحق للتيارات المختلفة لإنشاء أحزاب سياسية: العلمانيين والليبراليين والقوميين والشيوعيين وغيرهم، فلماذا يحرم الإسلاميون من هذا الحق دون غيرهم؟

إن هذا يخالف الدستور الذي قرَّر المساواة بين جميع المواطنين، وهذه تفرقة لا مبرِّر لها.

وهو أيضا مخالف للمواثيق الدولية، وميثاق حقوق الإنسان، وغيرها.

الثانية: أنهم يقولون: لا يجوز تكوين أحزاب دينية، والإسلاميون لا يريدون إنشاء حزب ديني، بل حزب إسلامي. وفرق بين الدِّيني والإسلامي. فالدِّين في عرف الناس يعني الجانب العقدي والتعبدي والروحي، أما الإسلامي فهو أشمل وأجمع، وهو يضم الاقتصاد والسياسة والثقافة والتربية والإدارة ... إلخ.

ولا مانع لدى الإسلاميين أن يدخل في هذا الحزب أشخاص من غير المسلمين، لأن برنامجهم للجميع لا للمسلمين وحدهم.

الثالثة: أن الأحزاب السياسية تمثل قوى شعبية سياسية موجودة على أرض الواقع، من حقها أن يكون لها رأي في سياسة بلدها.

والإسلاميون قوة سياسية موجودة وبارزة، وظاهرة التأثير، ومسموعة الكلمة.

وقد أثبتت الانتخابات في أكثر من بلد: أنها القوة الأولى المؤيَّدة من جماهير الشعوب في منطقتنا.

فكيف يمكن تجاهلها، وإهالة التراب عليها حية، {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8،9]، في حين يعطى حق الشرعية لأحزاب لا يكاد يسمع لها صوت، أو يحس لها بأثر؟!

.............

[1] نقلها ابن القيم عن ابن عقيل في الطرق الحكمية ص 44، وفي إعلام الموقعين (4/373)، وفي بدائع الفوائد (3/673).

[2] في عهد سياد برى الذي ثار عليه الشعب وخلعه، بعد صبر طويل.

[3] فتاوى معاصرة: ج2/ص 199 – 200. ط دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع. المنصورة.