بقلم العلامة الدكتور يوسف القرضاوي

سنختار أدلة ثلاثة أساسية: من نصوص الإسلام، ومن تاريخه، ومن طبيعته.

الدليل من نصوص الإسلام

أما نصوص الإسلام، فحسبنا منها آيتان من سورة النساء: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59،58].

فالخطاب في الآية الأولى للولاة والحكام: أن يراعوا الأمانات ويحكموا بالعدل، فإن إضاعة الأمانة والعدل نذير بهلاك الأمة وخراب الديار. ففي الصحيح: "إذا ضُيِّعَتِ الأمانة فانتظر الساعة"[1].

والخطاب في الآية الثانية للرعية المؤمنين: أن يطيعوا { وَأُولِي الْأَمْرِ} بشرط أن يكونوا (منهم) وجعل هذه الطاعة بعد طاعة الله وطاعة الرسول، وأمر عند التنازع برد الخلاف إلى الله ورسوله، أي الكتاب والسنة. وهذا يفترض أن يكون للمسلمين دولة تُهَيْمِن وتُطاع، وإلا لكان هذا الأمر عبثا.

وفي ضوء هاتين الآيتين المذكورتين ألَّف شيخ الإسلام ابن تيمية كتابه المعروف (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية) والكتاب مبني على الآيتين الكريمتين.

وفي القرآن آيات كثيرة تتعلَّق بشؤون الاجتماع والاقتصاد والجهاد والسياسة، معروفة مدروسة فيما عرف باسم (آيات الأحكام) وعنى بها العلماء الذين ألفوا في (أحكام القرآن) مثل: الرازي الجصاص الحنفي (ت370هـ) وابن العربي المالكي (ت453هـ).

وإذا ذهبنا إلى السنة، رأينا الرسول r يقول: "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية"[2]. ولا ريب أن من المحرَّم على المسلم أن يبايع أي حاكم لا يلتزم بالإسلام. فالبيعة التي تنجيه من الإثم أن يبايع مَن يحكم بما أنزل الله ... فإذا لم يوجد فالمسلمون آثمون حتى يتحقق الحكم الإسلامي، وتتحقق البيعة المطلوبة. ولا ينجي المسلم من هذا الإثم إلا أمران:

الإنكار - ولو بالقلب - على هذا الوضع المنحرف المخالف لشريعة الإسلام.

والسعي الدائب لاستئناف حياة إسلامية قويمة، يوجهها حكم إسلامي رشيد.

وجاءت عشرات الأحاديث الصحيحة - إن لم تكن مئاتها - في دواوين السنة المختلفة، عن الخلافة والإمارة والقضاء والأئمة وصفاتهم وحقوقهم من الموالاة والمعاونة على البر، والنصيحة لهم وطاعتهم في المنشط والمكره، والصبر عليهم، وحدود هذه الطاعة وهذا الصبر، وتحديد واجباتهم من إقامة حدود الله ورعاية حقوق الناس، ومشاورة أهل الرأي، وتولية الأقوياء الأمناء، واتخاذ البطانة الصالحة، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... إلى غير ذلك من أمور الدولة وشؤون الحكم والإدارة والسياسة.

ولهذا رأينا شؤون الإمامة والخلافة تُذكر في كتب تفسير القرآن الكريم، وفي شروح الحديث الشريف، وكذلك تذكر في كتب العقائد وأصول الدِّين، كما رأيناها تُذكر في كتب الفقه، كما رأينا كُتُبا خاصة بشؤون الدولة الدستورية والإدارية والمالية والسياسية، كالأحكام السلطانية للماوردي، ومثله لأبي يعلى، والغياثي لإمام الحرمين، والسياسة الشرعية لابن تيمية، وغيرها، مما سبق الإشارة إليها.

الدليل من تاريخ الإسلام:

أما تاريخ الإسلام، فينبئنا أن رسول الله r سعى بكل ما استطاع من قوة وفكر -مؤيدا بهداية الوحي- إلى إقامة دولة الإسلام، ووطن لدعوته، خالص لأهله، ليس لأحد عليهم فيه سلطان، إلا سلطان الشريعة. ولهذا كان يعرض نفسه على القبائل ليؤمنوا به ويمنعوه ويحموا دعوته[3]، حتى وفق الله قبيلتي الأوس والخزرج إلى الإيمان برسالته، فبعث إليهم مصعب بن عمير يتلو عليهم القرآن ويعلمهم الإسلام، فلما انتشر فيهم الإسلام جاء وفد منهم إلى موسم الحج مكون من (73) ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتين، فبايعوه r على أن يمنعوه مما يمنعون أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم، وعلى السمع والطاعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر[4] ... إلخ، فبايعوه على ذلك ... وكانت الهجرة إلى المدينة ليست إلا سعيا لإقامة المجتمع المسلم المتميِّز، تشرف عليه دولة متميزة.

كانت (المدينة) هي (دار الإسلام) وقاعدة الدولة الإسلامية الجديدة، التي كان يرأسها رسول الله r فهو قائد المسلمين وإمامهم، كما أنه نبيهم ورسول الله إليهم. ولهذا جعل الفقهاء من أنواع تصرفات الرسول: تصرفه بمقتضى الإمامة أو الرئاسة للدولة، وذكروا ما يترتب على ذلك من أحكام[5].

وكان الانضمام إلى هذه الدولة، لشد أزرها، والعيش في ظلالها، والجهاد تحت لوائها: فريضة على كل داخل في دين الله حينذاك. فلا يتم إيمانه إلا بالهجرة إلى دار الإسلام، والخروج من دار الكفر والعداوة للإسلام، والانتظام في سلك الجماعة المؤمنة المجاهدة التي رماها العالَم عن قوس واحدة.

يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال:72]. ويقول في شأن قوم: {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:79][6].

كما نزل القرآن الكريم يندد أبلغ التنديد بأولئك الذين يعيشون مختارين في دار الكفر والحرب، دون أن يتمكنوا من إقامة دينهم وأداء واجباتهم وشعائرهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:97-99].

وعند وفاة النبي r كان أول ما شغل أصحابه رضي الله عنهم: أن يختاروا (إماما) لهم، حتى إنهم قدَّموا ذلك على دفنه r فبادروا إلى بيعة أبي بكر، وتسليم النظر إليه في أمورهم[7]، وكذا في كل عصر من بعد ذلك. وبهذا الإجماع التاريخي ابتداءً من الصحابة والتابعين - مع ما ذكرنا من نصوص- استدل علماء الإسلام على وجوب نصب الإمام الذي هو رمز الدولة وعنوانها.

ولم يعرف المسلمون في تاريخهم انفصالا بين الدِّين والدولة، إلا عندما نجم قرن العلمانية في هذا العصر، وهو ما حذَّر حديث الرسول r منه، وأمر بمقاومته كما في حديث معاذ: "ألا إن رحى الإسلام دائرة، فدوروا مع الإسلام حيث دار، ألا إن القرآن والسلطان (أي الدِّين والدولة) سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب، ألا إنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم، فإن عصيتموهم قتلوكم، وإن أطعتموهم أضلوكم". قالوا: وماذا نصنع يا رسول الله؟ قال: "كما صنع أصحاب عيسى ابن مريم: نشروا بالمناشير، وحُمِلوا على الخُشب. موت في طاعة الله خير من حياة في معصية الله"[8].

لم يعرف تاريخنا دينا بلا دولة ولا دولة بلا دين:

هنا أنقل كلمة المفكر المغربي (محمد عابد الجابري) عن علاقة الدِّين بالدولة من خلال مرجعيتنا التراثية، فيقول عن ثنائية الدِّين والدولة: (إنها إذا طرحت بمضمونها الأصلي، الأوربي الذي يفيد المطالبة بفصل الدِّين عن الدولة، إنها إذا طرحت بهذا المضمون في مرجعيتنا التراثية تلك، فإن هذا الطرح سيفهم حتمًا على أنه (اعتداء على الإسلام) ومحاولة مكشوفة لـ(القضاء) عليه.

لماذ؟

للجواب عن هذا السؤال، جوابا مثمرا، يجب تجنب الاتهامات المجانية من قبيل الرمي بالتعصب وضيق الأفق ... إلخ، فضررها أكثر من نفعها، فضلا عن كونها تنمُّ عن عدم فَهم، أو على الأقل عن عدم تفهُّم لمحددات تفكير من يصدر عن المرجعية التراثية.

لننظر إذن إلى الكيفية التي تفهم بها عبارة (فصل الدِّين عن الدولة) داخل مرجعيتنا التراثية، المرجعية التي لا تحتمل هذه الثنائية (ثنائية دين / دولة) لأنه لم يكن هناك في التاريخ الإسلامي بمجمله (دين) متميز - أو يقبل التمييز والفصل - عن الدولة، كما لم يكن هناك قط (دولة) تقبل أن يفصل الدِّين عنها.

فعلا كان هناك حكام اتهموا بالتساهل في أمر من أمور الدِّين كالجهاد أومقاومة البدع ... إلخ، ولكن لا أحد من الحكام في التاريخ الإسلامي استغنى-أوكان في إمكانه أن يستغني- عن إعلان التمسك بالدِّين، لأنه لا أحد منهم كان يستطيع أن يلتمس الشرعية لحكمه خارج شرعية الإعلان عن خدمة الدِّين، والرفع من شأنه.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى لم يكن هناك في التاريخ الإسلامي، في أي فترة من فتراته، مؤسسة خاصة بالدِّين متميزة من الدولة، فلم يكن الفقهاء يشكلون مؤسسة، بل كانوا أفرادا يجتهدون في الدِّين ويفتون فيما يعرض عليهم من النوازل، أو تفرزه تطورات المجتمع من مشاكل.

وإذن فعبارة (فصل الدِّين عن الدولة) أو (فصل الدولة عن الدِّين) ستعني بالضرورة -داخل المرجعية التراثية- أحد أمرين أو كليهما معا: إما إنشاء دولة ملحدة غير إسلامية، وإما حرمان الإسلام من (السلطة) التي يجب أن تتولى تنفيذ الأحكام.

نعم يمكن أن تنجح في إقناع من يفكر من داخل المرجعية التراثية وحدها بأن الأمر لا يتعلَّق قط بإنشاء دولة ملحدة، ولا بنزع الصبغة الإسلامية عن المجتمع، يمكن أن تحلف له بأغلظ الأيمان بأن المقصود ليس هو هذا ولا ذاك، وسيكتفي بالقول: (الله أعلم) ويسكت. ولكنك لا تستطيع أبدا أن تقنعه بأن (فصل الدِّين عن الدولة) ليس معناه حرمان الإسلام من (السلطة) التي يجب أن تتولى تنفيذ الأحكام. وإذن فيجب البدء بالتمييز بين السلطة المنفذة للأحكام الشرعية وبين الهيئة الاجتماعية المسماة: الدولة.

لماذا؟

لأن الدِّين في نظره يشتمل على أحكام يجب أن تنفذ، وأن الدولة هي (السلطة) التي يجب أن تتولى التنفيذ).

3- الدليل من طبيعة الإسلام:

أما طبيعة الإسلام ورسالته، فذلك أنه دين عام، ومنهج حياة، وشريعة شاملة، فتستوعب شؤون الدنيا والآخرة، والفرد والمجتمع، وشريعة هذه طبيعتها لا بد أن تتغلغل في كل نواحي الحياة، لتصلحها وترقى بها، بالتوجيه والتشريع لها، والدولة إحدى الوسائل الهامة في ذلك، ولا يتصور أن تهمل شأن المجتمع والدولة، وتدع أمرها لمن لا يؤمن برسالة الدين في البناء والإصلاح. وربما كان من الذين يسعون إلى تنحية الدين من التشريع والتوجيه أصلا.

كما أن هذا الدِّين يدعو إلى التنظيم وتحديد المسئولية، ويكره الاضطراب والفوضى في كل شيء، حتى رأينا الرسول r يأمرنا في الصلاة أن نسوِّي الصفوف[9]، وأن يؤمنا أعلمنا[10]، وفي السفر يقول: "أَمِّرُوا أحدكم"[11].

يقول الإمام ابن تيمية في (السياسة الشرعية): (يجب أن يُعرف أن ولاية أمر الناس أمر من أعظم واجبات الدِّين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها، فإنَّ بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع، لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد عند الاجتماع من رأس. حتى قال النبي r: "إذا خرج ثلاثة في سفر، فليؤمِّروا أحدهم"[12]. وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو، أن النبي r قال: "لا يحل لثلاثة أن يكونوا بفلاة من الأرض إلا أمَّروا عليهم أحدهم"[13]، فأوجب تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر، تنبيها على سائر أنواع الاجتماع.

ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه الله من الجهاد والعدل، وإقامة الحج والجُمَع والأعياد، ونصرة المظلوم، وإقامة الحدود، لا تتم إلا بالقوة والإمارة. ولهذا رُوي: "إن السلطان ظل الله في الأرض"[14]. ولهذا كان السلف: كالفضيل بن عياض وأحمد ابن حنبل وغيرهما يقولون: لو كانت لنا دعوة مجابة، لدعونا بها للسلطان)[15] اهـ. وذلك أن الله يُصلح بصلاحه خَلقا كثيرا.

ثم إن طبيعة الإسلام باعتباره منهجا يريد أن يُوجه الحياة، ويحكم المجتمع، ويضبط سير البشر وفق أوامر الله: لا يُظن به أن يكتفي بالخطابة والتذكير والموعظة الحسنة، ولا أن يدع أحكامه ووصاياه وتعليماته في شتَّى المجالات إلى ضمائر الأفراد وحدها، فإذا سقمت هذه الضمائر أو ماتت، سقمت معها وماتت تلك الأحكام والتعاليم. وقد نقلنا عن الخليفة الثالث قوله: "إن الله ليَزع بالسلطان ما لا يَزع بالقرآن"[16].

فمن الناس مَن يهديه الكتاب والميزان، ومنهم مَن لا يردعه إلا الحديد والسنان. ولذا قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد:25].

قال ابن تيمية: (فمن عَدَل عن الكتاب عُدِّل بالحديد، ولهذا كان قوام الدِّين بالمصحف والسيف)[17].

وقال الإمام الغزالي في (إحيائه): الدنيا مزرعة الآخرة، ولا يتم الدِّين إلا بالدنيا، والمُلك والدِّين توأمان، فالدِّين أصل، والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع، ولا يتم المُلك والضبط إلا بالسلطان[18].

إن نصوص الإسلام لو لم تجئ صريحة بوجوب إقامة دولة للإسلام، ولم يجئ تاريخ الرسول وأصحابه تطبيقا عمليا لما دعت إليه هذه النصوص، لكانت طبيعة الرسالة الإسلامية نفسها تحتم أن تقوم للإسلام دولة أو دار، يتميَّز فيها بعقائده وشعائره وتعاليمه ومفاهيمه، وأخلاقه وفضائله، وتقاليده وتشريعاته.

فلا غنى للإسلام عن هذه الدولة المسئولة في أي عصر، ولكنه أحوج ما يكون إليها في هذا العصر خاصة. هذا العصر الذي برزت في (الدولة الأيديولوجية) وهي الدولة التي تتبنى فكرة، يقوم بناؤها كله على أساسها، من تعليم وثقافة وتشريع وقضاء واقتصاد، إلى غير ذلك من الشؤون الداخلية والسياسية الخارجية. كما نرى ذلك واضحا في الدولة الشيوعية والاشتراكية. وأصبح العلم الحديث بما وفره للدولة من تقدم تكنولوجي في خدمة الدولة، وأصبحت الدولة بذلك قادرة على التأثير في عقائد المجتمع وأفكاره وعواطفه وأذواقه وسلوكه بصورة فعَّالة، لم يُعرف لها مثيل من قبل. بل تستطيع الدولة بأجهزتها الحديثة الموجهة أن تغيِّر قِيَم المجتمع ومُثُله وأخلاقه رأسا على عقب، إذا لم تقم في سبيلها مقاومة أشد.

إن دولة الإسلام دولة تقوم على عقيدة وفكرة ورسالة ومنهج، فليست مجرد (جهاز أمن) أو (دفاع) يحفظ الأمة من التصارع الداخلي أو الغزو الخارجي، بل إن وظيفتها لأعمق من ذلك وأكبر. وظيفتها تعليم الأمة وتربيتها على تعاليم ومبادئ الإسلام، وتهيئة الجو الإيجابي، والمناخ الملائم، لتحويل عقائد الإسلام وأفكاره وتعاليمه إلى واقع ملموس، يكون قدوة لكل مَن يلتمس الهُدى، وحجة على كل سالك سبيل الرَّدَى.

ولهذا يُعرِّف ابن خلدون (الخلافة) بأنها: حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة. فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدِّين وسياسة الدنيا به[19].

ولهذا وصف الله المؤمنين حين يمكَّن لهم في الأرض، وبتعبير آخر حين تقوم لهم دولة، فقال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41].

ثم إن هذه الدولة العقائدية ليست ذات صفة محلية، ولكنها دولة ذات رسالة عالمية، لأن الله حمَّل أمة الإسلام دعوة البشرية إلى ما لديها من هُدى ونور، وكلَّفها الشهادة على الناس، والهداية للأمم، فهي أمة لم تنشأ بنفسها ولا لنفسها فحسب، بل أخرجت للناس، أخرجها الله الذي جعلها خير أمة وخاطبها بقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143].

ومن هنا وجدنا النبي r حين أتيحت له أول فرصة - بعد صلح الحديبية - كتب إلى ملوك وأمراء الأقطار في أركان الأرض يدعوهم إلى الله، والانضواء تحت راية التوحيد، وحمَّلهم إثم أنفسهم وإثم رعيتهم إذا تخلفوا عن ركب الإيمان، وكان يختم رسائله إلى أهل الكتاب بهذه الآية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64].

إن شعار دولة الإسلام ما قاله ربعي بن عامر لرستم قائد الفرس[20]: إنَّ الله ابتعثنا لنُخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام[21].

..............

[1] رواه البخاري في العلم (59) عن أبي هريرة، وأحمد في المسند (8729).

[2] رواه مسلم في الإمارة (1851) عن ابن عمر.

[3] راجع ما كتبه ابن كثير وغيره في كتب السيرة. وانظر ابن هشام (2/270) والروض الأنف (1/207).

[4] انظر: ابن كثير (3/158). والروض الأنف (1/218).

[5] انظر: (الإحكام) للقرافي صـ86 - 106، و(الفروق) له أيضا جـ1 صـ 205 - 209، وانظر: كتابنا (شريعة الإسلام صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان) صـ116 وما بعدها طبعة مكتبة وهبة. القاهرة.

[6] إن بديل الهجرة إلى الدولة المسلمة اليوم هو: الانضمام إلى الجماعة المسلمة التي تعمل لإقامة دولة الإسلام، فهو فريضة على كل مسلم بحسب وسعه، إذ العمل الفردي لا يُمكِّنه من تحقيق هذا الهدف الكبير.

[7] انظر: البداية والنهاية لابن كثير (6/301).

[8] رواه الطبراني في الكبير (20/90) عن معاذ، وفي الصغير (2/42)، وفي مسند الشاميين (1/379)، وأبو نعيم في الحلية (5/165)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني، ويزيد بن مرثد لم يسمع معاذ، والوضين بن عطاء وثقه ابن حبان، وغيره، وبقية رجاله ثقات (5/428).

[9] إشارة إلى حديث: "سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة"، وقد رواه البخاري في الأذان (723) عن أنس، ومسلم في الصلاة (433)، وأحمد في المسند (12813)، وأبو داود في الصلاة (668)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (993).

[10] إشارة إلى حديث: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلما ..."، وقد رواه أحمد في المسند (17138) عن أبي مسعود الأنصاري، وقال مخرجوه: إسناده صحيح على شرط مسلم، والترمذي في أبواب الصلاة (235)، والنسائي في الإمامة (780)، والطبراني في الكبير (17/218)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (8011).

[11] رواه الطبراني في الكبير (9/185) عن ابن مسعود موقوفا، وابن الجعد في المسند (1/78)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (5/449)، وحسَّن العراقي إسناده في تخريج أحاديث الإحياء (2/217).