د. يوسف القرضاوي

العقلانية عند الغربيين: اتجاه أو مذهب يعتمد على العقل وحده في فَهم الكون والإنسان والحياة في مقابل (الحسِّ) أو (التَّجرِبة)، فالعقليون لهم وجهتهم وطريقهم، والتجريبيون لهم وجهتهم وطريقهم.

وقد يكون هذا الاتجاه أو هذا المذهب في مقابلة الذين يعتمدون على مصادر أخرى، مثل الوحي عند الكتابيين (اليهود والنصارى والمسلمين)، ومثل الذين يعتمدون على الإلهام والذوق من الصوفية، والباطنية وغيرهم. فالعقلانية هنا تعني: المادية والحسية.

وقد تستعمل العقلانية في المذهب الذي يرى أنه لا يجوز الوثوق إلا بالعقل، ولا يجوز التسليم إلا بما يعترف به العقل بأنه منطقي وكاف وفقا للنور الطبيعي (الفطري). وهذا ما يقول به الدِّينيون، فلا يرون تعارضا بين العقل والوحي إذا ثبت الوحي بطريق النقل بصفة قطعية. وهنا يعطي فسحة للروح والحدس والشعور، أي للصوفية[1].

وقد تستخدم (العقلانية) في مقابلة الاتجاه إلى تصديق الخرافات والأوهام والشعوذة، وهذا ما يرحب به كل مؤمن وكل عاقل.

وإذا نظرنا إلى العقلانية عندنا - نحن العرب والمسلمين - نجد أن هذا اللفظ من الناحية اللغوية يسمى (مصدرًا صناعيًا) منسوبا إلى العقل، زيدت فيه الألف والنون، كما زيدت في نحو الربانية، نسبة إلى الرب، والروحانية نسبة إلى الروح.

ولم يستخدم هذا التعبير ( العقلانية) - فيما أعلم - في تراثنا، ولكن الاتجاه العقلي - بصفة عامة - معروف في تراث الأمة، عُرف به الفلاسفة، وعُرف به علماء الكلام عامة، والمعتزلة منهم خاصة.

وهناك فرق كبير بين الفلاسفة والمتكلمين - ومنهم المعتزلة - فالفلاسفة ينطلقون من مجرد العقل، والمتكلمون ينطلقون من العقل المؤمن بالدِّين.

على أن قولنا: أن الفلاسفة ينطلقون من مجرد العقل، قد يُعترض عليه معترضون كثيرون، فإنهم ينطلقون من العقل المؤمن بالفلسفة اليونانية، ولا سيما فلسفة أرسطو طاليس، الذي سمَّوه المعلم الأول، وأضفوا على مقولاته هالة من التقديس، حتى إذا تعارض مع قواطع القرآن؛ أولوا القرآن ليتفق مع ما قرره أرسطو، فكان أرسطو هو الأصل، والقرآن تابع!!

على أن مجال العقل في تراثنا مجال واسع، فالمتكلمون -حتى الأشاعرة والماتريدية منهم- يعتبرون العقل أساس النقل، فلولا العقل ما قام النقل ولا ثبت الوحي، ولا تأسَّس الدين. فبالعقل ثبتت أعظم قضيتين في الدِّين: قضية وجود الله تعالى، وقضية إثبات النبوة، فإثبات النبوة لا يتمُّ إلا بالعقل عن طريق الآيات البينات، التي يؤيد الله بها رسله، ومنها: المعجزة. فالعقل هو الأداة الوحيدة لإثبات الوحي، أو نبوة النبي، فإذا أثبت العقل النبوة بطريق قطعي: عزل العقل نفسه – كما يقول الإمام الغزالي – ليتلقى بعد ذلك عن الوحي، ويقول: سمعنا وأطعنا.

والله سبحانه قد دلَّنا على نفسه بما بثَّ من آيات دالة في الأنفس والآفاق، ولا زال يُري خلقه من هذه الآيات ما يبهر العقول، ويبيِّن الحق: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53].

ولا تجد كتابا دينيا - غير القرآن - كرَّم العقل، وأشاد به، وحضَّ على الرجوع إليه، وذمَّ الذين يعطلونه بالجمود أو التقليد، أو اتباع الظنون والأهواء. كما حفل بكل المفردات من (عائلة العقل) مثل: التفكُّر والنظر والتدبُّر والاعتبار، والبرهان والحجَّة والحكمة والتعلُّم والتفقُّه والتذكُّر.

وإن كان مما يؤسف له: أن كثيرا من المسلمين في عالم اليوم غيَّبوا عقولهم، واستسلموا للأوهام أو الجهالات، أو ألقَوا عقولهم وغدَوا يفكرون بعقول الموتى.

والعقلانية التي ننشدها لا تحتاج إلى تفلسف ولا معاناة في تعريفها. إنها ببساطة تعني: أن نعتمد على عقولنا في تسخير قوى الكون لصالحنا، والانتفاع بخيراته للنهوض بأمتنا، والخروج بها من سجن التخلف إلى باحة التقدم، واستخدام طاقات العلم ووثباته الهائلة، وثوراته الكبرى في خدمة أمتنا خاصة، والإنسانية عامة. وأن تكون هذه منهجية الأمة في تعليمها وثقافتها وإعلامها.

وليس هذا جديدا على أمتنا، فقد شادت حضارة شامخة جمعت بين العلم والإيمان، وبين الإبداع المادي والسمو الروحي والأخلاقي، ولم يعرف في تاريخها صراع بين الدِّين العلم، بل كان الدِّين عندها علما، والعلم عندها دينا.

وقد شارك رجال كبار من علماء الدِّين في علوم الكون والطبيعة مثل: ابن رشد الحفيد، والفخر الرازي، وابن النفيس، وغيرهم.

وليس هذا بغريب على أمة يجعل دينها التفكير فريضة، والنظر في آيات الله في الآفاق والأنفس عبادة، ويعمل قرآنه على إنشاء العقلية العلمية، ويرفض الظن والهوى والتقليد في تأسيس الحقائق، وينادي بإقامة البرهان في كل دعوى[2]. ويرى علماء الشريعة فيه: أن إتقان علوم الدنيا فرض كفاية على الأمة في مجموعها، مثل علوم الدِّين. فإن وجد بها عدد كاف في كل علم ديني أو دنيوي، يلبي الحاجة، ويغطي مطالب الخَلق، فقد رفع عنها الإثم والحرج، وإلا باءت الأمة كلها بالإثم.

...........
[1] انظر: موسوعة لالاند: المجلد الثالث صـ1172، 1173 منشورات عويدات للطباعة والنشر. بيروت – باريس.

[2] انظر: كتابنا (العقل والعلم في القرآن الكريم) فصل (تكوين العقلية العلمية في القرآن) صـ249- 282.