د. عمرو عبد الكريم

يمثل العلاّمة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله أبرز رموز علماء الإسلام المعاصرين الذين يصدق فيهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم "يحمل هذا العمل من خلفٍ عدولُه، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين".

وإذا كانت شهادتنا في أستاذنا وحبيبنا العلاّمة يوسف القرضاوي مجروحة – وهو كل حال لا يحتاج إلى شهادة أحد – فلا أقل من أن نسلَّ أقلامنا نذبُّ عن عرض مجدد الأمة من سفه وسفالة من خاضوا في عرض نبينا وآل بيته وكفروا صحابته إلا خمسة، وجردوهم من كل فضل شهد لهم به الكتاب والسنة والسيرة العملية؛ وهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى وأئمة الدين وحملة الشريعة؛ وندفع عن علمائنا الأجلاء كيد وتطاول من تآلبوا على أمتنا الإسلامية على مدار تاريخها من ابن العلقمي حتى احتلال بغداد وسقوطها تحت سنابك خيل الأمريكان، بعد أن ساعدوا في إسقاط أفغانستان.

كتبت كثيراً عن إيران وعن نخبتها الدينية والسياسية ومعادلات الصراع بينهم، وكتبت عن تحالف مشروعي الهيمنة الفارسي والأمريكي وإن كانت مشاريع الهيمنة الكونية لا تقبل شراكة مع المشاريع الإقليمية أو الصغرى (فليست هناك شراكة بين السيد والسنّيد بل تبعية وخضوع وهامش ضيق للمناورة)، وذكرت أن دوائر تحرك السياسة الخارجية الإيرانية هي ثلاث: القومية الفارسية ثم المذهب الشيعي الإثنى عشري الجعفري ثم الإسلام، هذا هو ترتيب أولويات السياسة الخارجية الإيرانية أو إن شئنا الدقة لقلنا الدولة الدولة الفارسية الجديدة أو الصفويين الجدد.

العلاّمة القرضاوي أبرز من رابط على وحدة الأمة الإسلامية، وأهم من حمى ثغرتها يوم تكالب عليها الأعداء من كل حدبٍ وصوب، وأكثر من عمل على ثغرة التقريب بين المذاهب الإسلامية خاصة بين الشيعة وأهل السنة، داعياً لأن يلتئم شمل الأمة ولا يكفر بعضها بعضا؛ وما رأينا في عالمنا الإسلامي المعاصر عالما حارب الغلو والتكفير مثل شيخنا القرضاوي، عشرات السنين أشهر قلمه وأطلق لسانه - وما حباه الله به من علم ومحبة في قلوب الخلق- على مظاهر التفكيك التي تفت في عضد الأمة الإسلامية، وتفرق جمعها، حتى إن علماً معاصراً بحجم ومصداقية المستشار طارق البشري - أو الحكيم البشري كما يسميه أستاذنا الدكتور سيف الدين عبد الفتاح- يقول: "يمكن أن نقول بأننا في هذه العقود الأخيرة؛ ما بين خواتيم القرن الرابع عشر الهجري وفواتيح القرن الخامس عشر؛ نحن نعيش في عصر الشيخ محمد الغزالي؛ والشيخ يوسف القرضاوي".

لقد ملأ العلاّمة القرضاوي الدنيا وشغل الناس: علماً وعملا؛ قولا وفعلا واجتهاداً، سعيا في بيان حقائق الإسلام وتجلية مواقفه، والدفاع عنه من كيد الخارج وتآمره، وجهل الداخل وغفلته، فشيخنا العلامة القرضاوي أحد أعمدة التوجيه الإسلامي الفكري والشرعي في هذا العصر ولا ريب، ومن ذوي التأثير الفاعل، وقد كتب الله لاجتهاداته القبول العام بين جماهير المسلمين وخاصة الشباب منهم، الذين رأوا فيه العالم الثبت الثقة الذي يركنون إلى دينه وتقواه وورعه –نحسبه كذلك حسيبه ولا نزكي على الله أحدا-.

لم يكن الهجوم الفاحش البذيء الذي شنته وكالة أنباء "مهر" الإيرانية وما استخدمته من كلمات مبتذلة ومعانٍ حقيرة؛ وما تبعه من خطاب متدنٍّ لرموز شيعية كبرى من أمثال التسخيري وفضل الله وأذناب الآيات الشيطانية على العلاّمة القرضاوي إلا لأنه قد أصابهم في مقتل، ووصل نصله المحز، ولو لم يكن حقاً ما قاله الشيخ يوسف القرضاوي ما صرخ منه الشيعة وأذنابهم وصبيانهم في عالمنا العربي؛ فلقد وضع يده بمهارة على موضع الداء وهو النطاسي الماهر، وتعامل معه بمبضع جراح، والعالم طبيب أمته، رصد اختراقهم وفند أباطيلهم ورد شبهاتهم وناظر كبراءهم وحذّر من أخطارهم ونبههم إلى خطل ما يبيتون حتى بالمعايير السياسية المجردة وبمنطق كسب الأنصار، حتى لو كسبوا أفراداً هنا أو أفراداً هناك ماذا يفيد وقد خسروا دولا ومجتمعات بأكملها جرّاء محاولتهم زرع بذور التمزق والشقاق في تلك الدول والمجتمعات ومحاولاتهم زعزعة تماسكها الديني والمذهبي واستقرارها السياسي والاجتماعي؛ أو كما قال لهم شيخنا القرضاوي في مؤتمر الدوحة للحوار بين المذاهب الإسلامية (يناير 2007) منتقدا سياسة (التشييع) التي تنتهجها إيران في المجتمعات الإسلامية السنية: "ماذا ينفعكم أن تدخلوا بلداً سنياً مثل مصر أو السودان أو المغرب أو الجزائر وغيرها من بلاد خالصة للشافعية والمالكية... وأن تحاولوا أن تكسبوا أفرادا للمذهب الشيعي؟... هل ستكسبون 10 أو 20 أو 100 أو 200 لكن بعد ذلك تشعلون فتنة في البلد، وسيكرهكم الناس ويلعنونكم بعد ذلك".

ولقد كان العلامة القرضاوي في حواره الأخير مع جريدة "المصري اليوم" وفي بيانه أوضح ما يكون تحديداً لمشكلة: "خطر المد الشيعي، ومن توظيف الشيعة لإمكانياتهم وأموالهم وكوادرهم بغية نشر المذهب الشيعي بين العامة من السنة في البلاد التي يعتنق غالبيتها مذهب أهل السنة والجماعة"، وحذر شيخنا من "النتائج الخطيرة من وراء نشاط الشيعة المكثف في هذه المناطق، خاصة وأن الشيعة يوظفون الأموال الضخمة والكوادر المدربة لهذا الغرض (...) وأن عوام السنة ليست لديهم مناعة ثقافية ضد هذا الفكر، لأننا -كأهل سنة- لا نتحدث كثيراًً في مثل هذه الأمور حفاظاًً على وحدة الأمة، وخوفاًً من الفرقة والاختلاف"؛ هذا ما قاله شيخنا؛ ووالله ما أخطأت يا مولانا؛ ولا تجاوزت الحقيقة قيد أنملة، ولا يُستغرب عليك وأنت فقيه الأمة ومجددها هذا الوعي الإستراتيجي العميق، والإدراك الشامل الدقيق لمستقبل موازين القوى وتداعيات التحرك الإيراني في المنطقة العربية وخاصة الخالية من الوجود الشيعي، والخالصة لأهل السنة.

في المعارك الحقيقية والفكرية تظهر معادن الرجال، وتظهر حقائق مكنونات النفوس، وترى الأمة مواقف علمائها وقادة الرأي فيها، من يدافعون عن مقدساتها ويعيشون قصتها الكبرى، وترى كذلك من يعيش قصته الصغرى وعالم الحسابات الصغيرة، نرى رمزاً بوزن وتاريخ ومصداقية الشيخ راشد الغنوشي يكتب: (كلنا يوسف القرضاوي)، وعلى النقيض نرى من يخطِّئ الشيخ ويهاجمه علناً، ويكون في صف من يراه موالياً لليهود والأمريكان أو بالتعبير السافل المنحط "ماسوني وعميل صهيوني وعدو للنبي محمد وأهل بيته" وحقاً كل إناء بما فيه ينضح، وصدق المثل: رمتني بدائها وانسلت.

علمنا شيخنا القرضاوي أن الاجتهاد والجهاد من جذرٍ لغوي واحد وها هو بعد أن رابط على ثغرة الاجتهاد يفتح الله له باباً من أبواب الجهاد وهو الحفاظ على أصول أهل السنة الاعتقادية والعملية، ويذب عن عرض نبينا ويبرئ صحابته من دعاوى أهل الإفك والبهتان، (نعم: فالشيعة دينهم الكذب) ويحفظ على مجتمعاتنا العربية والإسلامية وحدتها المذهبية والسياسية بل وأمنها القومي، من التسلل الفارسي. ولعل هذا هو الدور الرسالي للعالم العامل المجاهد المرابط على ثغور أمته كلها يضرب في كل غنيمة بسهم، وفارس على صهوة جواده في كل معارك أمته وقضاياها المصيرية؛ لا يساوم ولا يناور ولا يدع الخطوط مفتوحة مع كل الأطراف ابتغاء عرض من الدنيا زائل، ووالله ما زل لسانك يا مولانا، ولا عبّرت عن شخصك الكريم –وهو كاف- فقط بل تكلمت بضمير أمة مكلومة تكالب عليها الأعداء، وخانها نفر من أبنائها، وزيف كثير ممن تصدوا لقيادتها وعيها، حتى لو حمتهم المناصب، أو تدثروا بردائها.

لا أتوقع أن تنتهي الحملة الشعواء على العلامة القرضاوي قريبا. فلقد لمس شيخنا عصبا عارياً في التكوين النفسي الشيعي وفي المخطط الإستراتيجي الفارسي، فما ظهر إلا رأس جبل الجليد العائم، وستكشف قابل الأيام أن العلامة القرضاوي رائد أمته، والرائد لا يكذب أهله.

وسيبقى القرضاوي غصة في حلوق الصفويين الجدد وشوكة في جنوبهم تقض مضاجعهم ممن تحالفوا مع الأمريكان وفتحوا لهم الجبهات باعتراف قادتهم، فلقد علمنا إسلامنا أن لحوم العلماء مسمومة.

بارك الله في عمر شيخنا العلامة القرضاوي ونفعنا بعلمه، ومتعه بالصحة والعافية، فلقد أتعب علماء عصره ومن جاء بعده. وليعلم أن الأمة وشبابها وراءه، فلقد صدع بالحق وجهر به في وقت تخاذل فيه الجميع، وجهر بالصواب عندما سكت الباقون من أصحاب القصص الصغرى والحسابات الآنية، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (الشعراء:227).

.......

- نقلا عن صحيفة المصريون.