د. هبة رءوف عزت

رجعت ابنتي من المدرسة منذ حوالي أسبوعين لتلقي بحقيبتها علي الأرض في حجرتي وتقف واضعة يدها في خصرها قائلة: «إيه بقي حكاية إن سيدنا جبريل قابل سيدنا محمد ومعه القرآن ليوحي به لعلي بن أبي طالب فقال له أنا سآخذه وأسلمه له عندما يكبر.. ثم أخذه لنفسه!؟ فاكس قوي كلام الشيعة ده!!». سألتها علي الفور: مين قال لك الكلام الفارغ ده.. هذا ليس مذهب الشيعة.. ثم من الذي أخبرك عن الشيعة وما يعتقدون.. وأليس عندك سابق معرفة بالفارق منذ شرحت لك ذلك 2006 بعد حرب لبنان فما هذا الهراء؟

ردت «هذا ما قاله زميل في المدرسة!».. فأخبرتها ألا تسمع أي كلام فارغ ودون مناسبة بغير أن تزن ما تسمع جيداً.. ووعدتها بعد رمضان بكتاب عن المذاهب الفقهية والتيارات السياسية الإسلامية لتعرف خريطة عالم الإسلام، كان هذا مطلع رمضان.

بعد أسبوع وجدت في صندوق بريدي الإلكتروني رسالة من الملحق السياسي بإحدي السفارات الأجنبية تحمل تهنئة بالشهر الكريم، ماشي.. لا بأس.. وأنتم طيبون يا سيدي.. وفي نهاية الرسالة سؤال عن أهم المفكرين المصريين.. الشيعة! ذكرت في ردي أنني لست خبيرة في الموضوع وأشرت لمفكر بارز أعلن تشيعه ثم بعد سنوات من النضال والمعاناة من الأمن أعلن عودته لمذهب أهل السنة (فالتشيع تهمة عند مباحث أمن الدولة الذين كانوا في فترة سابقة يتراوحون بين الإعلان عن تنظيم شيعي أو آخر شيوعي، ثم استقروا علي الإخوان وارتاحوا)، وأيضاً طبيب كاتب منتظم في الكتابة في الموضوع ولا يخفي انتماءه وتستضيف مقالاته إحدي الجرائد ذات الصفة شبه الرسمية كثيراً.والسلام ختام.

ما أن مرت عدة أيام بعدها حتي ثار موضوع الدكتور يوسف القرضاوي والحديث الذي أدلي به لجريدة المصري اليوم ووصف الشيعة بأنهم مبتدعة وحذر من المد الشيعي، فما كان من آلة دعاية وكالة الأنباء الإيرانية (وتلك آلات عمياء لا تعقل) إلا أن ردت بعنف وتطاولت علي الشيخ، ثم صرح علماء من الشيعة في إيران وبعدها لبنان بتصريحات تنم عن الغضب والشعور بالصدمة ولا تخلو من عبارات تفتقر للحساسية، فرد الشيخ القرضاوي رداً قوياً مفنداً ما قالوا.. وقامت الدنيا ولم تقعد. كتب فهمي هويدي هنا في الدستور يقول إن الشيخ قد أخطأ، وأنه ما كان ينبغي أن يستجيب لسؤال صحفي في موضوع شائك في جريدة يومية خاصة أن هذا ليس مجالاً لهذه الأحاديث الشائكة خاصة وأن الشيخ قال إن كلامه لم يتم نقله بصورة دقيقة، وسعي الدكتور العوا لتهدئة الأزمة، لكن بريدي الإلكتروني حمل لي رسالة دعوة للتوقيع علي بيان مناصرة للشيخ يهاجم الشيعة وملخصه أننا أخطأنا حين قدمنا حسن النية في جهود التقريب بين المذاهب وما معناها أنه قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر، وتراوح بين ذكر كتائب قتل السنة في العراق وما يفعله شيعة إيران من سعي للهيمنة، وهكذا.

والحق أنني وقفت أمام تلك الأحداث المتلاحقة مشدوهة، ففي رمضان الماضي في نفس تلك المساحة كتبت أدعو للتفكير بشأن حق الشيعة العراقيين اللاجئين والمقيمين في مصر في أن يمارسوا شعائرهم في تجمعاتهم السكنية، ما دمنا قبلناهم وملكناهم عقارات في هذا الوطن، ودعوت في مقالي آنذاك لتأسيس مجلس أعلي لشئون اللاجئين من سودانيين، وعراقيين، وفلسطينيين، لترتيب أوضاعهم الإنسانية والصحية والتعليمية وأحوال عمالة وتوظيف وغيرها من قضايا تحتاج من يمسك بهذا الملف من أطرافه المتبعثرة، ولا يكفي ضمه لهموم المجلس القومي لحقوق الإنسان، فثارت ثائرة البعض واتهموني بالغفلة عن المؤامرة الشيعية للتسلل لضرب الأمن القومي المصري، الذي هو ليس شغلي بل له جهاته المسئولة، أما أنا فشغلي العدالة والبشر والمجتمع والعيش المشترك.. والمواطنة.. وحقوق الإقامة في المكان.. كإنسان. وهذه هي نفس التهم التي أرسلها الأخ الذي دعاني لتوقيع البيان ولكن قالها بشكل مغلف ورقيق ومهذب حين اعتذرت عن التوقيع، لا لتردد في مناصرة الشيخ.. فمن أنا حتي لا أناصر مجتهد السنة وتاج العلماء ورئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.. بل لاعتراضي علي اللغة التي تصب الزيت علي النار.. ولا تسمح بالتراجع وقت المصالحة والمساعي الحميدة لتأليف القلوب ووحدة الكلمة.

كم من أزمات مرت بنا، وتلك أزمة سببها الرئيسي ـ مجدداً ـ الإعلام الذي يبحث عن الإثارة، ولست أحسب أن هذه مهمة الإعلام لكنها شروط البيع والسوق: الخبطات الصحفية وتوريط رؤوس القوم وإثارة الفتن.. فهذا معيار نجاح حتي لو ذهبت مصالح الأمة للجحيم. كنت منذ فترة ليست بالقصيرة قد ناشدت المرشد العام للإخوان المسلمين أن يتروي في إعطاء تصريحات صحفية، ففي كل مرة ومع كل مرشد نسمع أن الصحفي بدل الكلام ولم يكن دقيقاً في نقل ما قيل.. حسناً يبدو أن هذا هو ديدن الصحفيين هذه الأيام.. فلماذا في كل مرة نقبل بتلك الحلقة المفرغة من التوريط والدفاع والتصحيح والبيانات!!

ليس عندي سلطة أن أقنع الشيخ يوسف بأن تتم تهدئة الموضوع، فالشيخ غاضب وله كل الحق، والشيعة العرب كما الإيرانيون غاضبون ولهم «بعض» الحق، ولكل مقام مقال، وقد قال الشيخ كلامه في منصة أدني من رفيع مقامه.. وفي المقابل أساء من انتقدوه لمقامه، واندلعت فتنة قد تأكل جهد عقود من مساعي توحيد الصف وتقريب وجهات النظر.

ولست غافلة عن حجج المتوجسين ولا ما يجري في العراق ولا مخططات أمريكا وإسرائيل لتقسيم المنطقة، ولم نكن أكثر استغرابا لبعض ممارسات الشيعة في طقوسهم منا الآن بعد أن أتاحت لنا الفضائيات مشاهدة احتفالاتهم علي الهواء بكل تفاصيلها، لكن الشيعة ليسوا فريقاً واحداً ولدينا حسابات السياسة لكن أيضاً مقاصد النهضة واعتبارات التقارب وفريضة الوعي بأخطار اللحظة التاريخية وتحديات الامبراطورية المهيمنة، وليس من المقبول تمرير مقولة أن الشيعة أخطر من إسرائيل بأي حال من الأحوال ـ أبداً.

كل هذا في رمضان.. ولا حول ولا قوة إلا بالله!!

.. فاللهم أذهب غيظ قلوبنا وأصلح ذات بيننا ولا تجعل فتنتنا في ديننا. وكل عيد والأمة بخير: سنة وشيعة، وأقليات وأغلبية، ومسلمين ومسيحيين.. أمة العقيدة.. وأمم الناس.. كل عيد وأنتم بخير.. أيها الناس.

........

- نقلا عن موقع الدستور.