صلاح مرسي- موقع القرضاوي

أستاذنا العلامة الشيخ الإمام القرضاوي حباه الله تعالى قلبا ربانيا، وعلما فياضا نديا، وخلقا سخيا، واجتهادا في تجديد، وعملا فيه من الله تسديد، فتح الله به القلوب وفرح به قوم مؤمنون، وأغاظ الله به قوماً ظالمين، حمل منهج الوسطية حتى صار رائدها، وتحرك بالدعوة حتى صار فارسها، وأستطيع أن أقول: الحمد لله الذي جعل في الأمة مثله.ومن عجب أن التاريخ يعيد نفسه فعندما ألَّف الشيخ كتابه الحلال والحرام منذ 40 عاما صدر في فرنسا والغرب هجوم على الكتاب بأنه "الحرام والحرام في الإسلام"، وفي المقابل صدر عن بعض إخواننا المسلمين المتشددين بأنه "الحلال والحلال في الإسلام" ولا يزال!، فعلم الشيخ ومحبوه أن هذا الكتاب يحمل المنهج الوسطي. وفي إطار ماذكره الشيخ بخصوص إخواننا الشيعة ورد الفعل العنيف ضده، هناك منهجيات يجب أن نقف عندها ويبدو أنها جد ضرورية أهمها ما يلي:

1.  مهما احتدمت أزمة الحوار بين مذاهب الأمة وعلمائهم فيجب أن تبقى الجهود الكبرى في مواجهة الاحتلال الأمريكي والصهيوني لأمة الإسلام والاستبداد السياسي والتحلل العلماني في ديار الإسلام ولا تصرفنا عنها معارك جانبية مهما كانت خطورتها

2.  أن الشيخ القرضاوي تشتد الحملة عليه من واقع ثقله العلمي والفقهي والدعوي والحركي الذي جعله الشيخ الإمام، والفارس الهمام، بلا منازع في أمة الإسلام الآن

3.  أن قضية الابتداع التي نسبها إلى الشيعة قد تلحق بعض فرق وجماعات أهل السنة والجماعة، وهي لا تعني إطلاقا التكفير الذي يسود تيار الغلو هنا أو هناك

4.  لا نعرف شيخا معاصرا خلال العقود الأخيرة يصدق فيه قول الشاعر:

إن الشجاعة في العقول كثيرة     ورأيت شجعان القلوب قليلا

فهو الذي أعلن عندما كتم الكثير مواقفه من الصهيونية الظالمة والصليبية الحاقدة والعلمانية الفاسدة، كتابة وشعرا وخطبا ومحاضرات ومناظرات تتسم بالقوة العلمية، والحجة الشرعية، والعاطفة القوية، مما يجعل المزايدة عليه في مقاومة هذه المشاريع الثلاث كمن يريد أن ينكر ضوء الشمس في رابعة النهار، أو يحاول أن يخفي وجهه وراء أصبعه. فحملت الهجمة أدلة سقوطها بكل جدارة.

5.  أحسب أن أكبر خسارة لإخواننا الشيعة من هذا الهجوم السافر على الشيخ ليست سياسية بل على مستوى علماء السنة وعموم الأمة، وهو الذي حاول منذ عقود أن يقدم رؤى علمية موضوعية للتقارب، لكنه وجد أن ما حدث هو تقريب من السنة إلى الشيعة وليس تقاربا من الجانبين، وتمت الاستفادة من هذا التقريب (من السنة) في نشر المذهب في أماكن كلها سُنة، بما لم ينكره أحد منهم، وهو الأمر الذي يعصف بكل جهود التقريب أو التقارب.

6.  أسوأ ما في هذه الحملة على الشيخ أنها قطعت آمال التقريب والتقارب، فلو أن الهجوم على الشيخ اقتصر على وكالة "مهر" الإيرانية لكان شبيها بهذا الإسفاف الذي طال الشيخ عندما ذكر أن صدام كان يجب أن يحاكم محاكمة عادلة من شعبه وألا يقتل يوم العيد، فقد أصدر بعض المراجع الشيعية أن الشيخ القرضاوي سيكون أسبق إلى جهنم من صدام وكأن بعضهم صار مثل القساوسة يصدر صكوك الغفران والحرمان، لكن الأعجب بحق والمذهل أن يكون هذا موقف نائبه الشيخ التسخيري وكذا العلامة محمد حسين فضل الله في إنكار صريح وواضح لدور الشيخ في توحيد جماعات ومذاهب هذه الأمة، واتهامه بأنه لم يقف أمام الهجمة الصهيونية أو التبشير الصليبي، فعصفت كلمات الشيخين بالأمل القريب في وجود تيار معتدل من المراجع الشيعية يمكن أن تستل به سخائم الخلاف والشقاق بين أبناء الأمة الواحدة.

7.  يؤسف كل حر أن يذهب الوفاء كخلق أصيل للشيخ ومن ورائه جماهير من العلماء والدعاة الذين أيدوا الثورة الإيرانية الإسلامية في وجه الاستبداد السياسي، وواجهوا ظلم صدام حسين للشيعة، وإعلان الحرب سنوات عليهم، وتأيديهم لحزب الله في مقاومته لإسرائيل، فلا أدري كيف يُنسى كل هذا في لحظة غضب تظهر الطباع الأصيلة المرتكزة في النفس!

8.  لعل تفسيري – وقد أكون مخطئا – أن هناك نشوة التسليح النووي في إيران، والدعاية الأمريكية لها، والتمدد في العراق وإدارة شؤونه، والإمساك بزمام لبنان في خلال ساعات في أزمته الأخيرة، من هذه النشوة السياسية مع القوة المالية في وجود دولة تتبنى المذهب وتنفق عليه، ومراجع يجمعون الخمس من عموم الشيعة بالإضافة إلى العصمة لهم بما لا يملك العامي مخالفة أئمته، هذه النشوة توارت وراءها دعاوى الأمة الواحدة، والقبلة الواحدة، والكتاب الواحد، لنقف أمام أعدائنا من الصهاينة والأمريكان المحتلين لأرض الإسلام، لكن صناعة التاريخ لها قوانين ربانية أخرى غير ما يحسبه السياسيون.9. أرجو من شيخنا الجليل أن تطمئن إلى أنك بعين الله مادمت معه وتحيا له وحده "وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا" (الطور:48)، فالله وحده يدافع عنك وهو كافيك " أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ" (الزمر:36)، وأن تظل كما عهدناك دائما – إذا هوجم الإسلام انتفضنا وإذا هوجم الأشخاص احتسبنا – فامض على بركة الله في رسالتك الإسلامية الوسطية الدعوية والتربوية تحوطك عناية الله، وتحرسك ملائكة الله، ويفديك بأرواحهم عباد الله الذين تتلمذوا وشبوا على مدرستك العلمية والفقهية الرائدة في كل قُطر ومدينة وقرية ونجع سواء في أرض الإسلام أو في الأقليات المسلمة في العالم اليوم.

"وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ" (يوسف:21).