وصفي عاشور أبو زيد

كان رد مراجع الشيعة على كلام الإمام القرضاوي عنهم فيما يمارسونه من تبشير ونشرٍ لمذهبهم في المناطق السنية الخالصة، ولعنِهم لأبي بكر وعمر وعائشة، واتهامهم للصحابة بأنهم خانوا الأمانة وكتموا الحق في الوصية ـ بزعمهم ـ لعلي رضي الله عنه، وقولهم بأن في القرآن تحريفا، كان ردًّا مستغربا ومستهجنا في الوقت نفسه.

أما كونه مستغربا فلأن الشيخ الإمام لم يقل هذا الكلام للمرة الأولى الآن ـ كما جاء في حواره مع جريدة المصري اليوم مؤخرا ـ وإنما هذا ما قاله وردده عشرات المرات في مؤتمرات التقريب التي قدم فيها أبحاثا مقدورة، بل قاله في عقر دارهم في إيران، ووافقه عليه مراجعهم وآياتهم، ومع هذا جاء رد التسخيري وفضل الله ـ وهما المحسوبان على الاعتدال والوسطية في تيار الشيعة ـ صادمة؛ حيث حمَّلت الموقف فوق ما يستحق،  فكشفت عن موقفهم الحقيقي.

وأما كونه مستهجنا فللطريقة التي قيل بها، وللألفاظ السافرة التي نالت شخص الشيخ مغالطة وتجريحا وتلفيقا، وناقضت تاريخه ومواقفه ومؤلفاته وخطبه ومحاضراته، كما بين هو في بيانه الذي أصدره قبل أيام، وزاد الطين بلة ما جاء على لسان بعض شيعة دولة قطر الذين رفعوا دعوى ضد الشيخ، وطالبوا أمير قطر بـ "سحب الجنسية القطرية منه؛ لأنه لا يستحقها كونه يثير الفتنة، وإذا لم يَمْثُل أمام المحكمة لاعتبارات سنه المتقدمة ـ 82 عاما ـ فيجب الحجر عليه"!!.

بيان الشيخ ورد الشيعة

ثم كتب الشيخ بيانا طويلا ومفصلا ليس ردا ولا هجوما وإنما أشبه بـ "بيان موقف"، وجاء رد الشيعة على بيان القرضاوي بما يشبه الاعتذار، وبأن عتابهم جاء على قدر مكانة الشيخ ورمزيته في الأمة، وهو رد سياسي أكثر منه علميا أو موضوعيا؛ حيث خلا من أي نفي لما جاء على ألسنتهم أو اعتذار عما قالوه من أن الشيخ يثير الفتنة، وأنه ينطق على ألسنة الصهاينة وحاخمات اليهود، وأنه لم يهاجم العلمانية أو الماسونية والصهيونية.

بعد هذا الرد الهادئ منهم، والذي يشتم منه إرادة نزع فتيل الأزمة وإطفاء النار، مع الإبقاء طبعا على ما قالوه دون اعتذار، خرج علينا بعض المفكرين الإسلاميين يقودون تحركا يجبر الشيخ على الاعتذار رغم أنه لم يجرح أحدا، ولم يشتم أحدا، بل كل الشتائم والإهانات والسفالات أتت من الطرف الآخر، وهذا موقف غير مستغرب؛ إذ إنه يعبر عن الاستخذاء والضعف والترهل لبعض رموز السنة أمام ضغط المعسكر الشيعي!.

سيناريوهات المشهد

المطروح الآن أو المتصور أن يصمم الشيخ على رأيه، ويتمسك بموقفه، ولا يأبه لهذه الأصوات التي تطلب منه أو تجبره على الاعتذار دون ذنب أو جريرة ـ وهو ما نراه وندعمه ـ وفي هذه الحالة ستتأثر علاقة الشيخ بإخوانه المفكرين وزملائه في أمانة اتحاد علماء المسلمين، بالإضافة إلى ضعف العلاقات السنية الشيعية، لكن في الوقت نفسه يكون قد تمسك بما رآه حقًّا يلقى الله عليه؛ علميا وواقعيا، وربما سياسيا أيضا، ورضا الله كان حاديا للشيخ في مواقفه وكلماته!.

أو يخضع الشيخ لهذه الرغبة، ويوافق على صدور اعتذار، وهنا ستهتز صورة الشيخ لدي أهل السنة بعدما رأوا منه وفي فكره تطورا حسنا تجاه الشيعة، وفي الوقت ذاته سيسقط كرمز وإمام لأهل السنة في نظر الشيعة، ومن ثم يزداد تبشيرهم ونشاطهم في نشر مذهبهم في عقر ديار أهل السنة، ولن يجدوا بعد ذلك رادعا، أو طرفا مقابلا في رمزية ووزن القرضاوي.

ولا يُغني هنا أن نقول إن كلام مراجع الشيعة تم تحريفه، أو فهم خطأ، في محاولة لحمل القرضاوي على الموافقة على إصدار الاعتذار، وتخفيف وطأته على نفسه؛ لأنه حتى هذه اللحظة لم يصدر عن أي واحد منهم شبه اعتذار أو نفي لما تفوه به كل منهم، وهي ردود جاءت معبرة عن نفوسهم، ومحملة للموقف أكثر مما يحتمل بكثير، فضلا عن أن الشيخ لم يتلفظ بما يوجب الاعتذار!.

أصل المشكلة

وفي تقديري أن أصل هذا الجدل راجع إلى ما ذكره العلامة القرضاوي في حواره مع جريدة المصري اليوم من لعن الشيعة للصحابة، ونشر لمذهبهم في بلاد السنة، والقول بتحريف القرآن، رغم أن مراجع الشيعة تنفي هذا الكلام في المؤتمرات والمحافل الدولية، وأن مصحفهم الذي يدرسونه لأبنائهم هو مصحف مجمع الملك فهد الذي هو مصحف أهل السنة.

وإذا كان المرحوم الشيخ محمود شلتوت أصدر فتوى شهيرة تقضي بأنه يجوز للمسلم أن يتعبد على المذهب الإمامي، ومعظم علماء السنة المعتدلين يرفضون تكفير الشيعة،  فلماذا لم يصدر عن مراجع الشيعة أو أحدهم حتى الآن فتاوى وبيانات لقواعدهم بجواز التعبد على أحد مذاهب أهل السنة، وهي أربعة، إن أرادوا التقريب حقا؟ بل إننا نجد في كتاب حسين فضل الله: "مسائل عقدية" ص110 ما ينفي هذا؛ حيث أجاب على سؤال يقول: هل يجوز التعبد في فروع الدين بالمذاهب السنية الأربعة، وكذلك بقية المذاهب غير الشيعية؟ فكان جوابه بالنص: "جواب: «لا يجوز التعبد بأي مذهب إسلامي غير مذهب أهل البيت عليهم السلام؛ لأنه المذهب الذي قامت عليه الحجة القاطعة".

ولماذا أيضا لم يُصدر أحدهم بيانا أو فتوى يلزم بها أتباعه أو قواعده بحرمة سب الصحابة ولعن أبي بكر وعمر وعائشة؟ ولماذا لم يصدروا فتوى بأن الذي يقول بتحريف القرآن أو بأن فيه زيادة أو نقصا فإن هذا قول قد يخرج صاحبه من الملة؟؟! أم أن التصريح بهذا الكلام في المؤتمرات لذر الرماد في العيون فقط، وتبقى المراجع مع قواعدها على ما هي عليه؟!.

أتصور لو أن هناك بياناتٍ وتصريحات واضحةً وملزمة لقواعد الشيعة وعوامهم، لما استمر هذا الخلاف المذهبي، وعدمُ وجود هذه الفتاوى أو البيانات يفسر لنا الهجوم الذي وقع منهم ردا على كلام القرضاوي؛ حيث جاء مبالغا فيه بشكل ملحوظ.

شماعة وحدة الأمة

ما يشك أحد في أن وحدة الأمة من أفرض الفرائض وأوجب الواجبات، ولا يخفى أيضا أن رمزا مقدورا كالقرضاوي أفنى حياته من أجل تحقيق هذا المقصد الأكبر، وأفتى ضد الصهيونية ومؤيدا لحركات المقاومة المشروعة في أرجاء الأرض، وكتب ضد العلمانية والشيوعية والاشتراكية والرأسمالية وكل مذاهب الأرض المنحرفة حرصا على تحقيق وحدة الأمة وحفظ هويتها، وهذا لا يجادل فيه أو يقلل منه إلا جاحد أو مكابر.

لكن لماذا لا يحرص الشيعة ويحرص رموزهم ومراجعهم على وحدة الأمة كما يحرص أهل السنة، ولماذا يبادر أهل السنة بمؤتمرات الحوار وندوات التقريب ثم لا يجنون منها شيئا؛ في الوقت الذي يمارس فيه الشيعة تسيير مخططهم في العالم، وتنفيذ مشروعهم حتى في البلاد الخالصة لأهل السنة مثل سوريا ومصر والجزائر والمغرب؟

لماذا يلتقي مراجع الشيعة مع رموز السنة في منتديات التقريب نظريا، ثم يقوم الشيعة عمليا بممارسة أبشع أنواع التهجير والطرد والتقتيل ـ كما حدث في العراق بالذات من قبل ـ حتى كانوا يذبحون من يعرفون بأن اسمه عمر أو أبو بكر أو عائشة؟!!

إذا كان الأمر كذلك فلابد من وقفة، ولابد من مراجعة، ولابد من النظر واقعيا هنا: أين مصلحة الأمة، وأين تكمن وحدتها: هل هي في مؤتمرات التقريب ثم يمارس الشيعة نشر مذهبهم في البلاد الآمنة، ويمارسون القتل والتهجير في البلاد المحتلة، أم هل هو في اتخاذ موقف يتناسب مع هذه الممارسات التي تهدد وحدة الأمة، وتصب في النهاية في تحقيق مخططات الشيعة وتنفيذ مشروعهم السياسي في مواجهة أهل السنة الذين لا يملكون مشروعا ولا شبه مشروع بكل أسف؟؟!

أعتقد أن الأمر يحتاج إلى وقفة وإلى مراجعة؛ لأننا سنختلف في تقدير المصالح والمفاسد المترتبة على تبني أي من الاختيارين، وما هي الأسس والضوابط التي نُقدِّر على أساسها المفسدة والمصلحة؛؛ وذلك نتيجة طبيعية لتشابك الواقع وتعقيد المسائل والقضايا، ودخول أبعاد محلية وعالمية في الموضوع، وتحديد أين تكمن مصلحة وحدة الأمة وحفظ هويتها، مع الموازنة بين هذا كله والأخطار الخارجية التي تتهدد وحدتها وتستهدف مقدراتها، واختلاف وجهات النظر إزاء هذا كله!!.

همسة عتاب للقرضاوي

وفي هذا المقام الذي أكتب فيه متضامنا مع الشيخ لا لذاته أو شخصه ـ وإن كان يستحق هذا وأكثر ـ وإنما نصرة للحق ومؤازرة له، ودحضا للباطل وتحقيقا للمصلحة ـ أود أن أهمس في أذن الشيخ الإمام بأنه ما كان يليق بمنزلته ومكانته أن يتجرد شخصيا، وينزل عن مكانته السامقة ليتولى بنفسه الرد عليهم، فكان يكفي أن يقوم تلاميذه أو تلاميذ تلاميذه ـ وما أكثرهم ـ بهذا الدور، ويعددوا جهاده ويبينوا تاريخه ليدحضوا به هذه الافتراءات ويردوا بها على تلك السفاهات؛ لأن في تجرد الشيخ للرد مجانبة للتوفيق ـ في تقديري ـ من وجهتين:

الأولى: أن الشيخ وارد عليه الخطأ، ولو أخطأ هنا فلا مجال للاعتذار، ولو اعتذر فربما يكون خصما من رصيده في قلوب الأمة، واهتزازا لمكانته في العالم الإسلامي، أما لو أخطأ أحد تلاميذه ففي هذه الحالة يقوم هو بالاعتذار عنه ويبين الموقف الصحيح، وقد رأينا أن حسين فضل الله تولى بنفسه الرد أول مرة، ثم بعد ذلك كان الرد من مدير مكتبه.

والوجهة الثانية: أن الشيخ ـ حفظه الله ـ تكلم في هذا البيان عن تاريخه وجهاده في نصرة الحق، وفتاويه في مؤازرة المقاومة، وخطبه ومحاضراته في دعم مسيرة الأمة وحفظ وحدتها، وأخشى ـ وهذا هو الأخطر وما يَحْذرُه الشيخ (راجع كلمته في الجلسة الافتتاحية لملتقى الإمام القرضاوي ... مع التلاميذ والأصحاب يوليو 2007م) ـ أن ينال استعراضُ هذا كله من ثواب الشيخ عند الله، أو يتداخل النفسَ البشرية بعضُ الشعور بالمن وإظهار الفضل وتزكية النفس، وإن كنت أستبعد أن هذا الشعور يمكن أن يخامر نفس الشيخ، أو تتوارد عليه هذه الهواجس، لكن حرصا على مكانة المسلم فضلا عن العالم عند الله، وثواب العمل والجهاد المتواصل، كنت أود أن يبين هذا التاريخَ ويعدد هذا الجهادَ تلاميذُه ومحبوه، ولا شك أنهم كانوا فاعلين لولا مبادرة الشيخ بالرد على ما قيل.

مستقبل التقريب

في ظل هذه الأجواء ما هو مستقبل العلاقة بين أهل السنة وأهل الشيعة، وبخاصة بعدما توترت العلاقات بين أبرز رموزهم الذين كانوا يدعون للتقريب، ويتبنون ثقافة الحوار، ومسالك الوحدة بين المذاهب داخل حظيرة الإسلام؟

هل ستضعف فكرة القريب بناء على اهتزاز العلاقة بين الرموز، أم هل ستنتهي فكرة التقريب تماما ويعمل كل فريق على شاكلته بما يلائم ظروفه وواقعه ومشروعه، أم أن فكرة التقريب بين المذاهب لن تتأثر بهذه التناوشات وتلك التراشقات، وما هي إلا سحابة صيف ثم تنقشع، و"تعود المياه إلى مجاريها"؟.

أتوقع أن العلاقة سوف تهتز وبخاصة بعدما جرى في مؤتمر التقريب الأخير في الدوحة بناء على ما جرى في العراق، ثم ما حدث على فضائية الجزيرة بين القرضاوي ورفسنجاني، ثم كانت الأزمة الأخيرة.

ومن المستبعد أن تعود العلاقة كما كانت من قبل بعد هذه المطبات والمحطات المتباينة اهتزازا واضطرابا وتجسيرا للتباعد والتدابر، واختلافا بين رموز أهل السنة أو رمزها الأكبر متمثلا في القرضاوي، وبين مراجع الشيعة ومن أبرزهم فضل الله والتسخيري..

ومن هنا إذا أردنا للتقريب أو الحوار أن يواصل مسيرته أو يستعيد عافيته فيجب أن يكون بضوابط جديدة، وعلى أسس مختلفة تحقق نتائج عملية واقعية مباشرة بعيدا عن المجاملات وكلام الدبلوماسية المقيت، ولا يمنع أن يكون هناك حوار في بعض المسائل العقدية والأصولية التي هي أساس هذا الخلاف، وبذلك يكون عندنا اتجاهان في حوار التقريب:

الأول: المسائل النظرية والعقدية والأصولية، وهذه يليق لها البحث العلمي الرصين، والدراسة المجردة من كل أهواء وتعصب، وتكون نتائجها ملزمة للطرفين، وساعتها ستتبين صدق النوايا في الرغبة الصادقة في الحوار من أجل التقريب.

والثاني: قضايا واقع الأمة السياسية والاجتماعية وغيرها، وهذه يليق لها ورش عمل عملية بعيدا عن النظر الفلسفي المجرد، وهذه خطوة ستنبني على نجاح الأولى، وتخرج هذه الورش بنتائج حاسمة يلتزم بها الجميع، هذا كله مع اعتبار المصالح العليا للأمة، وإلا فلا أتوقع أن تقوم للحوار أو التقريب بعد ذلك قائمة.

......

- المقال نقلا عن شبكة إسلام أونلاين نت.