أسامة أبو ارشيد*

ثارت الدنيا ولم تقعد عندما انتقد العلامة الدكتور يوسف القرضاوي عمليات "التبشير" والتمدد التي تمارسها مجموعات شيعية في الفضاء الجغرافي والمذهبي السني وبدعم صريح وواضح من إيران.

 وانقلبت الأمور رأسا على عقب في مخيال وتوهمات البعض، سنة وشيعة، عندما وصف القرضاوي الشيعة الإمامية بـ"المسلمين المبتدعين"، وذهبت الأوهام ببعضهم إلى الزعم بأن القرضاوي يمهد الطريق فقهيا لاستهداف إيران وسلاح حزب الله اللبناني من قبل أميركا وإسرائيل.

في هذه السطور لن أناقش تلك الردود الساقطة والمبتذلة التي أطلقتها بعض الجهات الشيعية، خصوصا الإيرانية منها، ضد الشيخ ومواقفه، فهو أكبر من أن يُشَكك في دعمه للمقاومة بشقيها السني والشيعي.

وتلك الأبواق التي استرسلت لا في الهجوم على القرضاوي فحسب، بل وتعدت ذلك إلى الهجوم على "أهل السنة والجماعة" وتحميلهم أوزار دماء آل البيت الزكية التي سفكت في فتنة عمياء، ومظالم ارتكبها البعض شهوة في السلطان لا حراسة للدين، لهي أتفه من أن تهز عقيدة ومذهب "أهل السنة والجماعة"، التي استوصت بصحب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خيرا من بعده وبعدهم، امتثالا لأمر الباري عز وجل وحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم.

ما الذي ينقمونه على القرضاوي؟ الرجل قال بأن: "الشيعة مسلمون، ولكنهم مبتدعون، وخطرهم يكمن في محاولتهم غزو المجتمع السني". ما الجديد في ذلك؟ هو يقول بكل وضوح إن السنة والشيعة تجمعهما شهادة "أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله"، ويصلون إلى قبلة واحدة.

ويوضح قائلا بعد ذلك: "أما إذا كان قصد السائل إزالة الفوارق بين المذهبين فهذا كلام غير مقبول، لأن أصول مذهبي السنة والشيعة مختلفان في أسس جوهرية". هل من شيء جديد!؟

طبعا هم ينقمون عليه أنه تجرأ على الحديث عن التمدد الشيعي السري والعلني الآن في الفضاء السني، مستغلا ضعف الإسلام السني بسبب الحكومات الهجين التي تحكم باسمه، وهي أشد أعدائه، كما أن هذا التمدد الشيعي يوظف المال الإيراني ورؤية ذلك البلد التبشيرية، فضلا عن مقاومة حزب الله في لبنان.

هم يتحدثون وكأن حزب الله هذا مدعوم من إيران فحسب، وكأنه هو وحده من يقاوم الاحتلال الإسرائيلي، وكأن "سنة" فلسطين لم يقدموا شيئا، رغم أن مقاومتهم وصمودهم أكبر وأعظم في المقاييس الواقعية من مقاومة وصمود حزب الله.

فهم أولا وأخيرا في قلب الدولة العبرية، ومحاصرون من الشقيق قبل القريب، ولا تصلهم صواريخ إيران عبر حدود سوريا والبحر والجو المشرعة أمام أشقائهم في لبنان، ولا يتدربون ويقاتلون تحت إشراف حرس الثورة الإيراني.. إلخ. وإن كان هذا كله لا ينتقص من أي منهما ومقاومته وصموده.

ولكن لماذا هذا التوظيف الطائفي والمذهبي لأمر ينبغي أن يكون إنجازا لأمة الإسلام لو صدقوا في انتمائهم للإسلام لا للمذهب أولا؟

ويتناسى أولئك أيضا أن "إيران الثورة" هي من تباهت بعد غزو أفغانستان والعراق بأنها ساهمت في هزيمة واحتلال هذين البلدين المسلمين السنيين، وأنها هي من مولت ودربت وسلحت فرق الموت الشيعية التي فتكت وما زالت بسنة العراق، وبأنها هي ذاتها من تهدد بضم دول سنية بالقوة إلى جغرافيتها كالبحرين.

لا أقصد بكل الكلام السابق التحريض والتهويش على إيران، حيث ينبغي هنا التفريق بين أمرين، فمن ناحية فإن إيران دولة مركزية ومحورية، وهي في المنطقة من دول الممانعة التي ينبغي أن تكون في خانة الحلفاء لا الأعداء، ولكن هذا لا يمنع من القول بأن إيران ليست دولة ملائكية ولا هي دولة رسالة إسلامية، بل هي دولة مذهب متشدد ومنغلق يعيش في التاريخ ويتغذى على اللطميات والثارات والأحقاد.

وهي حين تدعم الفلسطينيين وقوى الممانعة مشكورة فإنها لا تفعل ذلك لأنها صاحبة رسالة مذهبية فحسب، بل لأن لها في ذلك مصالح إستراتيجية، وهي تريد أولا وقبل أي شيء أن يعترف بها كقوة إقليمية (فارسية شيعية) رئيسية في المنطقة.

وهذا حق لها، ولا يعيبها، وإنما يعيب دول "الكرتون" السنية التي تنازلت عن الحمى والعرض ووكلت أمر حمايتهما إلى ذئاب تتربص بها.

ولكن هذا كله لا يعني أن نغض الطرف عما تقوم به إيران والمجموعات الشيعية من تخريب وإثارة نعرات وفتن في الخفاء والعلن.

القرضاوي من موقعه كعالم وكمرجعية لأهل السنة اليوم، مطالب بمثل هذا الموقف، هذه واحدة من الأمانات المعلقة برقبته. وسيكون خائنا لأمانته لو ترك الحبل على غاربه لقوى تشييع السنة بدعوى أنهم مسلمون مثلنا مثلهم ولا فرق بيننا إلا في المذهب.

نعم، هذا الكلام غير صحيح أبدا. المسألة أكبر من خلاف في المذهب. وفتوى شيخ الأزهر الأسبق شلتوت رحمه الله حول أن المذهب الإمامي الاثنا عشري ما هو إلا مذهب إسلامي خامس يجوز التعبد به، فتوى خطيرة ولا بد لها من مراجعة.

فالأسس لا تتفق، والقرضاوي كما علماء آخرون أوضحوا هذه المسألة، خصوصا فيما يتعلق بمسألة النص الإلهي على الخلافة لعلي كرم الله وجهه، وعدائهم لأبي بكر وعمر رضوان الله عليهما وابنتيهما الطاهرتين زوجتا الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، وسب الصحابة والتوسل بالقبور والمزارات، وتحويل ذكرى مقتل الإمام الحسين رضي الله عنه إلى ذكرى لاجترار الأحقاد والثارات ولطم الوجوه وسفك الدم، فضلا عن تقديس آل البيت ووضعهم فوق الملائكة المنزلين والأنبياء المرسلين من حيث الأفضلية وعلو المكانة، كما يقول الخميني في كتابه الحكومة الإسلامية.

ويخلص القرضاوي من ذلك كله إلى القول: "من أجل ذلك نصفهم بالابتداع، ولا نحكم عليهم بالكفر البواح أو الكفر الأكبر المُخرِج من الملة". ومع ذلك فإن مناط الاحتجاج هنا ليس في عقائدهم، رغم رفضنا لها، وإنما في محاولة نشرها في الفضاء السني وإحداث فتنة وبلبلة فيه.

والمشكلة أن البعض يرى أنه ينبغي أن نؤجل هذه الخلافات "الهامشية"! حتى ننتهي من التحديات الأكبر، مثل الاحتلال الصهيوني والنفوذ الغربي في المنطقة وتهديده للأمة.

هذا الكلام كان سيكون صحيحا لو أن إيران والشيعة التزموا بهذا المبدأ وأبقوا الأمر في إطار الخلاف الفقهي والمذهبي ولم يسعوا إلى نشره وتشييع بعض عوام ودهماء السنة.

إن منطق أصحاب هذا الرأي هو كمنطق رجل اقتحم قريب له منزله يريد سوءا بنسائه، وثمة أيضا من يهدده من خارجه، ثمّ يقول أنهي أولا التهديد الخارجي ثم أتفرغ للداخلي.

وهو حتى وإن نجح في التخلص من التهديد الخارجي فإنه في نهاية المطاف يكون قد خسر عرضه وشرفه في ذلك الوقت!

ينبغي أن لا نخلط بين صمود إيران وممانعتها وبين مشروعها المذهبي المقيت والمتطرف. فالأول مقدر والثاني مذموم. وينبغي أن لا نخلط بين صمود بعض المجموعات الشيعية وبين السماح بالتشييع بسبب من ذلك.

فلو كانت الأمور تحسب بصمود طرف أو آخر، فإن اتباع اشتراكية كاسترو في كوبا أو شافيز في فنزويلا اللذين يتحديان أميركا في حديقتها الخلفية أولى من اتباع شيعية إيران وحزب الله.

مشكلتنا مع الشيعة حقيقية، والسنة ليسوا هم من يستثيرونها، بالعكس إن الشيعة هم من يستفزون السنة، ثمّ إذا ما تكلم السنة واشتكوا، ضجوا (أي الشيعة) بالصراخ والعويل. إنهم يريدون تحويل "التشيع" إلى "هلوكوست" آخر لا يسمح لأحد بالحديث عنه ولا بنقده. إنهم يريدون تحميل السنة اليوم أوزار ماض لا يعرف أحد حقيقة أحداثه، والوهم والدجل فيه أكثر من الحقيقة الخالصة.

إنهم يريدون أن يجعلوا من السنة أعداء للرسول الأعظم وآل بيته الكرام، وكأنهم هم الأوصياء الحقيقيون على الرسالة الربانية السمحة. إنهم يطالبون بأخذ الثأر منا.. والمطلوب كما يرى بعض "طيبينا" أن نقدم لهم القرابين لإرضائهم وشفاء غليلهم من الدم المهراق!

عندما ننتقد الشيعة تقوم الدنيا ولا تقعد، وعندما يسبون هم الصحابة الكرام -الذين أوصلوا لنا الإسلام كما نعرفه اليوم- ليل نهار فمطلوب منا أن نغض الطرف حفاظا على وحدة الأمة!

البعض لا يريد أن يفهم أن "تخوين" الصحابة لو تم كما يريد الشيعة فإنه ينفي الإسلام الذي نؤمن به على مذهب "أهل السنة والجماعة". لو كان السنة دمويين لما كان ثمة شيعي اليوم، فالتاريخ كان لنا ولم يبادوا، والمستقبل سيكون لنا.. ولن يبادوا أيضا.. فنحن جماعة الأمة لا جماعة الطائفة.. ونحن أمة الاجتهاد لا أمة النص الرباني على الأئمة من حضر منهم ومن غاب.

نحن أمة تضع الله أولا ودينه ثانيا، والرسول مبلغ كريم صادق أدى الأمانة ثالثا، وآل بيته ممن آمن أطهار كرام بررة كأصحابه صلى الله عليه وسلم، ولكننا لا نضع الحسين فوق الله وفوق محمد صلى الله عليه وسلم وفوق الحسن وأبيه علي وأمه فاطمة رضوان الله عليهم جميعا.. لسنا نحن من ندعو بالحسين ونتوسل به..

ثم يأتي البعض منا ليقول بأن الفرق بين مذهب أهل السنة والجماعة (بمذاهبه المتعددة) ومذهب التشيع هو كأي فرق بين الحنفية والشافعية! هذا كلام موغل في السذاجة والتنطع.

قبل سنوات صدرت مجلة كويتية شيعية رسمية معنونة غلافها بـ"؟؟؟ أم المؤمنين عائشة".. لقد تعمدت إخفاء العبارة لأنها كلمة نابية من العيار الثقيل ترمي أم المؤمنين رضي الله عنها بالبهتان والإفك.

يومها لم تدن إيران ولم تدن المؤسسة الشيعية الرسمية ذلك الانحطاط الديني والخلقي، ولم يقل أحد بأن من يؤمن بذلك قد كفر، رغم أنهم يكذبون نصوصا صريحة في القرآن عن إيمان وعفة عائشة وكل أزواج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) العفيفات الطاهرات رضي الله عنهن جميعا.

وإذا ما أشار أحد إلى سوء أدب الشيعة مع أمهات المؤمنين وصحب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الكرام الأخيار خرج علينا متفلسف يقول إن هذا لا يمثل الموقف الرسمي للشيعية.. آسف.. ولكن من يمثل الشيعة حقا؟

إذا لم تكن إيران هي من تمثلهم وهي من تسمح بإقامة مزار لأبي لؤلؤة المجوسي قاتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فمن إذن يمثلهم؟ وإذا لم يكن السيستاني "خصم" أبي هريرة رضي الله عنه هو من يمثلهم، فمن إذن؟

وإذا لم يكونوا شيعة العراق الذين غلوا في سفك دماء سنته فمن إذن؟ وإذا لم يكن حزب الله الذي يصر أمينه العام حسن نصر الله على لعن (تلميحا دون التصريح بأسمائهم) أبي سفيان وهند ومعاوية رضوان اللهم عليهم جميعا في كل ذكرى "كربلائية" فمن؟

نحن نقف مع إيران وحزب الله عندما يكونان قوة ممانعة وحركة مقاومة ضد الاحتلال، ولكننا لن نقف معهما عندما يتم التطاول على صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ونحن نقف مع حزب الله في لبنان في صراعه مع قوى سنية لبنانية عندما يكون حزب الله مدافعا عن سيادة لبنان واستقلاله في مواجهة أطراف سنية تريد رهنه للخارج.. ولكننا لن نكون بحال في صف حزب الله أو إيران عندما يحملان مشروعا تشييعيا للمنطقة.

هذه هي الرؤية المتوازنة التي انطلق منها الإمام القرضاوي كمرجعية لـ"أهل السنة والجماعة". وحذار.. حذار من أن نقف في صف التشييع بسذاجة على حساب فضل وسابقة صحب كرام، هم أفضل منا وأطهر، سنة وشيعة.

.........

* كاتب فلسطيني، والمقال نقلا عن الجزيرة نت