أ.د عبد الحليم عويس

بعضنا- فى أوقات اختلاط المفاهيم والفتن- يكون ملكياً أكثر من الملك، ويدافع عن الباطل الملتبس بشىء من القوة والدعاية المثيرة- ربما أكثر مما يدافع أهل الباطل أنفسهم.. ونحن نبصر هذا فى حياتنا المعاصرة فى تلك الاستباقات الكثيرة التى يسبح فيها أمثال جمال البنا وحجازى والحداثيين والعلمانيين.. ونبصر ذلك أيضاً فى تهافت بعض أصحاب القرار الذين يتنافسون لإعطاء الأعداء أكثر بكثير مما كان يحلم به الأعداء!! وهكذا- فى ظل سيطرة الهزيمة الداخلية وميوعة الانتماء وفساد الموازين- يسقط بعضهم فى حفرة الانبهار بأضواء اللحظة وبالقوة المصطنعة ناسين الثوابت والمبادئ الواضحة الباقية، بل غير ملتفتين للمرجعية الكاشفة الحاكمة.. وهى بالنسبة لكل المسلمين- القرآن الكريم والسنة الشريفة...

لقد انبهر الناس، فأسرعوا بالترحيب بانقلاب مصطفى كمال على الخلافة العثمانية، حتى سقط أحمد شوقى فى قصيدته التى وجهها إلى هادم الخلافة العثمانية قائلاً له: (يا خالد الترك جدِّد خالد العرب) لكن شوقى سرعان ما أدرك حقيقة هذا الماسونى فكتب كثيرا فى هجائه... وكم خدعنا- نحن العرب- فى انقلابات سُميت ثورات، لكننا بعد ذلك ذقنا الهوان كله على أيديها.. وترحمنا على ما كان قبلها!!

تذكرت هذا كله، وأنا أراقب ما وقع بين الداعية الكبير الشيخ يوسف القرضاوى وبعض أهل السنة... ممكن كانوا يفتخرون بأنهم تلاميذه وأتباعه، فتحولوا (ولعن الله الشيطان والسياسة كما يقول الإمام النورسىّ) بين عشية وضحاها إلى خصوم وأنداد وناصحين، وهبط بعضهم ممن لم يعرف عنهم أنهم قالوا كلمة حق فى حياتهم.. ولا ناصروا الإسلام فى موقف من المواقف.. بل عاشوا يدورون فى مشتقات مصطلح (حوار- ومحاور- ويحاور- ومحاورة) حتى فى أيام المدّ الاشتراكى الشيوعى.. وحتى اليوم... وكم علمونا- لولا أن الله حفظنا- كيف نخضع الإسلام لكل الأيدلوجيات، وكيف نذيب هوية الإسلام فى كل العصور، ليبقى الإسلام صالحاً- كما يريدون- للتبعية والخضوع لكل الأفكار والعصور!!.

لقد هبطوا- وكلهم على المعاش ينتظرون المعاد- فآثروا السياسة، وأساليبها، ومعادلاتها من المنطلق الانهزامى التلفيقى الذى عُرفوا به على العقيدة والمبادئ والمرجعية الإسلامية الثابتة فى مصدريها القرآن الكريم والسنة الشريفة...

إن الشيخ يوسف القرضاوى أقرب الدعاة إلى الوسطية وتوحيد الأمة والتقريب بين طوائفها وعناصرها.. وهذا أمر معروف عنه، واستحق به الإجلال والاحترام من كل المسلمين.. سنة وشيعة وإباضية وزيدية.. عرباً وعجماً..

لكن هذا شىء.. وإيمانه بثوابت المرجعية الإسلامية شىء آخر.. وعبر تاريخه كله كان مقاوماً لكل من يتجاوز هذه المرجعية (قرآناً وسنة).. أيام المدّ الشيوعى، والغزو الليبرالى والحداثي، وفى مواجهة التنصير (التبشير المسيحى) والمذاهب الهدامة كلها (قاديانية أو بهائية أو إسماعيلية).. وكذلك فى مواجهة الصهيونية وما تفرزه من أفكار وعبيد يبيعون دينهم وحضارتهم!!

فما الجديد إذن عندما يلفت الشيخ القرضاوى نظر إخواننا الاثنا عشرية الذين رفضوا- عمليا- ما اتفق عليه نظريا من محاولة تناسى الماضى والعمل على التوحد، وعدم إثارة الفتنة الطائفية عن طريق نشر مذهبهم- بين أهل السنة بخاصة.. وصولاً إلى التقريب الصحيح ووحدة الفكر ووحدة الصف فى مواجهة القوة العالمية المتربصة بالإسلام... لقد زكمت كل الأنوف روائح القتل- بأبشع الوسائل- لأهل السنة بين الشيعة المدعومين فى العراق من إيران...

وقد ذكر لى- شخصياً- صديق حميم من زعماء أهل السنة فى العراق أنه زار إيران وحمل معه ملفات أكثر من (120 مسلماً سنياً) قُتلوا ومثّل بهم أبشع تمثيل من شيعة العراق... وترك لهم الوثائق آملاً أن يمنعوا إخوانهم فى العراق من التمادى فى هذا المخطط الرامى لإبادة أهل السنة فى العراق!!

وأقول فى شهادة أخرى للتاريخ: إننا كنا فى ملتقيات الفكر الإسلامى بالجزائر منذ نحو خمسة وعشرين عاماً.. ولاحظ الشيخان محمد الغزالى والقرضاوى- كما لاحظ ذلك معالى وزير الشئون الإسلامية بالجزائر آنذاك أستاذنا الجليل الشيخ عبد الرحمن شيبان (رئيس جمعية علماء المسلمين بالجزائر الآن)- وكنتُ جالساً معهم.. واتفق الثلاثة على اتخاذ الوسائل الممكنة لحماية الجزائر من المدّ الشيعى!!.. ويكاد المدّ الشيعى يلتهم جزر القمر الآن- حكومة وشعباً- وتعتبر أبو حماد التابعة للشرقية (الزقازيق) بمصر- وكراً من أوكار التشيع الآن بواسطة المهندس المتشيع (طارق يوسف) الذى كان تلميذاً للشيخ صلاح أبى أسماعيل- ولى أيضاً كما يقول هو- ومع ذلك التقطه الشيعة من نيجيريا وأخذوه إلى أمريكا ليعمل داعية عندهم.. كما تعتبر المنصورة- بواسطة الطبيب (الإخوانى السابق) أحمد راسم النفيس- الذى يطالب بتشييع مصر كلها لأنها السابقة فى النزعة العلوية عندما اشترك بعض المصريين فى (شرف !!) قتل عثمان (رضى الله عنه).. مع أن هؤلاء المصريين القتلة كانوا من القبائل المهاجرة، وليسوا من المصريين...

وهكذا يمكن بالأرقام والوقائع- لو كانت هناك فرصة للتفصيل- أن نتتبع انتشار الشيعة بين أهل السنة.. فى كل مكان.. لكن هذا لا يهمنا الآن.. (وإن كنتُ أدعو إلى القيام به).. وما أردت بما أوردت من بعض الوقائع إلا أن أؤكد أن الشيخ أستاذنا الدكتور يوسف القرضاوى لم ينطلق من فراغ عندما غضب هذه الغضبة لله بعد أن طفح الكيل.. والمسلمون السنة غافلون بين معجب بإيران ومصفق لحزب الله.. دون أن يعرف ما وراء الأمور.. كما سقط بعضنا من قبل فى مستنقع الانبهار والإعجاب بمصطفى كمال.... والانبهار والإعجاب بالانقلابات العسكرية الثورية وزعماء الشعارات الكبرى والهزائم والتنازلات الكبرى...

لقد كان أستاذنا الشيخ الغزالى يقول: إنهم- أى أعداؤنا- يخططون لإبادتنا تخطيط الفلاسفة للأطفال.. فمتى نشبُّ عن الطوق؟! ونفهم ما يُدبَّر لنا؟!.. وهل سنظل قصعة ندعو المتسابقين لالتهامنا؟

لقد جاءت- والله- صرخة الشيخ القرضاوى متأخرة عن وقتها.. وإننى لمستبشر بها.. فى رأب الصدع بين السنة والشيعة- من جانب- وفى حماية أهل السنة وتحريك وعيهم من جانب آخر...

ولعله من قبيل تأكيد ما أقول أن أشير إلى أن هناك صرخات من جانب إخواننا الشيعة العقلاء أنفسهم.. بضرورة التصحيح.. حتى يتحقق التقريب الحقيقى.. ومن ثم تتحقق الوحدة الإسلامية.. وقد كان المفكر الإيرانى الكبير الاجتماعى الفيلسوف الدكتور على شريعتى يطالب- فى كتابه (العودة إلى الذات)- بضرورة عودة الشيعة إلى التشيع السنىّ الذى كان عليه الأئمة الأعلام.. ونبذ ومقاومة التشيع الصفوى الذى يقف وراء كل الانحرافات الموجودة فى الاثنى عشرية اليوم!!

أما الدكتور موسى الموسوى فقد أصدر كتاباً طبع طبعات كثيرة تحت مسمى (الشيعة والتصحيح - الصراع بين الشيعة والتشيع) أكد فيه ضرورة تعديل الموقف الشيعى من الإمامة (وراثة أو عصمة) ومن (التقية) ومن (سب الصحابة وأمهات المؤمنين) ومن (الغلو فى التعبدّ بمراقد الأئمة) و(ضرب القامات فى عاشوراء) بالحديد والجنازير، وزواج المتعة (المؤقت) والسجود على (التربة الحسينية) حتى ولو فى الكعبة!!... إلى غير ذلك.

فليس الشيخ القرضاوى وحده هو الذى أعلن موقفه بشكل يوقظ النائمين، بل هناك من الشيعة والسنة مَن يصرخون مطالبين بإزالة أتربة التاريخ.. وفتح صفحة جديدة وفاقاً للمرجعية الإسلامية (القرآن والسنة الصحيحة)... وهى النتيجة نفسها التى انتهت إليها قرارات مجلس أمناء الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين المنعقد فى الدوحة بتاريخ 14 شوال 1429هـ 14 أكتوبر 2008م عقب الأزمة مباشرة.. (القرار رقم 1..) وينظر أيضاً القرار رقم (2) بفروعه، وهو القرار الخاص بضرورة احترام أصحاب النبى [ وزوجاته، وحرمة دم المسلم فى العراق وغيره، والكفّ عن نشر التشيع بين أهل السنة، واحترام حقوق الأقليات (ومنهم أهل السنة فى إيران)..

وهذه القرارات التى نأمل تنفيذها.. هى ما نصبو إليه.. فنحن من طلاب الوحدة.. ولسنا- ولن نكون بإذن الله- من دعاة الفتنة والفرقة..

ولا نامت أعين الجبناء عن قول الحق... فى أيامنا التى يصبح فيها الرجل مؤمنا، ويمسى كافراً بعرض من الدنيا.

.....

* عن صحيفة المصريون.