د. عمرو عبد الكريم

هذه بعض الملاحظات المنهجية والتفصيلية كتبتها رداً على ثلاث مقالات ضافيات كتبها الدكتور إبراهيم البيومي غانم في جريدة الدستور المصرية من 31|10|2008 إلى 2|11|2008 وهي عن البيان الأخير للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وقضية المد الشيعي وتحذيرات العلامة الدكتور يوسف القرضاوي منه.

منذ الحلقة الأولى يبدو حرص الكاتب واضحًا على نسبة فكرة الاتحاد إلى غير العلامة القرضاوي سواء أكان الدكتور توفيق الشاوي حفظه الله أو غيره من أغلب المشاركين في ندوة قضايا المستقبل في الجزائر في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، وهي قضية تحتاج تدخل وحسم من العلامة القرضاوي وشهود تلك الندوة.

إنما الذي أود أن أوضحه - مما أعرفه - أن كلام الدكتور الشاوي كان حول تأسيس اتحاد للكتاب الاسلاميين، وليس اتحاداً لعلماء المسلمين.

أما فكرة اتحاد عالمي لعلماء المسلمين من جميع بلدان العالم ومن جميع مذاهب المسلمين هي خالص فكر العلامة القرضاوي، ولا أحد يمكنه أن ينازعه – ولو كان من الشانئين – في أنّه مَن حول فكرة تأسيس الاتحاد من عالم المثال إلى عالم الشهادة، ومن دنيا التصورات والذهنيات إلى حيز الوجود والواقع، وهو الذي جعلها كائنًا حيًّا يمشي على قدمين.

لقد كتبتُ عن العلامة القرضاوي منذ ما يقرب من عشر سنين في كتاب: قضايا المرأة في فقه القرضاوي، أنه لا زال يحلم بحلمين يريد أن يحققهما؛ أما الأول: هو إنشاء مؤسسة ترعى الموهوبين من أبناء العالم الاسلامي, وأما الثاني: فهو تأسيس اتحاد عالمي لعلماء المسلمين، يجمع العلماء على اختلاف مذاهبهم وبلدانهم؛ اتحادا شعبيا بعيدًا عن الحكومات وسياساتها، وكان له ما أراد في عام 2004م. وتصور د. إبراهيم أن الداعي لهذا الاتحاد كان عالمًِا غير الدكتور القرضاوي كم كان يستطيع أن يجمع من مختلف بلاد المعمورة؛ ومن مختلف المذاهب الاسلامية؟ إن نسبة الفضل لأهله من شيم ذوي المروءات.

ولو كان الدكتور الشاوي حفظه الله هو أول الداعين لتأسيس الاتحاد العالمي للعلماء ووضع مسودة النظام التأسيسي لهذا الاتحاد فلماذا لم يعتمدها الاتحاد إذا كانت هي هي؟ ولعل هذا مما يثبت أن ما وضعه الدكتور الشاوي هو مسودة نظام تأسيسي لاتحاد الكتاب الاسلاميين وليس لاتحاد العلماء؛ ودع عنك قضية من صاحب الحق في الفكرة، فكم من أفكار نيِّرة لم تجد من ذوي الهمم المخلصين مَن ينفخوا فيها الروح، ويحولوها من أفكار مجردة على الورق إلى مؤسسات ضخمة وكيانات تسمع وتحس. لكن أحسب أن الموضوع بحاجة إلى شهادة للتاريخ، ومن باب الحرص ألا يمرر الكلام ولا يجد من يرده أو ينفيه؛ وهذه ليست قضية هامشية أو حقاً مشاعاً كل أحد يدَّعيه؛ بل أحسب أن من حق الأجيال القادمة أن تعرف الحقيقة من شهود تلك الوقائع؛ وأصحابها ودورهم أن يبينوا.

الغريب أن د. إبراهيم - على غير ما نعرفه عنه في أبحاثه وكتبه - يسوق بعض الوقائع على خلاف الحقيقة – وهي وقائع أعيان لا تحتمل التأويل وشهودها لا زالوا يسعون بيننا - بصيغة الجزم وبلغة صارمة، حتى يكاد من حضرها يشك في نفسه؛ فمثلا يقول أن الاجتماع التأسيسي للاتحاد عقد في دبلن بأيرلندا الشمالية في حين أنه عقد بلندن، وإذا كان هذا في أمور يستطيع بكبسة زر على الانترنت التحقق منها، أو سؤال هؤلاء الذين دائما ما يسألهم في أمانة الاتحاد وهم كانوا حضور، فكيف إذا مرت سنون وفقدنا شهود الوقائع - أليس التدليس على الأحياء مؤشر للكذب على الأموات؛ وذلك حين يغيب الشهود ولو كانوا غير عدول.
ثم ما هذا الانقلاب الفكري العميق الذي حدث بانتصار الاتحاد لصاحب فكرته ومؤسِسِه ورئيسه أن تصدرت قضيته البيان الأخير، أليست تلك القضية سبب الاجتماع ومن أجلها انعقد ولم يكن هناك جديد في قضية فلسطين حتى تتصدر البيان؛ ومن المعروف أن كثيرًا من الاتحادات والهيئات العلمية أحيانا ما تنعقد من أجل إصدار بيان في قضية واحدة تثبت فيه موقفها ورأيها؛ وليس معنى هذا أنها لا تهتم ببقية قضاياها أو أنه إذا تناولتها تاليًا فقد تأخر ترتيب أهمية تلك القضية، حقًا إنه منطق أعوج – إن كان ثمة منطق أصلاً - ذلك المنطق الذي يستبطن نتيجة أو حُكمًا ثم يبحث عن مبرراته أو يسوق شبهات واهية عرية عن الأسانيد.
إن مجلس أمناء الاتحاد انعقد من أجل اتهامات كالتها وكالة أنباء مهر الإيرانية لحبر الأمة العلامة يوسف القرضاوي في دينه وعرضه من مثل: أنه يتحدث نيابة عن زعماء الماسونية العالمية وحاخامات اليهود، وذلك عندما حذر من مد شيعي في بلاد أهل السنة، وأكد أنه اختراق منظم للمجتمعات السنية وراءه عناصر مدربة ودولة تدعم مذهبها، تهدف من وراء ذلك إلى استخدام هؤلاء المتحولين إلى مذهبها: أوراق ضغط سياسية تهز بها استقرار دولهم ومجمعاتهم.

وفي هذا الإطار لم يكن هذا الصحفي السفيه فقط هو من سَب العلامة القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، بل يشاركه من سمح بنشر تلك البذاءات على رؤوس الاشهاد، ونحن نعلم يقينا أنها لم تكن قضية فردية كتب فيها غر سباباً قرأه الناس، دون أن يمر على إدارة تحرير، ورئيس تحرير، وخط دولة مركزية، وما يثبت ذلك هي تلك الحملة المنظمة التي شارك فيها الشيخان التسخيري وفضل الله، ومن سلقوا الشيخ بألسنة حداد، حتى طالب وكيل المرجعيات الشيعية في أحد بلدان الخليج بنزع عمامة القرضاوي وتجريده من جنسيته القطرية؛ ولم يكتفوا بذلك بل خاضوا في بيت الشيخ واتهموا ابنه بالتشيع، تلك الفرية التي تولى كبرها علي الكوراني، ولعل ذلك من الدس الرخيص التي اعتاد عليه القوم، وهي أشبه ما تكون بحرب نفسيه؛ أنبرى فيها كثير من علماء الأمة وفقهائها، دفاعاً عن الشيخ وصيانة لرمزيته، وحفظاً لمرجعيته، وسل فيه أوفياؤه وتلاميذه أقلامهم دفاعاً عن معلمهم؛ وزودًا عن حياض فقيه أمتهم.

أما هذا البند في بيان اتحاد العلماء والذي تهكم عليه د. إبراهيم بلغة لا تليق بأمثاله من الباحثين، وهو طلب الاعتذار من الدولة الايرانية، فهو ما حدث بالفعل حيث جاء الشيخ – معتذرين- رموز الدولة الايرانية ممثلة في: علي أكبر ولاياتي مستشار المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية، ووزير الداخلية السابق علي أكبر محتشمي، والمستشار الثقافي بالخارجية الإيرانية عباس خامة، والسفير الإيراني بالدوحة محمد طاهر رباني؛ محاولة منهم للملمة الموضوع، فما توقعوا أن تكون تلك الغضبة السنية الشعبية من أجل الشيخ بمثل هذا الحجم، وأرادوا أن يوقع العلامة القرضاوي على بيان مشترك يشير إلى إغلاق الملف الخاص بالنزاع المحتدم حول الغزو الشيعي للمجتمعات السنية فرفض قبل أن يلتزم الوفد الإيراني، ومن ثم الجانب الشيعي بالتوقف عن السعي لغزو المجتمعات السنية وسب الصحابة؛ وأكد العلامة القرضاوي على ثبات رأيه وموقفه، بل وجدد تحذيراته من خطر نشر التشيع, وهدد بالانسحاب من جهود التقريب بين المذاهب إذا استمر الطرف الشيعي في ممارساته ولم يتراجع عنها بوضوح، مشيرًا إلى أنه في هذه الحالة سيكون التقريب بين المذاهب على المحك، وسيصبح لا معنى له في ظل استمرارهم في اختراق البلاد السنية.

هل إذا انتصر الاتحاد للحقِّ يكون قد دهس مباديء وحدة الأمة والمؤسسية والعفو عند المقدرة أو انقلب فكرياً على الوسطية ومنهج الأولويات ومنهجية التقريب. إن الاتحاد وبيانه قد انتصر للحقِّ قبل أن ينتصر لشخص الشيخ - وهو أهل للنصرة - لكن أي خير في اتحاد لعلماء المسلمين يُتَهم رئيسه بما اتهم به الشيخ ويصمت.

والعجيب أن هذا البيان لا سيما بنده الأول وهو الخاص بقضية العلامة القرضاوي والاصرار على تقديم اعتذار له قد صدر بإجماع أعضاء مجلس الاتحاد وبحضور رموز الشيعة الاثنى عشرية في الاتحاد الشيخ التسخيري، وكذلك ابن الشيخ محمد حسين فضل الله، ومحمد سعيد نعماني، أي أن أخانا هذا ومن لف لفه - أو من لف هو لفهم - ملكيون أكثر من الملك.

أما سعي بيان الاتحاد الأخير لتشكيل لجنة متخصصة ترصد ما يحدث من مساع إلى إحياء الفتن المذهبية متمثلة في التبشير المنظّم بالمذهب غير السائد، هو أهم مقومات الحفاظ على وحدة دار الاسلام إذ يكفيها ما بها من انقسامات مذهبية وعرقية، فما يريده البيان هو أن تكف إيران يدها على نشر التشيع، خاصة في تلك الدول التي تشهد وحدة مذهبية، حتى لا يصبح هؤلاء المتحولون مذهبياً قنابل موقوتة في مجتمعاتهم، أو بالأحرى أوراق ضغط في لعبة إقليمية تدرك إيران مراميها جيدًا.

ولينظر د. إبراهيم إلى قضية الحوثيين في اليمن، وهم شيعة زيود (زيدية)، بمجرد أن تحولوا إلى شيعة اثنى عشرية - يأتمرون بأمر الولي الفقيه في إيران- أصبحوا مشكلة سياسية وأمنية لليمن، وغدوا حركة تمرد مسلح تستنزف البلاد ومواردها على قلتها؛ فهل هذ النموذج المراد نشره وتعميمه، وهل هذا هو الحرص على وحدة دار الإسلام والسلم الاجتماعي لشعوبنا.

إن السائد وغير السائد معروف اجتماعيًّا، ومن السهولة وضع مؤشراته الميدانية كما يعلم الكاتب جيدًا ولا أحسب أن بيان الاتحاد موجه إلى حركة انتقال مذهبي فردي بل الخوف – كل الخوف - من تلك الكوادر المدربة والمدعومة بميزانيات دولة تريد أن تناور إقليميًا ولو على حساب أمن مجتمعاتنا وشعوبنا.

وكنت أحسب أن دور الباحث الاجتماعي – وكل غيور على استقرار مجتمعه - هو رصد تلك الظواهر واستشراف مستقبلها؛ لا الهجوم على كل مَن رأى الخطر من بعيد وحذر منه؛ وما ذنب من أدرك الخطر واستشعر فداحة الأمر إذا كان غيره لا يتحرك إلا عندما تمسك النيران بتلابيب ثيابه.

وأي عفو يطالب به د. إبراهيم مَن طُعِنَ في دينه وعرضه وقيل عنه: "إنه يتحدث نيابة عن زعماء الماسونية العالمية وحاخامات اليهود". إن الله وضع العدل ميزانًاً بين الناس في الدنيا، ودعا للفضل ممثلا في العفو، لكن ما رأينا أحدا من الأولين ولا الآخرين يلزم مَن اعتدي عليه بالفضل واتباع سبيل العفو؛ فما ظلم مَن استوفى حقه.

وليس مفترضا – كما يقول الكاتب - على الشيخ أن يعفو، فهي ليست قضية شخصية بل سمعة الشيخ ورمزيته من حقوق الأمة عليه، فهذا الفاحش البذيء لم يسئ للشيخ بينه وبين نفسه ولا بينه وبين الشيخ، بل أخرج ذلك الفحش على الناس أجمعين وأعانه عليه قوم آخرون جاؤا ظلماً وزورا يحملون من مثل وزره إن لم يكونوا أشد وزرا، ولسنا من السذاجة أن نتصور أن هذا السلوك سلوكا فردياً لمحرر أهوج أهلكه طول لسانه على من لا تنفع عنده شفاعة الشافعين وإلا كنا أغبياء غفْل وليس مجرد دراويش سذج.

وأنا لا أدري يا د. إبرهيم هل كل أعضاء الاتحاد ومجلس أمنائه وكل بيانات تأييد الشيخ - في قضية المد الشيعي - التي وقع عليها مئات بل آلاف العلماء والرموز الدينية على مدار تلك الرقعة الواسعة التي تظلل محور طنجة – جاكرتا، من باكستان إلى سوريا (رابطة علماء سوريا المستقلة) مرورًا بمصر (جبهة علماء الأزهر)، وعلماء الجزائر فات عليها ما لم يفت عليك، أو ليس الأولى أن تتهم إدراكك للأمور؛ فحنانيك يا دكتور إبراهيم، ورفقا بنفسك من هذا التعالم المهلِك فلم نعهدك هكذا، ونحن الذين نعرفك ونعرف حُسن أخلاقك، لكنها ربما كانت كبوتك أو عثرتك؛ أقالك الله منها؛ وهدانا وإياك سبيل الرشاد.

وأخيراً ربما كان الأمر كله وخاصة موضوع التمدد الشيعي في ديار أهل السنة وموقف اتحاد علماء المسلمين بحاجة إلى مزيد تفصيل ومزيد بيان، وأحسب أن قابل الأيام ستدفعنا دفعًا إلى نكيء ذلك الجرح الدامي في قلب أمتنا؛ ففي مقال سابق بعنوان: "العلامة القرضاوي والهجوم الشيعي الشرس" قلت في خاتمته: "لا أتوقع ان تنتهي الحملة على العلامة القرضاوي قريبًا فما ظهر إلا رأس جبل الجليد العائم" ولا زلت مصرًّا على هذا القول.

.........

- المصدر: صحيفة المصريون.