د. أيمن الجندى

إنه السلسال المبارك، كابراً عن كابر: بركة الشيخ محمد أبوزهرة، إمام عصره وفقيه زمانه، التى انتقلت إلى تلميذه وصفيّه الشيخ محمد الغزالى، ومنه إلى شيخنا الجليل يوسف القرضاوى. أئمة المدرسة العقلية الحديثة التى توقّر النقل ولا تزدرى العقل، وتأبى العنف والفهم الضيق للدين، وتعقد صلحاً بين النصوص المقدسة والحضارة الحديثة.

كنا بحاجة إلى فقيه بحجم القرضاوى، لا يخشى فى الله لومة لائم، ولا ترهبه تهمة عدم الوفاء لذكرى المرحوم سيد قطب، والهالة المصنوعة حوله بعد أن دفع رأسه ثمناً لأفكاره، وأصبح مجرد ذكر اسمه يستدعى صورته الشهيرة خلف قضبان السجن: نحيف الوجه، بارز الملامح، حالم العينين وكأنه ذكرى أو روح أو شهيد. هالة انعقدت حول ذكراه، وحالة من الاستقطاب حول آرائه فلم يعد أحد من المفكرين الإسلاميين يجرؤ على الاقتراب منها خوفاً أن يُتهم بالانتصار لجلاديه.

قلت دائماً إن نفاق الجمهور أسوأ من نفاق الحاكم، فأى شجاعة مهولة امتلكها القرضاوى حين صرّح- فى حواره مع الأستاذ ضياء رشوان، الذى بثّته فضائية «الفراعين»، ونشره موقع إسلام أون لاين- بأن الأفكار التكفيرية التى انتهى إليها سيد قطب فى كتبه المتأخرة ليست على منهج أهل السنة والجماعة الذى ارتآه جمهور الأمة، لأنه توسع فى مفهوم «الجاهلية»، التى اختلفت دلالتها عنده عما جاءت عليه فى القرآن الكريم، حيث اعتبر المجتمع غير مسلم ومهمة المصلحين هى رد الناس أولاً إلى العقيدة الإسلامية الصحيحة، وأن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

لم يكن هناك أحد- باستثناء القرضاوى- يمكنه أن يواجه عقل سيد قطب الجبار وذهنه المتوقد وتمكنه الفذ من أدواته، وتحظى شهادته- فى الوقت نفسه- بالثقة والقبول.. عكس حالة الريبة وخفة الوزن إذا كتب نفس الرأى العلمانيون. القرضاوى أدلى بشهادته لوجه «الحق» والأجيال القادمة، لا يبتغى مرضاة أحد حين أدان النظام الذى قرّب الشيوعيين فى هذه المرحلة بما أوحى أنه يعادى الإسلام. وكان منصفاً حين أوضح أن هذا الفكر الرافض تكوّن داخل السجون تحت تأثير التعذيب، وأن سيد قطب- رغم خطئه- كان مخلصاً فى توجهه، مأجوراً- إن شاء الله- على اجتهاده، أصاب أم أخطأ. عاش للإسلام، ومات للإسلام. فرضى الله عنه وغفر له ما أخطأ فيه.

وهذا النقد لفكر سيد قطب لا يعنى أن نتجنبه كله، كأطفال حذرتهم أمهاتهم من الغرباء «الوحشين»! هذه المراجعة المحمودة الطيبة يجب ألا تصرفنا عن عبقريته الحقيقية، سيد قطب الناقد المتميز الذى كان أول مَنْ انتبه إلى عبقرية نجيب محفوظ وهو- بعد- كاتب مغمور. سيد قطب الذى كشف جواهر القرآن البلاغية بعين أديب متمرس ذواق للفنون، رائد فى مجاله بإحساسه الوجدانى المرهف للقرآن الكريم.

إنه سيد قطب، صاحب النظرية الرائدة فى «التصوير الفنى فى القرآن الكريم»، التى أخذت تطبيقها فى تفسير الظلال، يأخذ بأيدينا خطوة بعد خطوة لنتشرّب حلاوة القرآن الكريم. قال إن التصوير الفنى هو الطريقة الموحّدة والقاعدة الكبيرة التى استخدمها القرآن الكريم للتعبير عن جميع أغراضه فيما عدا التشريع.

 قال إن هناك تصويراً باللون وتصويراً بالحركة وتصويراً بالنغمة وتصويراً بالتخييل. وكثيراً ما يشترك الوصف والحوار وجرس الكلمات ونغم العبارات وموسيقى السياق فى إبراز صورة من الصورة تتملاها العين والأذن والحس والخيال، فيحوّل المعنى الذهنى إلى صورة محسوسة متخيلة، ثم يرتقى بالصورة التى يرسمها فيمنحها الحياة والحركة ويخاطب بها الحس والوجدان.

هذا هو سيد قطب الذى نريده، الأديب لا المفكّر. وهذه هى مصر العريقة الطيبة التى تصحّح أخطاءها بنفسها، وتنهض بعدما تكبو، وتقوم حينما تتعثر، وإذا أخطأت لا تجادل ولا تستكبر. مصر المعجونة بسماحة الريف المصرى، هديل الحمام الأبيض عند العصارى، وغناء السواقى تروى الأرض الطيبة، والأيدى المعروقة الشريفة تبذر القمح، والوجوه الملوحة بالشمس تسير فى سكينة صوب المسجد والكنيسة.

مصر التدين الشعبى الممزوج بحب القدّيسين وآل البيت، المتعايشة مع أقباطها كتجاور الخضار فى كل حقل، التى لاذت بها العذراء المقدسة وطفلها النفيس. بركة النبى محمد الذى أوصى بأهلها خيراً، آيات تتلى حتى قيام الساعة: «ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين».

......

- المصدر: جريدة المصري اليوم