في هذا المقال بصحيفة الأهرام المصرية يدعو العلامة الدكتور يوسف القرضاوي المؤسسات الصحفية والإعلامية، والمسؤوليين السياسيين والفكريين في البلدين الشقيقين (مصر والجزائر) إلى وقفة صريحة مع النفس، ليرصد كلٌّ منهما التجاوزات التي صدرت من قِبَله، ليحاسب عليها مَن فعلها، فالله سبحانه أوصانا بالعدل في الغضب والرضا..

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن اتَّبع هداه، وبعد:

ابدأ كلمتي بتوجيه تهنئتي الخالصة لأمتنا العربية والإسلامية بعيد الأضحى المبارك، الذي أسأل الله تعالى أن يكون بشير خير وبركة على أمتنا، وأن يعيد أمثاله عليها بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، وخصوصا الشقيقين مصر والجزائر.

ثم أشكر لجريدة الأهرام العريقة تبنِّيها لهذا الاتجاه، اتجاه التهدئة والتقريب بين الأشقاء، وأشكر لعقلاء البلدين مصر والجزائر، الذين أصدروا بيانات يدعون فيها إلى التهدئة، وينكرون فيها التجاوزات التي حدثت من كلا الطرفين، وهذا هو دور الحكماء والقادة والعلماء، أن يحكِّموا العقل لا أن ينساقوا وراء العواطف، وأن يوجِّهوا الجماهير، لا أن يسايروها.

وأُريد أن أدعو المؤسسات الصحفية والإعلامية، والمسؤوليين السياسيين والفكريين في البلدين الشقيقين إلى وقفة صريحة مع النفس، ليرصد كلٌّ منهما التجاوزات التي صدرت من قِبَله، ليحاسب عليها مَن فعلها، فالله سبحانه وتعالى أوصانا بالعدل في الغضب والرضا فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء:135]، وقال: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، على أنه لا يوجد هنا شنآن في نفوس الشعبين.

الروابط بين مصر والجزائر:

والروابط المشتركة بين مصر والجزائر أعمق من أن تنال منها أحداث طارئة، صدرت في وقت غضب عارض، من فئات هُيِّجت فهاجت، في كلا البلدين، فهما بلدان كبيران يُعتبر كلٌّ منهما ركنا ركينا للأمة العربية الإسلامية، وهما بلدان عربيان مسلمان، وهما شريكا كفاح وجهاد، فبينهما تاريخ مشترك، وقفا فيه صفًّا واحدًا، ضد عدوٍّ مشترك، فيوم قدَّم الجزائريُّون مليونا ونصف من الشهداء في معركة الحرية والاستقلال، كانت مصر وراءهم ومعهم بكلِّ ما تستطيع: عسكريا وإعلاميا وسياسيا.

ويوم أرادت الجزائر أن تكمل استقلالها بتعريب التعليم، كان المصريون هم جيش التعريب في الجزائر.

وهل تنسى مصر مشاركة الجزائريين بالرجال والعتاد والسلاح، وتقديمهم بطولات باسلة، ووقوفهم جنبا إلى جنب مع المصريين في حرب العاشر من رمضان، (السادس من أكتوبر).

فليس من المعقول أن يتناسى البلدان تلك الملاحم التي سطِّرت بالدم، من أجل مباراة كرة قدم، أو من أجل حماقات ارتكبها مَن لا يقدِّر المسؤولية، أو مَن لا يريد بالشعبين خيرا.

ولقد تفطَّر قلبي أسى، وتمزَّق كبدي حسرة، حين رأيتُ التصعيد المتبادل،  قبل المباراة وبعدها، الذي دخل فيه التهويل والغلو والاختلاق واستباحة الكذب والسباب، وهو لا يصبُّ في مصلحة قومية ولا إسلامية، وإنما مهمَّته أن يُشعل النار، وأن يُضرم الفتنة، وأن يُحيي العصبية الجاهلية، التي محتها عقيدة الإسلام وأخوة الإسلام.

والعجيب أن أحد البلدين لو دخل مباراة مع بريطانيا أو فرنسا أو إيطاليا أو أسبانيا، أو غيرها من البلاد، التي احتلَّت ديارنا، واستعمرت شعوبنا، لم يكن فيها مثل هذا التوتُّر والانفعال. فإذا ما كانت بين الأخ وأخيه حدث ما شاهدناه مما لا يتصوَّر ولا يُعقل!

وإني لأستبعد على بلدين كبيرين مثل مصر والجزائر الاستمرار في هذا النهج، والعودة إلى عصور الجاهلية التي كانت تقوم فيها الحروب الطويلة من أجل ناقة أو فرس، كحرب البسوس وحرب داحس والغبراء؟ والتي كان يقول فيها القائل:

وأحيانا على بكر أخينا  **  إذا ما لم نجد إلا أخانا

لقد أصبحنا مضحكة للإسرائيليين في صحفهم وإعلامهم، فقد باتوا يسخرون منا، ويشمتون بنا، ويقولون: هاهم العرب الموحَّدون! ويقول أحدهم: انظروا إلى عقلية العرب، يتقاتلون فيما بينهم، من أجل مباراة كرة قدم! وبعضهم يقف منا موقف المُعلِّم ويقول: أنصح الفريقين بالحكمة وضبط النفس!!

والواقع أن المنتصر الحقيقي في هذه المعركة المفتعلة إنما هو إسرائيل، التي تتفرج علينا، وتقول في سرها: ما أجملها من معركة يأكل العرب فيها بعضهم بعضا.

وقد قلت في ندائي الذي وجَّهته للشعبين: يا إخوتي في مصر وفي الجزائر: إنها ليست معركة بدر، ولا معركة حطّين، ولا معركة عين جالوت. إنها مباراة توصل إلى بداية السُّلَّم في كأس العالم، وهيهات أن نصل إلى نهايته، أو إلى القرب من نهايته، كما شاهدنا خلال الدورات والسنين الطويلة. وهب أنّنا وصلنا إلى كأس العالم، وحصلنا عليه فعلا، هل سيُدخلنا ذلك الجنَّة؟ ويُزحزحنا عن النَّار؟

وهل الحصول على كأس العالم، يحقّق أهداف البلد الغالب، ويحل مشكلاته الاقتصادية والاجتماعية؟ هل يشغِّل العاطلين، أو يعلم الأميين، أو يطعم الجائعين، أو يخرجنا من دائرة التخلف والعالم الثالث إلى العالم المتقدم؟! لا والله.

إن الخطر في هذه القضايا أن يُترك الميدان لدعاة التهييج والتأجيج، وأن يتَّبع الهوى لا العقل، وأن يسير الخواص وراء العوام، ويترك أهل الحكمة موقعهم لأناس ليس لهم فقه في الدين، ولا بصيرة في الدنيا، وقد قال الشاعر العربي قديما:

لا يصلح الناس فوضى لا سُراة لهم  **  ولا سُراة إذا جهَّالهم سادوا

والبيت لا يُبتنى إلا له عمد  **  ولا عماد إذا لم ترسَ أوتاد

تهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت  **  فإن تولَّت فبالأشرار تنقاد

وإني لأرجو أن يقوم رجال الفكر والإصلاح والتوجيه من العلماء والمثقَّفين الأصلاء بدورهم في رتق الفتق قبل أن يتَّسع الخرق على الراقع، ويسعَوا بجد لإصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، إنها لا تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين. كما قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.

ولقد سرَّني ما سمعتُ عن تحرُّك من بعض الرجال الفضلاء من البلدين، من الذين لا يسعون لإرضاء الجماهير وإن أسخطوا الله، ولا يزايدون في سوق الاتجار السياسي، فإن هذه المزايدات ضحيَّتها الشعبان، اللذان يباعان بثمن بخس ليكسب البعض من وراء هذه التجارة السوداء.

اللهم ألهم أمَّتنا رشدها، واجمع كلمتها على الهدى، وقلوبها على المحبَّة، ولا تجعل في قلوبها غلاًّ للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم.

يوسف القرضاوي