د. يوسف القرضاوي

وهو (لمؤلف) يؤيد دائما روح التيسير والمرونة في الدعوة إلى الإسلام، وخصوصا في القضايا التي تتعلق بالأسرة والمجتمع، وهو لا يتكلف في البحث عن التيسير في شريعة الله، بل يجده حيثما اتجه، وأينما سار، ولا عجب فالتيسير هو روح الشريعة ولحمتها وسداها.

لقد نشأ في حركة الإخوان المسلمين منذ شبابه المبكر، واقترب من مؤسسها ومرشدها الأول، الإمام الشهيد حسن البنا، واندمج في نظامها الخاص، الذي كان يضم صفوة الشباب في تلك الأيام، ودخل السجن متهما في إحدى قضايا الإخوان. وقد استفاد من هذا الاتصال وأفاد، وكان للدعوة تأثيرها البالغ على تفكيره وميوله وسلوكه. ولكنه. ولكنه بعد أن نضج ورشد، كان له على سير العمل ملاحظات بصيرة ناقدة، لم يجبن ولم يبخل بذكرها وإبدائها، ولا سيما على (النظام الخاص) وما تطور إليه.

وقد رأينا له منذ العدد الأول من مجلة (المسلم المعاصر) الذي كان له اليد الطولى في إخراجها إلى حيز الوجود –بل كان هو صاحب فكرتها والدعي إليها- حديثه المسهب الجريء عن (أزمة العقل المسلم المعاصر) الذي كشف للكثيرين عن قدرته على الغوص والتحليل والنقد، وعمق الفهم للدين وللحياة معا، والشجاعة في مواجهة ما يعتقد أنه خطأ، وأن اشتهر بين الناس خلافه.

كما جاء في العدد الذي يليه بحث له أيضا عن (أزمة الخلق المسلم المعاصر).

وكلا البحثين يشهد له أنه صاحب عقل بصير، وفكر متألق، وحس نقدي مرهف، فهو يعيش عصره، ويعرف ما فيه، ويتعامل معه، بقلب المؤمن، وفكر الباحث، ورغبة المصلح، بعيدا عن الغوغائية والتقليد الأعمى.

وقد يخالفه من يقرؤه في بعد ما كتبه في بحثه هذا أو ذاك –وقد خالفته بالفعل، وسجلت ذلك في العدد التالي من المجلة- ولكنك لا تملك إلا أن تقدره وتحترم تفكيره وإخلاصه. والكاتب يسير في اتجاه التيسير ورفع الحرج والإعنات عن المرأة المسلمة، وسبب ذلك أن الاتجاه الذي ساد العالم الإسلامي قرونا هو اتجاه التزمت والتشديد على المرأة وسوء الظن بها.

وعلة ذلك الموقف المتشدد تتجلى في أمرين:

الأول: جهل الأكثرين بالنصوص الشرعية التي تتضمن التيسير، وتقاوم التعسير، وبخاصة نصوص السنة ا لنبوية الصحيحة، فإن نصوص القرآن معلومة للجميع. أما السنة فقد ظهرت في الكتب، ونسيت في الدواوين الكثيرة من الجوامع والمسانيد والمعاجم والأجزاء وغيرها، واشتغل الناس بكتب المذاهب وفقهها عن الكشف عن السنة وكنوزها.

وقد ترتب على هذا أن ترى كثيرا من المسلمين يغفلون عن أحاديث صحيحة، ويستدلون بأحاديث ضعيفة، أو موضوعة.

الثاني: سوء فهمهم للنصوص التي عرفوها، بوضعها في غير موضعها، أو قسرها على استنباط أحكام منها، لا تدل عليها إلا باعتساف، أو تبرها عن سبب ورودها أو عن سبقها وسياقها. أو عزلها عن باقي أحكام الإسلام، ومقاصده الكلية، فلا يوفق بين بعضها وبعض.

ولهذا أمثلة كثيرة، لا يتسع المجال لذكرها.

وقد وفق الكاتب البصير إلى رؤية هاتين العلتين بوضوح، فجعل أكبر همه كذلك في أمرين:

أولهما: البحث عن النصوص المحكمة، وخاصة من الحديث الشريف، وحشد هذه النصوص المعبرة عن روح الإسلام، وموقفها من المرأة.

وقد كان اتجاهه في أول الأمر أن يقتصر على الصحيحين، ثم وجد في باقي كتب السنن كنوزا لا يجوز إهمالها، فظل يقرأ طويلا ويتأمل كثيرا، حتى وضع أمام أعيننا هذه الجواهر النبوية، من القول والفعل، والتقرير.

وهو يسوق هذه النصوص في كثير من الأحيان، دون أن يعلق عليها، فهي ناطقة بما يريد أن يقوله للناس، شارحة نفسها بنفسها.

ولكنه إذا علق على النصوص مستنبطا أو شارحا أو جامعا، أو مرجحا أو مطبقا لها على واقع الحياة، وجدته طويل الباع، في الإبانة عما يريد.

وثانيهما: رد الأفهام الخاطئة التي حرفت النصوص عن موضعها بقصد حينا. وبغير قصد أحيانا. ومحاولة استنباط الحكم الصحيح منها.

ومثال ذلك نظره في حديث وصف النساء بأنهم "ناقصات عقل ودين"[1].

وحسبي أن أذكر هنا نموذجا علق به على الفصل الحافل الحاشد الذي جمع فيه رصيدا كبيرا من النصوص والأدلة الناصعة على مشاركة المرأة للرجل في الحياة الاجتماعية.

ويختم هذا الفصل بقوله:

(وإذ ثبت أن مشاركة المرأة ولقاءها الرجال سنة من سنن نبينا صلى الله عليه وسلم فهل هذه السنة ظنية أم قطعية؟ ونعتقد أن الروايات الواردة بمجموعها – وهو حوالي ثلاثمائة نص تشمل أفعالا وأقوالا وتقريرات لرسول الله صلى الله عليه وسلم –  تفيد التواتر. وعلى ذلك فهي قطعية الورود. ثم هي قطعية الدلالة أيضا؛ لأن معظم النصوص صريحة للغاية. وخلاصة الأمر نقول إن الله قد شرع لنا النهج القويم. وهو من ناحية يليق بالرجال والنساء الأطهار الشرفاء إذا روعيت آداب المشاركة واللقاء. وهو من ناحية ثانية نهج الحياة النشطة الخيرة إذا حرص الأطهار الشرفاء على جني ثمار المشاركة واللقاء. وهكذا شرع الله أبدا يقصد دوما تحقيق الشرف والطهر ولكنه –دوما أيضا- يريد مع الطهر اليسر ومع الشرف السعي الجاد المثمر.

بعد هذا العرض لدواعي مشاركة المرأة المسلمة في الحياة الاجتماعية ولقائها الرجال والتي حاولنا استخلاصها من نصوص الكتاب والسنة يحق لنا أن نتساءل: هل هذه المشاركة سنة أم بدعة؟ وللجواب على هذا التساؤل نقول: إن النصوص التي وردت في هذا الفصل والتي سيرد عشر أمثالها في الفصول التالية تقطع أن مشاركة المرأة ولقاءها الرجل سنة من سننه صلى الله عليه وسلم – والسنة هنا بمعنى الطريقة المقابلة للبدعة - وليس مجرد جائزة فحسب... وذلك نتيجة اطراد المشاركة واللقاء في حياته صلى الله عليه وسلم وحياة أصحابه. فهو النهج الذي اختاره وطبقه عمليا في جميع المجالات العامة حتى كان سمتا عاما للمجتمع المسلم في عهده صلى الله عليه وسلم. وقبل أن تكون هذا المشاركة سنة من سنن رسولنا كانت سنة من سنن أنبياء الله عليهم جميعا الصلاة والسلام كما وضح ذلك في الفصل الأول.

وإذا كان بعض الأسلاف قد اختاروا اعتزال النساء الرجال وهو أمر جائز وسنوا بذلك سنة جديدة. ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلينا من فعل غيره وسنته صلى الله عليه وسلم أحب إلينا من سنة غيره، خاصة وأن الإقتداء به في أفعاله صلى الله عليه وسلم محمودة ما لم يقم دليل على الخصوصية. وهو القائل: "خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم "). أ.هـ.

ومن هذا الحديث المستمد من السنة المشرفة، نراه يتمم ذلك بحديث جزل مستمد من الواقع المعاصر، يكشف فيه عن ظوهر اجتماعية جديدة تفرض لقاء المرأة المسلمة الرجل فيقول:

(إن الله تعالى أرسل رسله وأنزل كتبه بالهدى المبين، ليطبقه الناس على واقعهم فيستقيم هذا الواقع ويرشد، ويحقق أكبر قدر من الخير. لكن لا سبيل للاستقامة على أمر الله إلا بمعرفة صحيحة للهدى الإلهي من ناحية، وبمعرفة صحيحة للواقع من ناحية. ولعل فيما أوردناه من نصوص يعين على تصحيح معرفتنا بالهدى. ويبقى التصور الصحيح للواقع، وهو يحتاج إلى دراسات ميدانية وإحصاءات لا على مجرد تصورات وربما أوهام شخصية. ونحن نكتفي هنا بعرض بعض الظواهر الاجتماعية المعاصرة لارتباطها الوثيق بالواقع ولتأثيرها الكبير عليه، أما الدراسات والإحصاءات فتطلب من مظانها.

وقد كان علماء السلف وكان الآباء أكثر منا وعيا بالظواهر الاجتماعية السائدة في عصرهم ففرقوا في أحكامهم بين نساء المدينة وبين نساء القرية. ألزموا نساء المدينة بستر الوجه وبالقرار في البيوت حيث الحاجة للخروج من البيت محدودة. ثم إن الجواري والعبيد يقضون كثيرا من الحاجات. أما نساء القرية فلم يلزموهن لا بستر الوجه ولا بالقرار في البيت. فكانت الفلاحة تخرج يوميا لتعاون الزوج أو لترعى الماشية أو لقضاء حاجات البيت من السوق أو غيره. وتخالط الرجال في كل هذه المجالات دون حرج. الخلاصة وقع التيسير لممارسة الحياة كما تقتضيها ظروف القرية.

وفي عصرنا هذا ينبغي لنا أن نعي جيدا ظروف نساء المدينة، ولننظر كم كثُرت أوجه الشبه بين المدينة اليوم والقرية بالأمس بالنسبة للمرأة العاملة خاصة ثم بالنسبة لربة البيت التي تقوم – نيابة عن زوجها المرهق بعمله - بقضاء بعض المصالح خارج البيت أهم المظاهر الاجتماعية الجديدة:

1-   حاجة المجتمع وحاجة المرأة في عصرنا دفعت كثيرا من النساء إلى المشاركة في العمل المهني وهذا يؤدي إلى خروج المرأة ولقائها الرجل (انظر الظواهر الاجتماعية المتعلقة بعمل المرأة المهني).

2-   ساعد تعقد المجتمع واتساعه ونظام الشقق الصغيرة في عمارات ضخمة وصعوبة المواصلات ساعد كل ذلك على إفراز عدة ظواهر وهي:

- صغر الأسرة.

- انعزال الجيران عن بعضهم.

- تباعد الأقارب والأرحام.

- محدودية الصداقة الأسرة (أي بين أسرة وأسرة وليس بين فرد وفرد).

- الهجرة لسنوات طويلة وقطع العلائق مع كثير من الأقارب.

- انتشار التعليم وتعدد الاتجاهات الفكرية والسياسية لدى أفراد المجتمع رجالا ونساء.

كل هذه الظواهر أدت إلى تضييق مجال الزواج على الطريقة القديمة حيث كانت تتم الخطبة عن طريق الأقارب أو الجيران أو الأصدقاء وأصبح لا بد من وسيلة أخرى تيسر التعارف الممهد للخطبة فالزواج. وقد كان التعارف قديما أساسه تعارف الأسر والاختيار يتم –ابتداء- بناء على الرغبة في مصاهرة أسرة بذاته. والميزة الأولى لكل من الشاب والفتاة هي انتسابها إلى هذه الأسرة أو تلك. أما اليوم فمن الطبيعي –بعد ضعف العلاقات الأسرية التي كانت تيسر لأسرة الشاب البحث عن زوجة مناسبة- أن تجد طريقة أخرى- كرافد مساند للطريقة القديمة - تعين الشاب على اختيار شريكة حياته بنفسه. وهذا سبيله مجالات اللقاء الجادة بين الرجال والنساء سواء للدراسة أو العمل أو النشاط الاجتماعي والسياسي حيث تتوافر فرصة التعارف). أ. هـ

كما أنه حرص على أن يناقش بعض القضايا الأصولية الهامة التي لها علاقة بالموضوع، والتي اتكأ عليها كثيرون من العلماء في التضييق على المرأة، على خلاف ما أثبتته السنة المطردة مثل قضية (سد الذرائع). 

وفي الختام: أستطيع أن أذكر: لأن هذا الكتاب – بما احتوى من نصوص ثابته، ونقول صادقة، وشواهد ناطقة، وأفهام نيرة، وتعليقات ناضجة، قد أضاف إلى المكتبة الإسلامية، إضافة لها وزنها وأصالتها، وقد يخالف في بعض جزئيات الكتاب بعض الناس الذي تؤثر عليهم مواريثهم وبيئاتهم بحكم سنة الله في البشر، ولكن روح الكتاب وجوهره في بيان موقف الإسلام من المرأة، من خلال النصوص المحكمات، ومن خلال الهدي العام في عصر النبوة، لا يمكن أحد أن يماري فيه.

أسأل الله أن ينفع بهذا الكتاب كل من قرأه، وأن يجزي مؤلفه خيرا عما بذل من جهد موصول طوال سنوات عديدة، كان عمله فيه شغله الشاغل. وهدانا جميعا سواء السبيل.

الدوحة: 1990م

الفقير إلى عفو ربه

يوسف القرضاوي


[1]- رواه البخاري في الحيض (304)، عن أبي سعيد الخدري.