بسام ناصر
الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي عالم شرعي ملأ الدنيا، وشغل الناس، رافع لواء منهجية الوسطية في فهم الإسلام والدعوة إليه، قضى معظم حياته في ميادين العلم والدعوة والإرشاد الديني، والتوجيه الإسلامي، وهو يعيش بحق هموم أمته، ويتفاعل مع قضاياها، ويتابع شؤونها متابعة حثيثة، له قبول عريض في أوساط إسلامية واسعة، وكتاباته ومؤلفاته شكلت مرجعية علمية لمحبيه ومريديه، وكما أنه يحظى بالقبول الواسع، والمحبة الغامرة، فإن له مخالفين كثر، ومعارضين أشداء.
الشيخ القرضاوي له فتاوى وآراء اجتهادية، خالف فيها أقوال العلماء السابقين، ورأى أن ثمة ما يدعوه لمخالفتهم في فتاويهم تلك، عازياً أسباب مخالفته لهم إلى تغير الظروف والأوضاع المعاصرة لما كان سائداً في العصور السابقة، كما في فتواه جواز تهنئة النصارى وغيرهم بأعيادهم، مشيراً إلى أن مراعاة تغير الأوضاع العالمية اجتماعياً وسياسياً هو الذي جعله يخالف شيخ الإسلام ابن تيمية في تحريمه تهنئة النصارى وغيرهم بأعيادهم، وإجازته لذلك إن كانوا مسالمين للمسلمين، وخصوصاً من كان بينه وبين المسلم صلة خاصة، كالأقارب والجيران في المسكن، والزملاء في الدراسة، والرفقاء في العمل ونحوها، وهو من البر الذي لم ينهنا الله عنه، بل يحبه كما يحب الإقساط إليه "إن الله يحب المقسطين" (الممتحنة: 8).
فتواه السابقة وفتاوى أخرى كثيرة، جلبت له معارضة شديدة، وحرضت مخالفيه للرد عليه، فكان منهم الموقّر له، المنزله مكانته اللائقة به، مع مخالفته ومعارضته، وكان منهم الشديد في خصومته، القاسي في رده، المتهجم عليه والنائل من علمه ومكانته. والشيخ في كل ذلك عالم مجتهد، يدلي بدلوه فيما أدّاه إليه اجتهاده، وهو صادق في نيته، صلب في دينه وعقيدته، لا يقول ما قاله إلا بما يمليه عليه اجتهاده العلمي، ويفرضه عليه واجب العلم، وأمانة القيام بمهمات ميراث النبوة، التي ألزمت العلماء بقول ما يرونه حقاً وصواباً، فالشيخ عالم ملة، وعالم أمة، يقول ما يراه حقاً وصواباً، ويتبنى من المواقف ما يكون فيه مصلحة الدين والأمة، متحملاً في كل ذلك مسؤولية فتاويه وآرائه ومواقفه.
اعتاد الشيخ في برنامجه الشهير "الشريعة والحياة" أن يبدأ حلقاته بتوجيه رسائل تهتم بشؤون المسلمين، وتعالج قضاياهم، وهذا المنحى في برنامجه واضح وظاهر لكل من يشاهد البرنامج ويتابعه، وغالباً ما تتناول مشاركاته موضوعاً له تعلق كبير، وارتباط وثيق، بقضية من قضايا الأمة، وبشأن من شؤون المسلمين، وهو في كل ذلك لا يبالي بما يثار عليه من ردود واعتراضات، ربما تصل إلى درجة التهجم والطعن من جهات كثيرة ومتعددة.
في هذا المقال؛ نتناول قضيتين ساخنتين أثارهما الشيخ القرضاوي، فجلبتا له ردود فعل قاسية وشديدة، وبعضها غالى في الرد فكان تهديداً واضحاً وصريحاً، أولاهما: دعوة الشيخ إلى تحريم زيارة المسجد الأقصى لغير الفلسطينيين وهو تحت الاحتلال الصهيوني، والثانية: دعوته للسلطات الإماراتية بإلغاء قرار ترحيل سوريين بسبب قيامهم بالتظاهر ضد النظام السوري أمام قنصلية بلادهم في دبي، الأمر الذي أثار حفيظة قائد شرطة دبي العقيد ضاحي خلفان، فصرح بأنه سيلاحق الشيخ عبر "الانتربول" ويقوم باعتقاله.
في القضية الأولى؛ جاءت دعوة الشيخ صريحة وواضحة بتحريم زيارة المسجد الأقصى لغير الفلسطينيين وهو تحت الاحتلال الصهيوني، وقد أكد الشيخ أن من حق الفلسطينيين وحدهم دخول القدس، أما غيرهم فلا يجوز أن يدخلوها تحت مظلة العلم "الإسرائيلي"، وقال للصحافيين خلال مشاركته في افتتاح مؤتمر نجدة القدس قبل أسابيع، إن تحريم زيارة غير الفلسطينيين للقدس يأتي "كونه يضفي شرعية على كيان غاصب لأراضي المسلمين، ويجبر على التعامل مع سفارة العدو للحصول على تأشيرة منها".
الأمر الذي أثار حفيظة السلطة الفلسطينية وحكومتها، وقد تولى الرد عليه وزير الأوقاف في السلطة محمود الهباش، الذي دعا فيه الشيخ القرضاوي إلى التراجع عن فتواه التي يحرم فيها على غير الفلسطينيين زيارة القدس، معتبراً أن "هذه الفتوى الخاطئة تخالف صريح القرآن الكريم، والسنة النبوية المشرفة، فضلا عن أنها تقدم خدمة مجانية للاحتلال (الإسرائيلي) الذي يريد عزل المدينة المقدسة عن محيطها العربي والإسلامي، ولا يرغب برؤية أي وجود عربي أو إسلامي في القدس، ويضع كل العراقيل والعقبات أمام وصول الفلسطينيين والعرب والمسلمين و"المسيحيين" إلى مقدسات المدينة، ويعمل في الوقت نفسه على تكثيف الوجود اليهودي لتهويد المدية المقدسة والاستيلاء على مقدساتها".
ورأى الهباش أن "زيارة القدس هي فريضة شرعية وضرورة سياسية، وأنها حق مشروع لجميع المسلمين والمسيحيين، وواجب مقدس على المسلمين بنص صحيح السنة النبوية المشرفة".
في مقال له بعنوان: "حول الهجمة على القرضاوي بسبب زيارة القدس"، ناقش المحلل السياسي والكاتب الصحفي، ياسر الزعاترة تلك القضية مشيراً إلى أن هذه المسألة لم يتفرد بها الشيخ القرضاوي، بل أجمعت عليها منظومة العلماء في الأمة، ومعها القوى والنقابات والأحزاب المعنية بالصراع مع العدو الصهيوني، وحين يكون أهم حارس لتلك المقدسات (أكثر بكثير من الهباش وسلطته) أعني الشيخ رائد صلاح مع هذا الرأي، فهذا يكفي لمن يعنيهم الأمر.
لكن تخصيص الشيخ القرضاوي - كما يتابع الزعاترة في مقاله - بالانتقاد والهجوم إنما يعود لمكانته التي حازها بعلمه ومواقفه وليس بأي شيء آخر، والأهم أنه يأتي رداً على مواقف الشيخ السياسية التي لا تروق لمعسكر الهباش ومن يصطفون فيه، أعني مواقفه المتعلقة بقضية فلسطين على وجه الخصوص.
يطرح الأستاذ الزعاترة في معرض رده على كلام وزير الأوقاف الفلسطيني سؤالاً يقول: إذا كان هناك من يؤمن بحثّ العرب والمسلمين على زيارة القدس غير السلطة ورموزها، فليتفضل ويخبرنا كيف ستساهم تلك الزيارات في تحرير القدس وحمايتها، ويجيبنا تبعاً لذلك عما إن كان سماح العدو بتلك الزيارات نوعاً من الغفلة والغباء، وهو الذي تتميز أجهزته بحساباتها الدقيقة، فيما نعلم أنه ما من قضية تحظى بالإجماع في الوسط الصهيوني مثل قضية القدس والهيكل؟!
القضية الثانية: هي دعوة الشيخ القرضاوي للسلطات الإماراتية لإلغاء قرار ترحيل سوريين شاركوا في مظاهرة خارج مقر قنصلية بلادهم في دبي احتجاجاً على ما يقوم به النظام ضد الشعب السوري، فكان أن قابل قائد شرطة دبي ضاحي خلفان دعوة الشيخ القرضاوي بالتهديد الصريح بأنه سيلاحق الشيخ عن طريق "الانتربول"، ثم عاد قائد شرطة دبي ليعلن بأن ملف القرضاوي قد انتهى، وأنه سيلاحق الداعية الكويتي الدكتور طارق سويدان بسبب موقفه من القضية، ومطالبته للسلطات الإماراتية بإلغاء قرارها.
كان موقف الشيخ الدكتور القرضاوي موقفاً عادياً من عالم مشغول بهموم أمته، ومنخرط في قضايا المسلمين أينما كانوا، ووجه دعوته للسلطات الإماراتية من موقعه كعالم له حضوره وثقله بين المسلمين في العالم الإسلامي، لكن رد قائد شرطة دبي كان قاسياً وشديداً، فمطالبة الدكتور القرضاوي لا تقابل بمثل ما قوبلت به، بل غاية ما في الأمر أن تلجأ دولة الإمارات إلى منع قيام مثل تلك النشاطات عن طريق إبلاغ المعنيين من غير الإماراتيين المقيمين فيها، بأن مثل تلك النشاطات لا يسمح بها في الإمارات، وينتهي الأمر عند هذا الحد، دون اللجوء إلى قرار الترحيل، وخصوصاً في حق الإخوة السوريين الذين لا يستطيعون بطبيعة الحال الرجوع إلى بلدهم سوريا في ظل الظروف القائمة، فقرار ترحيلهم يمثل تشريداً لهم في البلاد.
من خلال بيان رأي الشيخ القرضاوي وموقفه في القضيتين السالف ذكرهما، يتبين أنه يعيش هموم أمته بصرف النظر عما يترتب على ذلك الموقف من إثارة بعض الأنظمة عليه، فهو برفيع مقامه، وعلو مكانته، لا يسعه إلا أن يقف تلك المواقف، التي يكون فيها نصيراً للمظلومين من الأمة، وصوتاً قوياً يطالب بإقامة العدل، ونصرة الحق، فهكذا هو شأن العلماء الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وإنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأنْبِيَاءِ، وَإنَّ الأنْبِيَاءَ لَمْ يَوَرِّثُوا دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً، وَإنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بحَظٍّ وَافِرٍ" (رواه أبو داود والترمذي وغيرهما).
............
- عن صحيفة السبيل الأردنية، 16/3/2012م.