د. يوسف القرضاوي

منذ سنوات سُعدت بكتابة مقدمة لديوان (الشعاع) للشاعر العراقي المسلم الأستاذ: وليد الأعظمي، واليوم يسعدني أن أكتب مقدمة ديوان نداء الحق للشاعر الفلسطيني المسلم الأستاذ: أحمد محمد الصدّيق.

وكأن الإخوة – حفظهم الله- يرون بهذه المقدمات أن يشدوني أو يردوني إلى عهد الشعر بعد أن هجرتُه أو هجرني، وقلَّما يلتقي عقل العالم ووجدان الشاعر حتى يغلب أحدهما الآخر.

أما شاعرنا فقد عرفتُه منذ أكثر من خمسة عشر عاما، حين أقبل يريد الالتحاق بالمعهد الديني الثانوي في قطر، ليصل أسبابه بالعلم بعد أن قطعت حين آثر الرحيل من بلدته ومسقط رأسه (شفا عمرو) في الأرض المحتلة، متجشما وعثاء السفر، ووعورة الطريق، ومخاطر الحدود، بين دولة الكيان الصهيوني ولبنان، والغربة عن الوطن والأهل، بنفس راضية، وثغر باسم، فرارا من ذل الرضوخ لسلطان الصهاينة.

عرفته، وعرفت قصته، فوجدت فيه شابا متألق الفكر، متوثب الروح، متوقد العزم، صادق الرغبة في طلب العلم، فلم آل جهدا في معاونته، حتى التحق بالمعهد، وبرز فيه، وأنهى به دراسته الثانوية، بتفوق ظاهر، ليكمل دراسته العالية بجامعة أم درمان الإسلامية بالسودان، ثم يعود إلى قطر مرة أخرى، معلما ومربيا.

وفي تلك المرحلة، استمعتُ إلى أحمد الصديق شاعرا، كما قرأتُ نماذج من شعره، فوجدتُّ فيه موهبة تشق طريقها بثبات، وتثبت وجودها بقوة، فهو يتمتع بطبع سخي، وشاعرية فيَّاضة، وقدرة على التحليق الروحي، والإبداع الفني، مستخدما أجمل الصور الشعرية في إطار من العبارات والألفاظ، ليست من الحوشي الغريب، ولا السوقي المبتذل، أحسن سبكها، وجوَّد نظمها، كأنها حبَّات عقد لؤلؤي، نظمها جوهري خبير، أو قلادة ذهبيَّة، أجاد صنعها صائغ قدير.

وشعر (الصديق) يدور حول محورين أساسيين: (دينه، ووطنه)، ودينه هو الإسلام، ووطنه هو فلسطين، فحولهما يدندن، ولهما أو عليهما يغني أو يبكي.

فهو شادي الأفراح و (ندبة) الأحزان، ولكنه استطاع أن يحول الحزن من سكب الدموع، وإطلاق العويل، إلى ثورة على الباطل، ودعوة إلى الحق، يجتمع فيها الشتات، ويحيا الموات، وتعلوا راية الله، يحملها رجال مؤمنون، يعيدون من جديد "صلاح الدين" ويحيون ذكرى (حطين).

إن إسلاميات الصديق في ديوانه تستغرق معظم قصائده، فقد آمن بالإسلام، عقيدة وشريعة، عبادة وقيادة، دينا ودولة، حضارة وأمة، مصحفا وسيفا، أخلاقا وجهادا، وهذا الإيمان الواعي الشامل، نجد صورته ما ثلة في شعره، من قصائده تتغلغل في أعماق النفس، أو تسبح في آفاق الوجود، على أخرى تبين محاسن الشريعة أو تذود عنها، إلى ثالثة تتحدث عن قضايا الإسلام من المحيط إلى المحيط، إلى رابعة تحيي ذكريات الإسلام وبطولاته وأمجاده على امتداد أربعة عشر قرنا.

استمع معي إليه يقول في إلاهياته مناجيا ربه من قصيدة (ابتهال):

بقربك تزدهي مني الرغاب      ويعذب في محبتك العذاب

وقلبي جنة ما دمت فيـــه         وإلا فهو محــروم يُباب

رضاك هو المراد فلا تدعني     بعيدا دون أشواقي الحجاب

ومن قصيدة (العودة إلى الله) يتحدث عن غفلة أمسه، ويقظة يومه، ورجعته إلى ربه:

ويح نفسي إذا تقطـعت الأسبـ       ــاب دوني وخيبت آمــالي

أين يرسوا الشراع إن عدت يوما    شاحب الوجه من بحار الضـلال

وإلى أين-حين أغسل بالدمــع       الخطايا- ترى أشد رحـــالي

يا إلهي إليـــك وجهت وجهي       خالص القلب طاهر الأذيــال

كنت يارب عن حماك بعيــدا      غافلا تائها بعيد المنـــــال

شاردا عن حظيرة القدس مفتـو      نا كأني في سُكرة وخبـــال

وأنا اليوم قد رجعت وقــــد      وثقت في عروة السماء حبــالي

ويصور لنا ما جاء به الحديث النبوي من (دعوة المظلوم):

تفلَّتَتْ من شرور الأرض وانطلقت    كالسهم يحـــدو بها صدق وإيمان

حتى إذا غرقت في النور وانقشعت    في حضرة القدس آلام وأحـــزان

ألقت إلى حَكمٍ عدل ظلامتـــها       فقام للحق عند الله ميــــــزان

لأستجيبنَّ للمظلوم دعــــوته        ولو تطاول أزمـــان وأزمــان

فلا تكونن مكتـوف اليدين عـلى    عجز وعندك من ذي العرش سلطان

وهو لا يكتفي بالشعر العمودي المعتاد في إسلامياته: بل رأيناه يقفز بجدارة ومهارة إلى ما يسمى (الشعر الحديث) فيستخدمه في مجال ربما ظن الكثيرون أنه أبعد ما يكون عن طبيعته، وذلك هو الشعر (الإلهي) أو الشعر الروحي. لنستمع معا في قصيدة (ركعتان):

ركعتان

في سكون الليل عني تجلوان

ظلمة اليأس وأكدار الزمان

وتشيعان الرضا في أفق نفسي

فإذا النجوى تعالت كالشذا تملأ حسي

وأصاخ الليل في محراب أشواقي وأنسي

وتهاوت دمعتان

شهق القلب وألقى العبء في ظل الأمان

وبدت للروح آفاق ابتهالات وتسبيح وقدس

فتعرى كل شيء دون تمويه ولبس

فإذا الدنيا متاع ذهب يلهي وينسي

وإذا أسمى المعاني من مسرات وأنس

جمعتها في سكون الليل..في ظل الأمان

ركعتان!

وينتهز شاعرنا كل فرصة ليستفز أمته الإسلامية، لتصل يومها بأمسها، فهو يناديها:

عودي إلى الإسلام عودي      وتنسمي عرش الوجود

عودي إلى النبع الأصـيل   إلى نبوغــك من جديد

عودي إلى الأمجــاد بعد    متاهة الفــكر الشرود

بعد ارتحال لاهــــث       خلف السراب بلا ورود

لك صبغة الرحمن أشرف    ما اكتسيـت من البرود

وشريعة غراء واضحــ    ـة المعــالم والحدود

هلا اهتديــــت بهديها      إن شئت حقا أو تسودي

ومن منظوره الإسلامي يطل على المجتمع مصورا أو ناقدا أو داعية. استمع إليه من قصيدته عن (الصحافة):

وتنبري صحافة لسانها أجيــــر

تؤله المسخ القميء.. تحرق البخـور

فتزكم الأنوف.. تؤذي الله والضمير

روائع النفاق من أرجاسها تفــور

تنزه الحروف البريء عن مواطن الفجور

هم الذين أرغموه أن يُمَوِّه الأمــور

وإن ردد النُّباح حيث تضحك القـبور

صحافة موبوءة..مسمومة الجـــذور

محرومة الأقلام من ترفع النســـور

صحافة تبصق طعم الموت في السـطور

نرفضها..نرفضها..حليــفة الشـرور

نرفضها كافرة..مذمــومة المصيـر

أما المحور الثاني لشعر الصديق فهو فلسطين: فلسطين الوطن، والأهل.

فلسطين النكبة، والمأساة، والتشرد، والخيام.. فلسطين الانتفاضات والثورات والجهاد..فلسطين المؤامرات والمتاجرات والمزايدات.

أجل إنه ابن النكبة..عايشها، وعاينها، صبيا ويافعا، فتركت آثارها في عقله وقلبه: مرارة وأسى، وبغضا مقدسا، وإصرارا على الثأر والكفاح.

وله في أحداث النكبة وذكرياته شعر مبكر بلغ حد الروعة، لما اجتمع فيه من الصدق والجمال، بعضه من الشعر العمودي، وبعضه من الشعر الحديث.

اقرأ معي قصيدته (مازلت أذكر يا أبي) التي يخاطب فيها أباه عن ذكريات المأساة.

ما زلت يا أبي والذكريات بلا حدود

يوم ارتحلنا عن مغانينا وخلقنا الديار

طللا.. تخيم فيه أشباح الدمار..

ما زلت أذكر يوم أن هجم التتار

وصرخت من أعماق صوتي في الظلام

وابلدتي!!

هجموا علينا يا أبي مثل الجراد بلا عدد

بين الكروم.. على البوم ينعق من بعيد

في حائط خرب عتيق..

والريح تعول.. والنساء مولولات في الطريق

ودي قنبلة..وأشلاء تناثر في العراء

ويضج صوت شارد النبرات..يخنقه البكاء:

ويلاه!..مات أخي تحطم بيتنا..حرق الأثاث

وتطل أحداق النجوم بلا اكتراث..

وتفر أسراب الحمام عن السطوح.

وروائح البارود في الأجواء خانقة تفوح!

ويخر جندي على الأنقاض.. والهفي عليه!!

غدرت قذيفته..فعادت عندما انطلقت إليه!!

ويمضي على هذا المستوى من الصدق والروعة في التصوير والتعبير إلى نهاية القصيدة.

ومن عجب أن هذه القصيدة أنشأها في فجر شبابه سنة1959م، مما يدل على أصالة مبكرة.

وعلى منوال هذه القصيدة نجد أمثالها نظمها سنة1387هـ، عن ليل النازحين في مخيمات الغربة والشتاء:

الليل أوغل في الخيام السود يزرعها همـوم

والريح تجأر كالسياط تسوق أسراب الغيوم

سوداء في لون الردى ترغي فتنطفئ النجوم

وهزيم رعد صال في عرض الســــماء

وهطول أمطار.. وأشباح تخيم في العــراء

وعــواء كلب منزو عن الجــــوار

ومواء قط جائــع يعدو ويلتمس الفـرار

وهنا هنا في الخيمة السوداء.. خيمتنا الحزينة

طرحت على الأسمال أكباد ممزقة طعــينة

وتكومت في كل زاوية كالآلام دفــينة

أوصال إخـــوتي الصــــــغار

واللــــيل يعصف. يستبـــــد

ولا يقر له قرار!!

لقد حفرت المأساة في ذاكرته ووجدانه هوة لم يسدها اختلاف الليالي والأيام، ولم تزل جراحها في قلبه تتنزى، ونيرانها تكوي، تزيدها الغربة ألما على ألم، وحرفة على حرفة..لاسيما أن غربته لم تكن عن الدار فحسب، كغيره من أبناء فلسطين، بل عن الدار والأهل جميعا.. عن الأم والأب والإخوة والأخوات..نجد آثار هذه الحرقة واللوعة في قصيدته التي يبكي فيها أمه، وقد بلغه النبأ الفاجع بوفاتها، أن يبكيها بحرارة مضاعفة، كأنما يبكي فيها الأم والوطن معا، وكأنما جمع حزنه على موتها، وحزنها وحرقة قلبها على فراقه، محرومة من قبلة وداع. فهو يبكيها ويعتذر إليه ويسألها العفو والسماح:

ذكراك ينكأ جرحا ليس يندمـل       لولا مصابـــرتي هيهات يحتمل

أماه..هذا مقام العفو إن كلمـت      يدي فؤادا رقيــــقا خطبه جلل

إني جهلت وما جهلي بمغتفــر      إذ رحت في التيه عن مغناى أرتحل

خلفت فيه الصبا والأمنيات وما      يضم من ذكرياتي السـهل والجبـل

ومهجتي منحتنـي كل ما ملكت      لم يثنها تعب يومــا ولا كلـــل

ولكنه هنا لا يقف عند البكاء على الأطلال، والنواح على ما فات، ومن مات، بل يحول الصدور الحزينة إلى مراجل تغلي بالغضب، والأعين الباكية إلى مواقف تقدح بالشرر، يرسل صيحاته مدوية تنادي بالجهاد:

بغير الكفاح المر لن نبلـغ المنى     من غير بذل لن نحرر موطنا

وما يسترد الحق إلا بحقـــه       وكان قبيحا أن نذل ونذعنــا

وفي نكبة 1967م يقول:

من رعشة الجرح بل من وطأة الألم   يجيش بالشعر في ليل والأسى قلمي

ويرسل الصحية النكراء.. محتـدما     يصب بين ضلوعي ثائر النقــم!

عجبت من أمة قد أسلمت يدهـــا     للقيد مذلولة منكوسة العلــــم !

ألا بقية إيمان تحركــــــها؟!     ونفحة من إباء الـــروح والشيم

بيد أن الشاعر لا يستسلم لليأس وإن توالت النكبات والنكسات.. فهو يطل بخياله على الأرض المقدسة وقد دخلها الأبطال المؤمنون ظافرين منتصرين... وعلى شفة أحدهم هذه الأنشودة:

لا شيء يطربني ويشجي مسمعي      كأزيز رشاشي وصولة مدفعي

من عزمتي أحشو القذيفة.من لظى     روحي أعبئ نارها..من أضلي

أتقحم الأهوال لا أخشى الـردى     إن المخاطر لا تعجل مصرعي

والشاعر الصديق حين يتكلم عن قضية فلسطين في شعره، ويصور مأساة شعبها وتشرد أبنائها..ونسيج الأمل الذي يستمده من إيمانه بحتمية العودة الظافرة، والتحرير المرتقب..حين يتحدث عن ذلك إنما يتحرك من منطلق إسلامي، حيث يعتقد اعتقادا جازما بأن قضية فلسطين هي إحدى قضايا الإسلام الكبرى في هذا العصر..التي تشكل تحديا سافرا بين الإسلام والقوى المعادية جميعها على اختلاف نزعاتها وهوياتها..فالكفر ملة واحدة..والإسلام حرب عليها جميعا، كما أنها هي أيضا لا تهادن الإسلام ولا تسالمه، فهي حرب عليه كذلك، وهذا أمر طبيعي؛ فإن المعركة بين الحق والباطل دائمة أبدا، لا تنتهي إلا بانتهاء الحياة على هذا الكوكب الأرضي.

إن شاعرنا يؤكد هذا المعنى بشكل قاطع، ويهيب بالمسلمين كافة إلى ضرورة العمل الجاد، والنهوض بواجب الجهاد.

ففي قصيدته (يا مسلمون) التي نظمها إثر نكبة الخامس من حزيران عام 1967م يحفزهم ويستشيرهم بقوله:

يا مسلمون. ومن سواكم للحـمى      إن كشرت عن نابـها الأخطار

يدعوكم الوطن الذبيح ومسـجد    أسرى إله ساحاته المخـــتار

أتقحم الأهوال لا أخشى الـردى     إن المخاطر لا تعجل مصرعي

يجتر في القيد العذاب مــرددا     شكواه..أين الأمة الأخـــيار

أين الذين هم الرجال إذا دعـوا     هبوا وإن دوى النفير أغـاروا

وهو لا يشك لحظة أن تحرير فلسطين لن يأتي إلا على أيدي المسلمين الصادقين الذين يرفعون شعار الإسلام والعبودية لله وحده.. وفي هذا يقول مناجيا بلاده:

إليك سننهض يوما قريبــا      وتزحف بالحق منا الحشــود

هم المؤمنون..هم الصادقون     هم الصفوة الراكعون السجـود

وهم قدر الله يوم النــزال      إذا وقعوا بالدماء العهـــود

ونظر إلى تلك المعركة المقبلة فيرى فيها المسلمين وقد توحدت صفوفهم، واشتدت عزائمهم، وتمثلت فيهم صولة الحق على الباطل، واستعلت بهم راية الإسلام، وأقيمت الموازين القسط مع الباغين والمعتدين. فهي وثبة مباركة يستشفها من وراء الغيب:

يشتد فيها بنو الإسلام أيديهم    يحيون بدرا وجالوتا وحطينا

ويبلغ إيمانه بهذا المستقبل درجة اليقين الذي لا يداخله ريب فيقول:

لا بد من صولة للحق آتية     نقيم فيها مع الباغي الموازينا

ونسترد ببذل الروح ما سلبت    منا.. وما دنست ظلما أعادينا

وشيء آخر نلحظه بصفة عامة في هذا الديوان هو أن الشاعر لا يفتأ يُذكِّر بقضية فلسطين الإسلامية في شتى المواقف والمناسبات. ولعله يقصد من ذلك أن تسري أنفاس فلسطين، ولهيب جراحها في كل نفس، وأن تخالط كل وجدان، وأن تمتزج مع كل روح، بحيث لا تغفل عنها لحظة من زمان، حتى يظل واجب الجهاد المقدس، وفرضية التحرير أمانة معلقة في عنق كل مسلم.. لا يهدأ له بال ولا يقر له قرار حتى يعود الحق إلى نصابه، والوطن إلى أصحابه..

وكثيرا ما نجده يخاطب صلاح الدين الأيوبي، وكأنه يجعل منه رمزا بطوليا إسلاميا يستلزم بعثه في أمتنا من جديد..وهذا يقتضي التزام الخط الإسلامي الواضح في معركة التحرير..كما التزم صلاح الدين يوم أن طهَّر بيت المقدس من عدوان الصليبيين. يقول:

سلاما صلاح الدين يا خير قـائد      بأمجاده تاج الفتـــوح تزيـنا

سلاما صلاح الدين إنا بحاجة لمثلك    من يعلي على الحق صـــرحنا

ألم تر بيت المقدس اليوم قد غـدا      أسيرا..فجرد دونه السيف والقـنا

ووحد بني الإسلام في الحرب معلنا     جهادك.. واجعل منهج الحق ديدنا

ويقبل أول عيد بعد نكبة 1967م فيقف الشاعر منه موقفا مأساويا..يناجيه بمرارة ويقول:

لله كم عادني هم وتسهيـــد     فأعول الجرح إذ أقبلت ياعيد

أين الربوع التي شعت منائرها    طهرا فدنسها رجس وتهويد؟!

والآمنون صغار الحي –والهفي-    أنحى على عشهم بؤس وتنكيد

ترى بأي خيام سوف يشملـهم     يا عيد منك ومن آلائك الجود

وإذا جلس الشاعر منفردا..اضطربت أشجانه، وثارت كوامن حزنة وذكرياته، فأنشد:

الريـح تزأر خلف نافذتي فيرتجف الجدار

وأنا وأحلامي وحيد حيث شط بي المـزار

وتلوح لي خلف الرمال السمر أشرعة ودار

حلم يعيش به الغريب إذا نأت عنه الديـار

وأحس في أعماق نفسي ألف عاصفة تثار

ويذهب الشاعر إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج فيؤدي المناسك خاشعا لله متعبدا لجلاله.. وتستوقفه هناك حمامات الحرم الشريف فيناجيها ويذكرها بأخت لها في القدس، مهيضة، طاوية الجناح، أصمتها رميات العدو فسقطت على الأرض ولم تجد إلفا يداوي جرحها، ولا أذنا تصيخ لشدوها وعويلها، فلا تملك حينئذ إلا الدمع الثائر تطفئ به نيران لوعتها:

يا أخت طاوية الجناح مهيـضة     في القدس، تمضغ في الأسى أنغاما

اصمت رمايات العدو فـؤادها       ظلما فباتت تعلق الآلامـــــا

ورنت..فلا إلف يداوي جرحها      في القيد أو يرعى هنـاك ذمامـا

وشدت فلا أذن تصيخ وأجهشت      أسفا لتطفئ لوعـة وضـــراما

ويوجه حديثه بعد ذلك إلى وفد الحجيج في قصيدة أخرى فيقول:

وفد الحجيج متى تمضي مسيرتنـا     وحقنا بالكفــاح المــر ننزعه