![]() |
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه. وبعد.
وكأنه لا عمل لي هذه الأيام إلا الرد على ما يختلقه البعض على لساني، أو يجتزئه البعض من كلامي، فينتزعه من سياقه، ويوظفه بحيث يخدم فكرته المغلوطة، أو فهمه الخاطئ، أو نيّته غير الحسنة.
وأنا في الحقيقة عندي ما يشغلني عن الأخذ والرد، والتعقيب والتصحيح، والتوجيه والتوضيح، لما يشاع عنّي على غير الحقيقة، وأكون في هذا الأمر بين خيارين أحلاهما مر؛ إما أن أتجاهل بعض هذه الإشاعات، فتجدها تنتقل من جريدة إلى موقع إلى فضائية، وتنتشر انتشار النار، يعلق عليها المعلقون، وينقدها الناقدون، ويكثر الكلام، والقيل والقال، في أمر لا أساس لصحته، والبعض يعتذر أن الكلام نشر في الإعلام ولم أعقب عليه، أو أرده أو أوجهه.
وإما أن أرد على كل ما يشاع عني، وهو أمر تقصر الأعمار عن بلوغه، وتضيق الأوقات عن تحقيقه، وتعجز الهمة عن الإتيان به، لاسيما مع الانشغال بغيره من الأعمال التي يرجى نفعها.
وأنا والحمد لله لا أتبرأ من كلام قلته، ولا من موقف اتخذته، ولكن المشكلة تكمن في التحريف والتزييف، وسوء الفهم والتأويل، واجتزاء الكلام اجتزاء يخل بمعناه الذي قصدته، أو يحرفه عن موضعه تحريفا بيّنا.
وآخر ما حملته الأخبار عنّي، ما نشرته جريدة الأهرام المصرية، يوم الخميس 14 مايو 2012م، من مقال للواء أركان حرب المتقاعد حسام سويلم، وهو من الخبراء العسكريين المشغولين بالمركز الاستراتيجي تحت عنوان (القرضاوي يكشف خطة الإخوان للسيطرة على الجيش)، ولكن الرجل عمد في كلامه إلى كتاب من كتبي التي ألفتها في أوائل السبعينات من القرن الماضي، وطُبع منها في لبنان وفي مصر عشرات الطبعات: وهي سلسلة أسميتها (حتمية الحل الإسلامي)، ألفت فيها عدة أربعة كتب هي: (الحلول المستوردة وكيف جنَتْ على أمتنا)، و(الحل الإسلامي فريضة وضرورة)، و(بينات الحل الإسلامي)، و(أعداء الحل الإسلامي)، وقد ألفت هذه السلسة ردًّا على ما اجتاح مصر وقت تأليفها من طغيانٍ للفكر الماركسي على الساحة الفكرية، وكان من مصطلحاتهم التي استخدمها ميثاق عبد الناصر، الذي سماه بعضهم (قرآن الثورة)، كما تضمنه فصل فيه سُمي (حتمية الحل الاشتراكي)، وقد استخدمنا في حديثنا مصطلح (الحتمية) حين أصدرنا سلسلتنا (حتمية الحل الإسلامي)، وهو مصطلح وإن كنا لا نؤمن به، إلا أنني استخدمته من باب المشاكلة اللفظية، على نحو ما جاء في القرآن: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142]، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30]. {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67] والله سبحانه لا يوصف بمثل هذه الأوصاف.
وقد استعرضتُ في كتابي (الحل الإسلامي فريضة وضرورة) من ضمن ما استعرضت فصلا تحت عنوان: السبيل إلى تحقيق الحل الإسلامي، وذكرتُ عدة سبل مرفوضة لإقامة الحل الإسلامي، وهي (سبيل القرارات الحكومية)، و(الانقلابات العسكرية)، و(سبيل الوعظ والإرشاد)، و(سبيل الخدمات الاجتماعية).
وقد ذكرت مسوغات كل سبيل من وجهة نظر أصحابها والمتحمسين لها، ثم كررت عليها بالمناقشة والتفنيد والإبطال.
فعمد الرجل إلى الكتاب على طريقة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} [النساء:43]، {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4]، وكما قال أبو نواس:
ما قال ربُّك: ويلٌ للألى سكروا بل قال ربُّك: ويلٌ للمصلين
وقد ذكر الرجل الصفحات التي نقل عنها من كتابي، موهما الدقة والتحري، ولو تابع النقل لوجد ما انتقده من كلام إنما هو حجج الآخرين أردُّ عليها وأفندها.
وقد قلتُ في بداية كلامي: (ويتصور آخرون أن السبيل إلى الحل الإسلامي يتمثل في انقلاب عسكري) صـ164. ثم ذكرت مستند أصحاب هذا الرأي كما يرونه هم، ثم قلت: (ورغم ما لهذا الرأي من بريق، وما لبعض الاعتبارات التي استند إليها من وجاهة. يؤخذ عليه أنه أسقط من اعتباره عدة أمور على جانب كبير من الأهمية) صـ167. وذكرت الاعتبارات التي يغفلها المؤمنون بالانقلابات العسكرية، وهي: أن النجاح في الانقلاب لا يعني النجاح في تطبيق المبادئ التي قام من أجلها، وأن التغيير الجذري لا يمكن أن يأتي بانقلاب عسكري، وأن تغيير المنكر باليد هو واجب كل ذي سلطان في سلطانه، ولا يفتح الباب على مصراعيه لكل أحد دون قيد، وأن هذا الرأي أغفل الأضرار التي تنشأ عن مخالفة القانون، واللجوء إلى السرية، والاستعجال قبل النضوج، وأن استعمال القوة يجب التضييق فيه إلى أبعد حد مستطاع، وأن أية قوة عسكرية شعبية لا يمكن أن تواجه قوة الدولة، وأن الاستبداد لم ولن يكون طريقا للحرية، وأن القوة ينبغي أن تكون لمواجهة أعداء البلاد والدين.
ثم تحدثت عن ظاهرة الانقلابات العسكرية، وأنها لم تنبت في بلادنا نباتا طبيعيا، بل صُدِّرتْ إليها تصديرا، وقد كان من نتيجتها عدم الاستقرار لكثرة الانقلابات، وتغييب الحياة المدنية بتولية المناصب لمن قام بالانقلاب، مع افتقاد الكفاءة، الأمر الذي يفسد الحياة المدنية، ويغضب العناصر المدنية، ويفسد الجيوش نفسها، ويحوله إلى جهاز للشرطة أو البوليس، ولعل هذا أحد أسباب انهزامنا فيما سمي بنكسة 67، كما يتبع ذلك فرض اتجاه معين بقوة السلاح لا بمنطق الحجة، وكذلك لما في العقل العسكري من ميل للعنف، وعدم استماع آراء المدنيين، والسرعة في اتخاذ القرار، والشعور بالحاجة إلى الحماية من داخل الجيش، وما يتبع ذلك من توالي الانقلابات بعد فشل الأول في ترسيخ شرعية مستقلة، يضاف إلى ذلك ما في السلطة من سحر تجعل من استولى عليها بالانقلاب لا يريد أن يفرط فيها. صـ189.
وقد قلت في هذا الكتاب مما يناسب أيامنا هذه: (ما لم يكن هناك وعي عام في الجيش كله يؤمن بضرورة الابتعاد عن السياسة، وتركها لأهلها، والحرص على سيادة الشرعية، فلا يرجى تراجع العسكريين عن موقفهم.
ولا يتم ذلك إلا بوجود فئة مخلصة من الضباط والقادة العسكريين يؤمنون بأن مهمة الجيش هي الدفاع عن حدود الوطن فقط، ويؤثرون مصلحته العامة على مكاسبهم الخاصة، فيحاربون فكرة الانقلابات، ولعبة السياسة، ويعملون لتعميم هذا الوعي بين الضباط، بغية استقرار وطنهم، ودعوته إلى الأوضاع الطبيعية والشرعية.
كما أنه لا بد من توعية الشعب نفسه، بحيث يرفض الانقلابات والحكم العسكري أيًّا كان اتجاهه والقائمون به، ولا بد من تعميق هذا الوعي حتى يغدو حقيقة سياسية توقن بها جماهير الأمة، ولا تفرط فيها، ولا تبغي عنها حولا، ومن الشعب تنتقل إلى العسكريين، ويلتقي الجميع على إقرار الشرعية والولاء لها. وبدون ذلك لا أمل في استقرار) صـ182.
ثم قلت في نهاية الكلام: (إن تحقيق الحل الإسلامي المنشود، الذي يتمثل في بناء مجتمع إسلامي سليم، وقيام حكم إسلامي رشيد، واستئناف حياة إسلامية صحيحة، لا يمكن أن يتم بالقرارات الحكومية الآلية، ولا بالانقلابات العسكرية الثورية، ولا بالوعظ والإرشاد وحده، ولا بالخدمات الاجتماعية الجزئية) صـ193.
إنني أدعو سيادة اللواء إلى استكمال قراءة الكتاب -الذي ألفته من عدة عقود- أو إعادة قراءته، وأنا محاسب أمام الله عن كل كلمة فيه، وفي بقية كتبي، ومسؤول أمام الله عنها. وهدَى اللهُ من يرمون التّهم جزافا، ويلبسون الحق بالباطل، ويقولون ما لم يحيطوا به علما.
والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
يوسف القرضاوي