الحمد لله وكفى, وسلام على رسله الذين اصطفى، وعلى خاتمهم المجتبى, وآله وصحبه مصابيح الدُّجى، ومن بهم اقتدى فاهتدى. (أما بعد)

فإن فعل الخير والرحمة بخلق الله، ومساعدة الضعفاء منهم شعبة أساسية من شعب الإسلام، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:77-78].

ففي هذا النداء الإلهي للجماعة المؤمنة بيان لشعب ثلاث يجب عليها أن تقوم بها:

الأولى: تحدد علاقتها بالله، وهو الركوع والسجود وعبادة الله تعالى.

الثانية: تحدد علاقتها بالمجتمع، وهي فعل الخير بإطلاق.

الثالثة: تحدد علاقتها بقوى الشر والفساد، وهو الجهاد في الله حق جهاده.

ويكفي أن الإسلام جعل أحد أركانه الخمسة الأساسية التي قام عليها بنيانه: إيتاء الزكاة. ولم يجعل للمسلم حق الإنتساب إلى الأمة واستحقاق أخوتها الدينية، إلا بإقامة الفريضتين: الروحية وهي الصلاة، والإجتماعية وهي الزكاة. قال تعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11].

وأقام على هذه الفريضة حراسا ثلاثة: حارس من داخل ضمير المسلم، وهو وازع الإيمان، وحارس من داخل المجتمع، وهو الضمير الإجتماعي للأمة، الآمر بالمعروف، الناهي عن المنكر، وحارس من قِبَل الدولة، وهو سلطان قانون الشرع الذي جعل الزكاة نظاما تشرف عليه الدولة تحصيلا وتوزيعا بواسطة جهاز(العاملين عليها) والتي أمرت أن تأخذها ممن وجبت عليه كرها إن لم يؤدها طوعا ولم يكتف الإسلام بهذه الزكاة المفروضة، بل عن كل مفصل من مفاصل جسمه، بما يستطيع من مال يبذله، أو طعام يطعمه، أو ماء يسقيه أو حاجة يقضيها، أو أذى يميطه عن الطريق، أو إغاثة لهفان، أو هداية حيران، أو تعليم لجاهل، أو تشغيل لعاطل، أو تدريب لعامل، أو إيواء لمشرد، أو كفالة ليتيم، أو تقديم مساعدة وإن صغرت كحمل الإنسان الضعيف ليركب دابته، أو إعانته على حمل متاعه عليها، فإن لم يستطع ذلك فيكفيه منه بسمة حنان، أو كلمة طيبة، فكل هذه صدقة، والأحاديث النبوية في هذا المعنى كثيرة ووفيرة وناصعة.

ولم يطالب الإسلام الأغنياء والموسرين وحدهم بالبذل والعطاء، بل حث المعسرين على بذل ما يحتاجون إليه على سبيل الإيثار، كما قال تعالى في وصف الأنصار{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9].

وقال صلى الله عليه وسلم: " أفضل الصدقة جُهْد المقل"[1].

ومن أجل هذا أوجب صدقة الفطر في العيد على كل من يملك مقدارها، فاضلا عن قوت يوم العيد وليلته، ولم يشترط لها ملك النصاب في قول جمهور فقهاء المسلمين، وجاء في ذلك الحديث النبوي يقول: "أما غنيكم فيزكيه الله تعالى، وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطى"[2].

وأعظم من ذلك دعوة الإسلام إلى الصدقة الجارية، وهي التي يدوم نفعها بعد موت صاحبها، وعلى أساسها قام (الوقف) في الإسلام، حيث يحبس الأصل، فلا يباع ولا يتصرف فيه، وتسبل الثمرة، وقد ضرب المسلمون في عصورهم المختلفة أروع الأمثال، فوقفوا أموالهم لتحقيق أهداف إنسانية شملت جميع نواحي البر، وغطت كل جوانب الخير، ولم تقتصر على الإنسان، حتى شملت الحيوان، وهذا ما تميزت به حضارة الإسلام.

ولا عجب بعد ذلك أن يهتم المسلمون – أفرادا وجماعات – بعمل الخير، وأن تقوم له الجمعيات والمؤسسات في كل مكان، امتثالا لأمر الله تعالى، وابتغاء المثوبة عنده، بعضها له صفة محلية، وبعضه له صفة إقليمية، وبعضه له صفة عالمية.

وقام في السنوات الأخيرة المجلس الأعلى للدعوة والإغاثة برئاسة الإمام الأكبر شيخ الأزهر، ويضم عددًا لا بأس به من الهيئات الكبرى وما دونها، مثل الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية بالكويت، وهيئة الإغاثة الإسلامية العالمية بالمملكة العربية السعودية، ومنظمة الدعوة الإسلامية بالخرطوم، وجمعية زايد الخيرية، وجمعية قطر الخيرية، وغيرها من المؤسسات.

ومع اتساع العمل الخيري وجماعاته، كان لا بد من عمل علمي يتحدث عن هذا الجانب، وفق معطيات الواقع الميداني، ووفق الدراسات العلمية الحديثة، التي قام بها الغربيون، ولم يشارك فيها المسلمون للأسف.

وقد لاحظ أخونا المسلم الغيور الأستاذ: سليمان بن علي العلي، خلو الجانب الإسلامي من بحث متخصص في هذا المجال، فقام بهذه الدراسة العليمة التي تعتبر الأولى من نوعها، مستفيدا من موقعه على رأس هيئة الإغاثة بأمريكا، وممارسته العلمية، وتجاربه الميدانية، ومنتفعا بما قرأه في ذلك مما كتبه الدارسون الأمريكان وغيرهم.

وهو عمل مقدور نشكره للأخ سليمان، وبعد خطوة رائدة في موضوعه، وقد سماه (تنمية الموارد البشرية والمالية في المنظمات الخيرية).

ولا ريب أن هذه الخطوة ستتبعها إن شاء الله خطوات، وهذا العمل سيعقبه أعمال تنميه وتطوره وتحسنه، كما هو شأن الأعمال البشرية، حتى يبلغ الغاية المرجوة.

وإنا لنسأل الله تعالى أن يجزي أخانا الأستاذ سليمان خيرا على عمله وعلى نيته، وأن ينفع به العاملين في هذا الحقل الهام، وأن يوفق الجميع إلى ما يحب ويرضى.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الفقير إلى ربه

يوسف القرضاوي


[1]- رواه أحمد (8702) وقال مخرجوه: إسناده صحيح. وأبو داود في الزكاة (1677)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1112) عن أبي هريرة.

[2] - رواه أحمد (23664)، وقال مخرجوه: إسناده ضعيف. وأبو داود في الزكاة (1619)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (3468) عن عبد الله بن ثعلبة.