![]() |
الحمد لله وكفى, وسلام على رسله الذين اصطفى, وعلى خاتمهم المجتبى, وآله وصحبه مصابيح الدُّجى, ومن بهم اقتدى فاهتدى.
(أما بعد)
فمن فضل الله على المسلمين, ومن تمام نعمته عليهم: ظهور هذه الصحوة الإسلامية المعاصرة, التي عمَّت المشارق والمغارب, والتي نلمس على كل صعيد آثارها, ونرى في كل المجتمعات أنوارها, ونقطف ما بين الحين والحين ثمارها.
ولقد تجلت هذه الصحوة في داخل العالم الإسلامي, وخارج العالم الإسلامي, حيث تعيش التجمعات الإسلامية المختلفة التي يعبر عنها بـ(الأقليات المسلمة). وبعض هذه الأقليات يكوِّن عشرات الملايين، وبعضها يكوِّن الألوف، وكلهم تداركتهم الصحوة, وعمتهم اليقظة، فبدأوا يشعرون بهويتهم, ويحسون بتميزهم وذاتيتهم, ويؤمنون برسالتهم وأمتهم, وأن عليهم دورا يجب أن يؤدوه, لأنفسهم وذراريهم وإخوانهم وللمجتمع الذي يعيشون فيه وأصبحوا جزءا منه لهم حقوقه وعليهم واجباته, وكذلك لأمتهم الكبرى التي ينتمون إليها عقديا, وتتصل بها جذورهم الدينية والروحية.
وكان من هذه الأقليات المسلمة: المسلمون الذين يعيشون في أوربا, التي كانت صلتها بالعالم الإسلامي طوال القرنين الماضين: صلة صدام عسكري وسياسي وفكري وديني انتصر فيه الغرب الاستعماري إلى حد كبير في أول الأمر, وسيطر الغرب على ديار الإسلام, ثم بدأ المسلمون يتحرَّرون من نيران الاستعمار الغربي, ويحصلون على استقلالهم, وبدأ نوع من التعايش بين العالم الغربي والعالم الإسلامي, والهجرة من بلاد المسلمين إلى الغرب وخصوصا من الغرب العربي إلى فرنسا, ومن تركيا إلى ألمانيا, ومن بلاد الكومنولث (الهند الكبرى) إلي بريطانيا, وهِجْرات أخرى عربية وإسلامية إلى بلدان أوربية شتَّى.
وقد انضم هؤلاء إلى المسلمين من أصل أوربي, وكوَّن هؤلاء وأولئك جميعا (الأقلية المسلمة) في أوربة.
وبعد أن أدركتْ الصحوة المسلمين في أوربة, طفقوا يكوِّنون المؤسسات التي تحفظ عليهم هويتهم, وتساعدهم على أن يعيشوا بإسلامهم في وسط المجتمع الكبير من حولهم, غير مفرطين في أصولهم ولا منعزلين عن مجتمعاتهم, وهذه هي المعادلة الصعبة المطلوبة من كل الأقليات المسلمة: محافظة بلا انغلاق, واندماج بلا ذوبان.
وكان من المؤسسات المهمة والفاعلة التي أنشأتها الأقليات المسلمة في أوربة: المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث, والذي يضمُّ عددا من العلماء الذين يعيشون في الغرب, وهم الأكثرية, كما يضم عددا من علماء الشرق, ممن يهتمون بالشأن الإسلامي في الغرب, ليكون هذا المجلس مرجعية دينية للمسلمين, تعمل على توحيد الفتوى بينهم ما أمكن ذلك, وتبحث في المشكلات العويصَة التي تعترض حياتهم، وتحتاج إلى علاج من صيدلية الشريعة الغراء, بعيدا عن تحريف الغالين، وانتحال المبطلين, وتأويل الجاهلين.
وقد اجتمع هذا المجلس ثماني دورات وبحث في مشكلات مختلفة ووضع لها حلولا من الفقه الإسلامي الخِصب, أحيانا بالإجماع، وهو الأكثر, وأحيانا بالأغلبية, كما هو شأن سائر المجامع وكما أجاب عن كثير من أسئلة الأخوة المسلمين في أوربة التي تشغل بالهم.
وقد كان جُهد المجلس في السنوات الماضية مُنْصَباً على جانب (الإفتاء) مرجئا جانب (البحوث) وهي جزء لا يتجزأ من مهمته المزدوجة: الإفتاء والبحوث معا.
وقد اختار المجلس الأخ الفاضل العالم الباحث الأستاذ الدكتور عبد المجيد النجار لينهض بهذا العبء, فكان عند حسن الظن به, وبدأ يؤصل العمل البحثي, ويشيد له أركانه الأساسية, ومنها: هذه (المجلة), التي يصدر منها هذا العدد الأول, ليسد هذه الثَُغرة, ويعبر عن أهداف المجلس, ويسهم في تنشيط العمل العلمي, وتعميق الفكر الإسلامي في هذا المجال.
وإني لأرجو أن يكون هذا العدد باكورة طيبة مباركة في هذا المجال, كما أرجو من الأخوة العلماء والباحثين في المجلس وخارجه أن يتعاونوا معه في تحقيق الهدف المنشود سائلا الله تعالى أن يجعل يومنا خيرا من أمسنا, وغدنا خيرا من يومنا، إنه سميع مجيب.
الفقير إلى عفو ربه
يوسف القرضاوي
ربيع الثاني 1423هـ - يونيو2002م