![]() |
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.
(وبعد)
ثلاث كلمات موجَّهة:
لي كلمات ثلاث: كلمة سأوجِّهها للشعب المصري الثائر، وكلمة أوجِّهها إلى الجيش المصري العزيز، والكلمة الثالثة أوجِّهها للنظام المصري الحاكم، على رأسه الرئيس حسني مبارك.
كلمتي للشعب المصري:
أما كلمتي للشعب، فأحيي هذا الشعب الذي قام بانتفاضته المباركة، ثائرًا على الأوضاع الفاسدة، التي صبر عليها كثيرًا وكثيرًا.
بعد أن صبر على الفقر والجوع والبطالة، وهو يرى الكثيرين: يستمتعون بثروات البلد، يسرقون أموالها، وينهبون أراضيها، ويحتكرون احتكارات كبرى.
رأى ذلك بعينيه وهو صابر، ولا بدَّ للصابر يومًا ما أن ينتفض، وأن يقول: لا.
وقد قال الشعب: لا. بهذه المسيرات، وهذه التظاهرات السلميَّة، لقد خرج هذا الشعب من بيوته، ونزل إلى الشارع، ليس معه عِصِى، وليس معه أي شيء، غير المسابح أو المصاحف، وهو يرفض أن يعيش هذه الحياة المهينة.
يريد الكرامة، والحرية، ولقمة العيش، والكسب الحلال، لكنه للأسف قُوبل بما قابله به رجال الأمن من مصادمات، ومن رصاص حيٍّ، إلى آخره.
وقد وجَّهتُ كلمة يوم الجمعة بجريدة الشروق المصرية، وقلتُ لأبناء هذا الشعب: لا تصادموا رجال الأمن، فهم منكم، وأنتم منهم، ولعل كثيرا منهم يشكون مما تشكون منه أو أكثر، ولو أُتيحت لهم الفرصة لانضمُّوا إليكم، فلا تقابلوهم إلا بالحسنى.
ولكن للأسف حدث ما حدث، ورأينا بالأمس عشرات الشهداء يسقطون، وأكثر من ألف جريح، وهذا ما جعل بعضهم يعتدون على أملاك الدولة، وأملاك الأشخاص.
ولكن أريد أن أؤكِّد أن المتظاهرين الحقيقيين الذين قاموا بهذه الانتفاضة لم يشاركوا في السلب والنهب، وأنا أدعوهم وأجدِّد الدعوة إلى ما قُلته بالأمس في جريدة الشروق، أقول: إياكم أن تمتد أيديكم إلى أيِّ مؤسسة من مؤسَّسات الدولة، أو ممتلَك من الممتلكات العامة أو الخاصة، هذا حرام .. حرام .. حرام.
هذا ما أوجِّهه للشعب، وأقول للشعب: استمر في انتفاضتك، استمر في هذه الانتفاضة، فاستمرارك هو الذي سيأتي لك بالحقِّ إن شاء الله.
هذا ما أوجِّهه إلى الشعب المصري العظيم، إلى إخواني وأبنائي وأحفادي من هذا البلد الكريم، أن يستمر في انتفاضته.
كلمتي للجيش المصري:
أما كلمتي إلى الجيش المصري العزيز علينا، والحبيب إلينا، فأدعوه أن يحمي مصر في الفترة القادمة - وهي فترة في غاية الأهمية – لا أدعوه إلى أن يتحمَّل الحكم، فنحن لا نريد أن نعيد الكَرَّة مرَّة أخرى، حكم العسكر، ثم تنتهي إلى حكم المدنيين شبه العساكر إلى آخره، نريد أن يُسلِّم الجيش الحكم إلى مدنيين.
ومَن أراد منهم أن يحكم فليخلع بَزَّته العسكرية، وليدخل فيما دخل فيه الآخرون، من المدنيات، وفق الأصول الشورية والديمقراطية.
ونريد من الجيش أن يقف كما أراه الآن أمامي في الصورة، لا يعتدي على أحد، بل يحافظ على الأمن من بعيد.
كلمتي للنظام المصري:
أما كلمتي إلى النظام المصري، وعلى رأسه حسني مبارك، فإني آسف أشدَّ الأسف أن أرى هذا النظام أعمى لا يبصر، وأراه أصم لا يسمع، وأراه غبيًّا لا يفهم.
منذ حوالي ثمانين سنة قال أمير الشعراء أحمد شوقي، يخاطب الفرعون توت عنخ أمون، حينما اكتُشف قبره، وما فيه من كنوز أذهلت العالم، قال شوقي:
زمان الفرد يا فرعونُ ولى ودالت دولـــة المتجبرينـا
وأصبحت الرعاةُ بكل أرضٍ على حكم الرعية نازلينا
قال شوقي هذا منذ ثمانين سنة، ولكن فراعنة اليوم لم يفهموا هذا.
كنتُ أودُّ من الرئيس حسني مبارك الذي انتظرنا خطابه طويلا، ثم خرج علينا بخطاب كأنه يعيش في عالم غير عالمنا، لا يحسُّ بما يجري في الشارع المصري، لا يحسُّ بالشهداء الذين سقطوا، لا يحسُّ بالجرحى، لا يحسُّ بالجوعى، لا يحسُّ بآلام هذا الشعب.
وكلُّ ما خرج علينا به أنه سيحلُّ هذه الحكومة، وما فائدة حلِّ الحكومة؟!
لم يقُل شيئًا مما ينبغي أن يقال، لم يقل: إنه لن يترشَّح مرَّة أخرى!
لم يقُل: إنه لن يورِّث الحكم إلى أحد.
لم يقُل: أنه سيحلُّ مجلس الشعب ومجلس الشورى، اللذين قاما على تزوير على أعلى مستويات التزوير، مما لم يعرفه العالم قط!
لم يقُل: إنه سيلغي حكم الطوارئ، الذي حكم مصر، وقهر مصر عشرات السنين. لم يقُل شيئًا من هذا!
وهذا دليل على أن النظام لا يعي ولا يعقل.
ارحل يا مبارك:
لم يتَّعظ مبارك بالماضي القريب، والدرس الذي ما زال حيًّا، درس تونس، لذلك أنصح الرئيس مبارك أن يتخلَّى عن منصبه، وأن يرحل عن مصر.
ليس هناك حلٌّ لهذه المشكلة إلا أن يرحل مبارك، لا أن يخرب مصر. مصر في أيام معدودة خسرت عشرات المليارات، ونزل الجنيه المصري إلى أدنى المستويات، وتعطَّل الاقتصاد المصري، والعمال يُضرِبون عن العمل في مصانعهم.
لا تخربها يا مبارك، وتقعد على تلِّها، ارحل يا مبارك!
ارحم هذا الشعب، يكفيك ثلاثون سنة، كان ينبغي أن تحكم اثنتي عشرة سنة، فحكمت ثلاثين سنة!
إن كان الحكم غُرما، فيكفيك هذا الغرم، وإن كان الحكم غُنما، فحسبك ما غنمتَ!
ارحم هذا الشعب وارحل عنه، حتى لا يزداد خراب مصر.
لقد قُتل في يوم واحد العشرات، من أناس خرجوا يتظاهرون، يطالبون بحقِّهم في العدالة الاجتماعية، في الكرامة الإنسانية، في لقمة العيش الحلال، لكن جنودك قابلوهم بالرصاص الحيِّ في صدورهم!
لم يعد لك بقاء يا مبارك، أنصحك أيها الرئيس: أن تستفيد من درس زين العابدين بن علي، وتخرج على رجليك مختارًا، بدل أن تخرج مُكرهًا. لا أُريد أن تحاكمك الجماهير، أريد أن تُحاكَم بعد ذلك أمام محكمة عادلة، محكمة مدنيَّة، لا كالمحاكم العسكرية التي تُنشئها لمحاكمة خصومك، تحكم عليهم بأحكام ظالمة طاغية، أريدك أن تخرج من مصر، وتترك هذا الشعب يختار لنفسه.
إن للظالم نهاية، وقد حانت النهاية، وهبَّت رياح التغيير، وإذا هبَّت رياح التغيير من الشعب فلا يستطيع أحد أن يوقفها، لن يستطيع أحد أن يوقف التاريخ، أو يناطح المريخ، أو يحارب الأقدار، أو يؤخِّر طلوع النهار.
"إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" (1).
{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
إن الله يمهل ولا يهمل، ويملي، لكنه وضع لكلِّ شيء حسابًا وأجلا مسمًّى، و{إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [نوح:4].
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44، 45].
انظر إلى هذا التعليق: قطع دابر الظالمين نعمة تستحقُّ الحمد: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
أقول هذا باسمي، وباسم أبناء مصر، كلِّ مصر، كلُّهم يُعَبِّرون الآن، ويطلبون منك أن ترحل على رجليك.
أقول هذا باسم علماء الدين في مصر، مئات الآلاف من علماء الأزهر.
وأقول هذا باسم علماء العالم الإسلامي، أضعاف علماء مصر.
أدعوك باسم هؤلاء: أن ترحل وترحم أهلك، إن كان في قلبك ذرة من رحمة أو في رأسك ذرة من تفكير.
ــــــــــــــــــــ
* مداخلة عبر قناة الجزيرة يوم 29 يناير 2011م.
(1) متفق عليه: رواه البخاري في التفسير (4686) ومسلم في البر والصلة (2583)، كما رواه الترمذي في التفسير (3110)، وابن ماجه في الفتن (4018) عن أبي موسى