د. يوسف القرضاوي

لنقرأ هذه القصة من السيرة (ذكرها ابن القيم في "زاد المعاد" عند ذكر الوفود) نجدها ناطقة بما يصنعه الإيمان بقلوب المؤمنين، وكيف حول طموحهم من الدنيا ومتعها ومادتها إلى الله والدار الآخرة.

قدم وفد نجيب -وهم من السكون باليمن- ثلاثة عشر رجلاً مسلماً، فسر بهم النبي صلى الله عليه وسلم وأكرم منـزلتهم، وأمر بلالاً أن يحسن ضيافتهم، وجعلوا يسألون النبي ويتعلمون منه، وأقاموا أياماً ولم يطيلوا المكث. رغبة في رجوعهم إلى قومهم، ليعلموهم مما علوهم رسول الله، ثم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يودعونه: فأرسل إليهم بلالاً فأجازهم بأرفع ما كان يجيز به الوفود، ثم قال: هل بقي منكم أحد؟ قالوا: نعم - غلام خلفناه على رحلنا هو أحدثنا سناً … قال: أرسلوه إلينا … فلما رجعوا إلى رحالهم … قالوا للغلام: انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض حاجتك منه، فإنا قد قضينا حوائجنا منه وودعناه.

فأقبل الغلام حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله .. إني امرؤ من بني أبذى -يقول- من الرهط الذين أتوك آنفاً فقضيت حوائجهم فاقض حاجتي يا رسول الله.

قال: وما حاجتك؟

قال: إن حاجتي ليست كحاجة أصحابي -وإن كانوا قد قدموا راغبين في الإسلام- وساقوا ما ساقوا من صدقاتهم. وإني -والله- ما أقدمني من بلادي إلا إن تسأل الله عز وجل إن يغفر لي ويرحمني، وأن يجعل غناي في قلبي.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -وأقبل الغلام- "اللهم اغفر له وارحمه واجعل غناه في قلبه". ثم أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه. فانطلقوا راجعين إلى أهليهم.

ثم وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى سنة عشر من الهجرة فقالوا: نحن بنو أبذى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل الغلام الذي أتاني معكم؟

قالوا: يا رسول الله، ما رأينا مثله قط، وما حدثنا بأقنع منه بما رزقه الله، لو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها، ولا التفت إليها!

فقال الرسول: الحمد لله. أني لأرجو أن يموت جميعاً.

فقال رجل منهم: أو ليس يموت الرجل جميعاً يا رسول الله؟

فقال الرسول -مبينا لهم إن من الناس من يموت شتتاً موزعاً- تتشعب أهواؤه وسمومه في أودية الدنيا، فلعل أجله أن يدركه في بعض تلك الأودية، فلا يبالي الله عز وجل في أيها هلك!

قالوا: فعاش ذلك الغلام فينا على أفضل حال، وأزهده في الدنيا، وأقنعه بما رزق الله، فلما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم، ورجع من رجع من أهل اليمن عن الإسلام، قام في قومه، فذكرهم الله والإسلام، فلم يرجع منهو أحد. وجعل أبو بكر الصديق يذكره ويسأل عنه، حتى بلغة حاله، وما قام به فكتب إلى زياد بن لبيد يوصيه به خيراً.

هذه قصة شاب عمر الإيمان قلبه، فلم يجعل همه ما يشغل كثيراً من الناس من زهرة الحياة الدنيا، بل تعلقت همته بما عند الله، مما هو خير وأبقى.

حين طلب حاجته من رسول الله كانت حاجته غير حوائج رفاقه -بل غير حوائج أكثر الناس ... كانت حاجة دينه قبل دنياه، حاجة روحه قبل جسده، حاجة معنى الإنسان، لا صورة الإنسان فيه.

حاجته من الرسول: أن يسأل الله له المغفرة والرحمة وأن يجعل غناه في قلبه!

حاجة -ولا ريب- قرت بها عين رسول الله. وقد ودعه وعاد إلى أهله ووطنه، ولكن الرسول الخبير بنفوس الرجال، لم ينس هذا الشاب، على بعد المكان، ومرور الزمان.

وفي موسم الحج سأل عنه قومه سؤال المربي العارف عن التلميذ النجيب، وأجابوه بما سر قلبه وحمد الله عليه، وقال فيه كلمته الناصعة الفريدة "إني لأرجو أن يموت جميعاً".

والناس يموتون على ما عاشوا عليه -فمن عاش جميعاً مات جميعاً، ومن عاش أوزاعاً شتى وأجزاء متناثرة مات كما عاش.

وقليل من الناس، بل أقل من القليل؛ ذلك الذي يعيش لغاية واحدة، ويجمع همومه في هم واحد. يحيا له، ويموت عليه، ذلك هو المؤمن البصير الذي جعل غايته القرار إلى الله، وسبيله اتباع ما رسم الله، وكل شيء فيه لله، وبالله، ونشيده: (إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين * قل أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء؟) (الأنعام: 162، 163) هذا -ولا نجد غيره- هو الذي يعيش جميعاً ويموت جميعاً!

ـــــــ

- عن كتاب "الإيمان والحياة" لفضيلة الشيخ.