د. يوسف القرضاوي

(4) مذبحة الحرس الجمهوري 8/7/2013

ثم تحدث الدكتور الطيب: الإمام الأكبر شيخ الأزهر، بعد مجزرة بشعة، شاهد العالم أجمع وقائعها، وسجلت الكاميرات الشريفة أحداثها، وقتل أحد المصورين الأحرار وهو يصور قاتله، على مرأى ومسمع من الدنيا كلها، واتضح لكل ذي عين تنظر، وأذن تسمع، وقلب يحس، وعقل يفكر: كذب ادعاءات الجنرال السيسي ومعاونيه، وظهر جليا أمام العالم في الداخل والخارج، ما يبطنه هؤلاء الانقلابيون الظلاميون المتجبرون في الأرض للراكعين الساجدين، للأطهار من أبناء هذه الأمة، فاخترقت رصاصات الجيش المصري صدور أبناء مصر العُزل ورؤوسهم .. في حادثة لم يعتدها المصريون.. لقد عرف المصريون جهاز الشرطة بفساده وإفساده .. عرفوه بقهره وعدوانه .. عرفوه بإذلاله وامتهانه! ولكن المصريين لأول مرة تخالط رصاصات الجيش المصري دماءهم وعظامهم وأفئدتهم، وهذه هي المفاجأة!

فكان بيانك تعليقا على هذه المجزرة البشعة كما يلي:

( بسم الله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين؛

شعب مصر العريق بعد استنكارنا وإدانتنا، وتألم قلوبنا لهذه الدماء التى سالت فجر اليوم، فإن الأزهر الشريف يعزى أسر الشهداء، ويواسى الجرحى والمصابين من أبناء مصر، ويصارح القائمين على أمور هذا الوطن بالآتى:

ـ فتح تحقيق عاجل لكل الدماء التى سالت فجر هذا اليوم وقبله، وإعلان نتائج هذا لتحقيق أولاً بأول على جماهير الشعب المصرى، حتى تتضح الحقائق وتوأد الفتنة في مهدها.

ـ تشكيل لجنة المصالحة الوطنية خلال يومين على الأكثر- حفاظا على الدماء- وإعطاء هذه اللجنة صلاحيات كاملة لتحقيق المصالحة الشاملة التى لا تقصى أحداً من أبناء الوطن، فالوطن ليس ملكاً لأحد، لكنه ملك الجميع، وهو يسعُ الجميع.

ـ الإعلان العاجل عن مدة الفترة الانتقالية، والتى ينبغى ألا تزيد عن ستة أشهر، والإعلان عن جدول زمنى واضح ودقيق للانتقال الديمقراطى المنشود الذى يحقق “وحدة المصريين ويحقن دماءهم”، وهو الأمر الذى من أجله شاركتُ فى حوار القوى والرموز الوطنية والسياسية.

ـ يهيب الأزهر الشريف بجميع وسائل الإعلام المختلفة ضرورة القيام بالواجب الوطنى فى تحقيق المصالحة الوطنية ولم الشمل، وتجنب كل ما من شأنه أن يثير الاحتقان أو يزيده اشتعالا.

ـ ويطالب الأزهر الشريف بإطلاق سراح جميع المحتجزين والمعتقلين السياسيين، وإتاحة الفرصة لهم أن يعودوا إلى حياتهم العادية آمنين مطمئنين، كما يؤكد على واجب الدولة في حماية المتظاهرين السلميين وتأمينهم وعدم الملاحقة السياسية لأى منهم.

ـ وأخيراً إذ أدعو كل الأطراف على الساحة المصرية لتحكيم صوت العقل والحكمة قبل فوات الأوان، فإننى من خلال مسئوليتى الدينية والوطنية أدعو الجميع إلى الوقف الفورى لكل ما من شأنه إسالة الدماء المصرية الزكية.

وأعلن للكافة في هذا الجو الذي تفوح فيه رائحة الدم، ولا يفارق ذهني قول النبي صلى الله عليه وسلم" لزوال الكعبة حجرا حجرا، أهون عند الله عز وجل من إراقة دم مسلم بغير حق.

أعلن للكافة في هذا الجو أننى قد أجد نفسى مضطراً، إلى أن أعتكف فى بيتى حتى يتحمل الجميع مسئوليته تجاه وقف نزيف الدم منعاً من جر البلاد إلى حرب أهلية طالما حذرنا من الوقوع فيها.

حفظ الله مصر وشعبها من كل مكروه وسوء).

التعقيب:

جاء في بيانك يا دكتور الطيب مطالبات منها: التحقيق الفوري في هذه الدماء وتحديد مرتكبيها، وتقديمهم للعدالة الناجزة، فجاءت نتيجة التحقيق لتقول إن الجاني هو ذاته الضحية! والقاتل هو عينه المقتول!  ثم تسارعت أوامر النائب العام المكلف بمحو آثار المجرمين بأمر القبض على أنصار المقتولين والمصابين بدعوى أنهم هم الذين حرضوا على القتل، وهم المتورطون في هذه المجزرة، وظلت وسائل الإعلام  المجرمة تقوم بدورها القذر في الدفاع عن هذا الكلام الأبله، وتلك الرواية الحمقاء، وتبرير ما حدث!!

وإنني لأتعجب في أي عالم نعيش، وأي قانون يحكم الناس ؟! أهو قانون الغاب، وعالم الأقوى، أم أننا نعيش في مصر الإسلام، ومصر العروبة، ومصر الحضارة، بعلمائها ومبدعيها ، وشرفائها، وأزهرها  وجامعاتها؟! أما من حمرة الخجل لهذه الدماء الزكية؟! أما من وخز الضمير لهذه الأرواح البريئة؟!

كما جاء في بيانكم تشكيل لجنة مصالحة وطنية تشكل خلال يومين على الأكثر!

فأين هذه اللجنة؟ ومن أعضاؤها؟ وهل انتهى اليومان اللذان حددتهما أم ما زال علينا أن ننتظرهما؟! ويا ترى كم من الأرواح ستزهق، وكم من الدماء ستسيل حتى ينتهي هذان اليومان؟!

وطلبت من وسائل الإعلام أن تتوقف عن التحريض على العنف، وعن شيطنة المخالفين، وتجنب ما من شأنه أن يزيد الاحتقان في الشارع المصري، وما زالت وسائل الإعلام تزداد سعارا، وما زال دعاتها ينفخون في النار، ويؤججونها، حتى رأينا من يحرق في دكانه بعد أن يغلق عليه، ليتفحم، دون ذنب إلا لأنه ذو لحية، ولعله من أنصار حزب النور الذي آزركم في هذا الانقلاب!

ورأينا غيره الكثير والكثير ممن يصابون بأسلحة البلطجية في الشوارع، ومن يسمعون أقذع السباب، لا لشيء إلا لأنه ملتحٍ ، أو لأنها محجبة أو منتقبة، والإعلا م يذكي هذه النار ويلقي لها حطبا، حتى أضحى السلم الاجتماعي – ولأول مرة في تاريخ مصر- في خطر!

وطالبت بالإفراج الفوري عن المعتقلين السياسيين الذين تم اعتقالهم عقب قرار الجنرال السيسي بعزل الرئيس، فلم نجد إلا زيادة في الاعتقالات، التي نالت رموز الإخوان، وغيرهم من السياسيين المعارضين لهذا الانقلاب العسكري، فامتدت يد الاعتقال إلى رئيس حزب الوسط ونائبه، والبقية تأتي، فهل أجابك الانقلابيون إلى مطلبك يا شيخ الأزهر؟!

ثم طالبت بحماية المتظاهرين السلميين، فكانت الاستجابة سريعة، فكلف الانقلابيون كتائب الحراسة المكونة من رجال الشرطة بالملابس المدنية، والملابس العسكرية، وفي مقدمتهم ألوية البلطجية، وكتائب المجرمين ، لحمايتهم على طريقة الداخلية، وكان من مقتضى هذه الحماية أن يطمئنوا المتظاهرين على قدرات شرطتهم التي تحميهم، وقوة البلطجية الذين يعاونونهم، فلم يكن بد من إصابة هؤلاء المتظاهرين بالأسلحة البيضاء حينا، وبالخرطوش مرة أخرى ، وبالرصاص الحي أحيانا، ليعلم المتظاهرون قوة جهاز الأمن في بلدهم، وأنه قادر على حمايتهم!

وختمت مقالتك باعتكافك في بيتك حتى يتحمل الجميع مسؤوليته، وأود أن أسألك يا شيخ الأزهر، من الذي يتحمل مسؤوليته في هذا الوقت؟!

الحمل الذبيح الذي اعتُدِي عليه، أم الذئب الغادر الذي انقض عليه وهو في محراب الصلاة؟!

من الذي يتحمل مسؤولية القناصة الذين وجهوا رصاصاتهم الغادرة إلى صدور المصلين؟! يتحملها الفريق السيسي أم الراكعون الساجدون المسالمون، الذين لم يحملوا عصا، ولا سيفا، ولا بندقية، لم يرفعوا إلا أصواتهم .. لم يستخدموا إلا حناجرهم .. لم يحملوا إلا مصاحفهم، فهل هذه من الأسلحة المحرمة على المعتصمين أن يستخدموها؟!

ومتى كان الاعتكاف في البيت وسيلة من وسائل تغيير المنكر، وتأييد الحق؟!

وإذا جاز الاعتكاف لعوام الناس، فهل يجوز للعلماء، وبخاصة لشيخ الأزهر، لا سيما وأنت تتحمل مسؤولية كبرى عما يجري؛ جراء دعمك للانقلاب.

الله تعالى يقول:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ المائدة:8].

لقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أبي سعيد الخدري، عند مسلم: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ".[1]

وعلمنا صلى الله عليه  وسلم،  أن أفضل الجهاد " كلمة حق عند سلطان  جائر " .[2]

(5) الدعوة إلى التظاهر لتفويض السيسي

كنا نظن شيخ الأزهر بدأ يراجع نفسه، وكنا نظن أن رصيد الإيمان في قلبه سيأبى عليه إلا الانحياز إلى الحق، وأن آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في صدره، والثروة العلمية الكبيرة الموروثة، ستدفعه إلى أن يكون من شهداء الحق، القائمين بالقسط، كما قال سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ  } [النساء:135 ]، وقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ  }       [ المائدة:8].

كنا نظنه نسي عضويته في لجنة سياسات الحزب الوطني، ونسي قوله في إحدى الفضائيات، حين سُئل: أيهما تفضل: الأزهر أم الحزب الوطني؟ فقال: كيف أفاضل بين الشمس والقمر؟! وظننا أن ثورة يناير وما أعقبها من الحريات، التي تمتع بها المصريون في عهد الرئيس مرسي، ستغير من ولائه للنظام السابق.

كنا نظن أن شلال الدماء المتفجر من شباب مصر وفتياتها، ورجالها ونسائها، بل وأطفالها، وأن آلاف الجرحى، ومئات المعتقلين، وما يحدق بمصر من مخاطر ستغير من ولاء شيخ الأزهر، وتجعله حكما عدلا، وقاضيا منصفا.

كنا نظن رصيد الحكمة المعهودة في تصريحاته المعروفة، ورزانة العقل المألوفة في تعاطيه مع الاتجاهات المختلفة التي تسعها مشيخة الأزهر، ستجعله يفكر في فقه المآلات والموازنات والأولويات؛ ليدرك خطورة السبيل الذي يمضي فيه، وعوج الطريق الذي ارتضاه لنفسه، فيعدل عن هذا الطريق، وينزع عن هذا العمل، الذي لم تباركه إلا دول مغموصة بكراهية الخير لمصر!

ولكنه أبى إلا السير في ركاب الفاسدين إلى آخر الطريق، لا يلوي على ناصح، ولا يستجيب لمشير، فإذا به يفاجئنا، وقد خرج من اعتكافه، على طريق  الرهبان والأساقفة، لينادي المصريين: أن يقفوا خلف السفاح القاتل المجرم عبد الفتاح السيسي.

أخذ يستعطف المصريين، ويصر على أن يكون في مركب الانقلابيين، ليعلن: في بيان له:

"إنّ الأزهر الشريف وقد استمع إلى دعوة المصريين جميعًا للتعبير عن إرادتهم –اليوم الجمعة - فإنه يثق كل الثقة في أن الشعب المصري أيًّا كانت توجهاته وانتماءاته سوف يعبّر عن رأيه بصورة حضاريّة دون انزلاق إلى دائرة العنف أو مستنقع الفوضى، وأنّ هذا الشعب العريق لن يخذل مصر الوطن.. مصر الدين.. مصر الحضارة، وسيلقي على العالم كلّه درسًا في تحمل المسئوليّة، وحسن التعبير عن الرأي".

إن الأزهر الشريف "يثق تماما في أن مفهوم هذه الدعوة للنزول لا يمكن أن تخرج عن سياق ما قاله المتحدث العسكري، بأنها دعوة للمصريين جميعا للوحدة والتكاتف ودعم قواتهم المسلحة والشرطة المدنية وكافة مؤسسات الدولة للقضاء على جميع أشكال العنف والإرهاب، الذي يكاد أن يحرق كل مكتسبات الثورة المصرية العظيمة، التي لا تزال تبهر العالم، بسلميتها وحضارتها، ورقي شعبها.

ومرة أخرى شعب مصر العظيم .. يدعوكم أزهركم الشريف بحق الله عليكم، وقدسية الدين لديكم: أن تحرصوا كل الحرص أن تعبروا عن رأيكم بصورة سلميّة تامّة تليق بكم وبمصركم، انطلاقا من وطنيتكم الخالصة، وأن تجمعوا صفوفكم، وتصلحوا ذات بينكم، وتوحّدوا كلمتكم، وأن تنتبهوا لما يحاك بكم وبوطنكم".

أيها المصريون هبّوا الآن لإنقاذ مصر مما يتربص بها، وتحملوا مسؤولياتكم أمام الله والتاريخ، وأنتم قادرون على تجاوز هذه الأزمة وهذه المحنة وتوكّلوا على الله تعالى، والله معكم.

التعقيب:

ولا أدري ما معنى هذا البيان الطائفي، الذي يشكك في مصداقية شيخ الأزهر، والذي يسحب منه الثقة في أن يكون حكما بين خصمين قد انحاز لأحدهما، أو قاضيا في دعوى هو أحد طرفيها.

فهو يعلن ثقته في الأهداف النبيلة لدعوة السيسي للتفويض بمحاربة الإرهاب والخارجين على القانون، وأين هو هذا الإرهاب؟! بل أين هذا القانون؟! هل الإرهاب الأسود والجهل والتخلف، هو التمسك بالشرعية وبالحرية يا شيخ الأزهر؟!

ثم ينادي جموع الشعب المصري لدعم قواتهم المسلحة والشرطة لمواجهة العنف والإرهاب الذي يكاد أن يحرق مكتسبات الثورة .

ولعمري أي إرهاب هذا الذي يستدعي الشعب المصري لمواجهته، وللتعاون مع الجيش والشرطة في القضاء عليه؟! أتريدهم أن يقضوا على إخوانهم المصريين الذين يخالفونهم؟! أتريد تفويض الجيش والشرطة في حصد الأرواح، وسفك الدماء؟!

أتريد تفويض السيسي ليصادر الحريات، ويقتلع جذور الديمقراطية، وينقض على إرادة الشعب، ويعيد الحكم العسكري من جديد؟!

ثم شرع يستجدي الناس ويذكرهم بحق الله وقدسية الأزهر أن يهبوا لإنقاذ مصر مما يتربص بها.

فأي شيء يتربص بمصر يا شيخ الأزهر، وتريد أن تحمي مصر منه؟!

هل تريد أن تحميها من دينها؟! من إسلامها؟! من حريتها؟! من حقوق أبنائها؟!

إن الذي يتربص بمصر هم قادة العسكر، الذين لم يروِ ظمأهم ما نهبوه من خيرات مصر طوال (60) سنة، ويريدون ألا يدعوا فيها لمصري شيئا. الذين أكلوا اللحم، وضنوا بالعظام على المصريين، الذين لا يصبرون عن صفقات الأسلحة، والميزانيات السرية، التي لا رقيب عليها ولا حسيب، الذين يزعجهم نمو شجرة الديمقراطية، ويؤرقهم ظهور ثمارها، وقد اعتادوا أن يذيقوا الناس القهر، ويسوموهم الخسف! (يتبع)

ـــــــــ

[1] رواه مسلم في الإيمان (49).

[2] رواه أحمد في مسنده (18829)، والنسائي في البيعة (4209) ، وابن ماجه في الفتن (4012)، عن طارق بن شهاب. وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (3241) وغيره.