د. يوسف القرضاوي
إن الدين الحق لا يمكن أن يقف ضد التطور النافع، وإذا كان التاريخ قد سجل على بعض الأديان ورجالها وقوفها في وجه هذا التطور، فذلك لأنها لم تُعدْ دين الله الحق. بل حرفت وبدلت، وفقدت أصالتها وسموها، وكانت أدياناً موقوتة، فلم يتكفل الله بحفظها.
وأبرز مثل لذلك المسيحية في الغرب، فقد وقفت الكنيسة هناك تؤيد الجهل ضد العلم، والخرافة ضد الفكر، والملك ضد الشعب، والقوي ضد الضعيف فلما أدرك الغرب قبس من النور، جاء في الأصل من الشرق المسلم، تمردت عليها الجماهير الثائرة على الظلم والظلام، وحكمت على رجال الكهنوت، حكمها على رجال الظلم والجبروت فقالوا: اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس!!
أما الإسلام فقد شاء الله أن يكون هو الرسالة العامة الخالدة للإنسانية كلها بعد أن بلغت أشدها، واستحقت أن ينزل عليها هذه الرسالة، فلا عجب أن قامت منذ أول يوم على احترام العقل والفكر، والإنكار على التقليد والجمود والدعوة إلى العلم والحكمة، والاحتكام إلى البرهان والحجة، والإشادة بفضل العلم وأهله، والرجوع إلي ذوي المعرفة والخبرة، والترغيب في العمل والحركة، والترهيب من القعود والبطالة.
ولا عجب أن نجد كتاب الإسلام الخالد - القرآن الكريم - يحدثنا - في قصة أبي البشر - عن العلم باعتباره المؤهل الأول للخلافة في الأرض، وبه تفوق آدم على الملائكة.
ويحدثنا في قصة نوح عن صناعة السفن.. وفي قصة داود عن إلانة الحديد وصناعة الدروع.. وفي قصة سليمان عن صناعة الجن له ما شاء.
ويحدثنا عن التخطيط الاقتصادي - لمدة أربع عشرة سنة - في قصة يوسف.
كما يحدثنا في قصة ذي القرنين عن صناعة السدود الضخمة.. ويحدثنا عن منافع الحديد العسكرية والمدنية في سورة خاصة تحمل اسم "الحديد".
كما نجد رسول الإسلام يقر نتائج الملاحظة والتجربة في شئون الحياة وإن خالفت رأيه الشخصي، كما في مسألة تأبير النخل، وهي التي قال فيها: "أنتم أعلم بأمر دنياكم".
ونجده لذلك يستخدم الإحصاء لمعرفة القوة البشرية المسلمة معه معرفة دقيقة قائمة على التعداد لا على التقريب والتخمين، وهذا ما رواه البخاري ومسلم.
ونجده يحارب الأمية - وهو النبي الأمي - حتى إنه ليفدي الأسير المشرك الكاتب إذا علم عشرة من أبناء المسلمين الكتابة.
ونجده يحارب الخرافات ومروجيها فيعلن حرباً على السحرة والكهنة والعرافين، وعلى - من يصدقهم أو يسمع لهم. ويتداوى ويأمر بالتداوي قائلاً: (تداووا يا عباد الله فإن الله ما أنزل داء إلا أنزل له شفاء).
ونجده يقاوم الجبرية والسلبية في مواجهة الأمور، داعياً إلى العمل الحذر واتخاذ الأسباب (اعقلها وتوكل) ولما سئل عن الأسباب: هل ترد من قدر الله شيئاً؟ قال: هي من قدر الله!
فلا عجب أن قامت في ظل هذا الدين دول مترامية الأطراف ورثت أعظم إمبراطوريتين في الأرض، أسسها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمتن الأسس وأقوى الدعائم، الجامعة بين الدين والدنيا، وترعرعت تحت سلطانه حضارة شامخة البنيان، عالية الأركان، استفادت من تراث السابقين، وهذبت منه، وحسنت فيه، وأضافت إليه من جهدها، وابتكارها. ولم تجد في الدين ما يعوق سيرها، أو يؤخر تقدمها، بل وجدت فيه الدافع الذي يحفزها أن تضاعف السعي والحركة، والضمان الذي يمسكها أن تضل أو تنحرف عن الطريق ولا غرو أن قال الفيلسوف المؤرخ الفرنسي جوستاف لوبون: إن العرب هم أول من علَّم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين!.
ترى هل نحن - بعد ذلك - في حاجة إلى أن نسأل: ما موقف الإسلام من الحضارة أو التطور؟ أو العلم والتقدم؟.
ــــــــــ
- عن كتاب "من أجل صحوة راشدة تجدد الدين وتنهض بالدنيا" لفضيلة الشيخ.