د. يوسف القرضاوي

مِن القيم الإنسانية الأساسية التي جاء بها الإسلام، وجعلها من مقومات الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية: "العدل"، حتى جعل القرآن إقامة القسط - أي العدل - بين الناس هو هدف الرسالات السماوية كلها، يقول تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ..} (الحديد:25).

وليس ثمة تنويه بقيمة القسط أو العدل أعظم من أن يكون هو المقصود الأول من إرسال الله تعالى رسله، وإنزاله كتبه. فبالعدل أنزلت الكتب، وبُعثت الرسل، وبالعدل قامت السموات والأرض.

والمراد بالعدل: أن يعطى كل ذي حق حقه، سوء أكان ذو الحق فرداً أم جماعة أم شيئاً من الأشياء أم معنى من المعاني، بلا طغيان ولا إخسار، فلا يبخس حقه ولا يجور على حق غيره، قال تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} (الرحمن:7-9).

والإسلام يأمر المسلم بالعدل مع النفس: بأن يوازن بين حق نفسه، وحق ربه، وحقوق غيره. كما قال عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن عمرو، حين جار على حق نفسه بمداومة صيام النهار وقيام الليل: "إن لبدنك عليك حقًا، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً". ويأمر الإسلام بالعدل مع الأسرة: مع الزوجة، أو الزوجات، مع الأبناء والبنات. يقول تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} (النساء:3).

ويقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): "اتقوا الله واعدلوا في أولادكم"، وحين أراد بشير ابن سعد الأنصاري أن يشهده (عليه الصلاة والسلام) على هبه معينه آثر بها بعض أولاده، سأله النبي: "أكل أولادك أعطيتهم مثل هذا"؟ قال: لا. قال: "أشهد على ذلك غيري، فإني لا أشهد على جور".

ويأمر الإسلام بالعدل مع الناس كل الناس: عدل المسلم مع من يحب، وعدل المسلم مع من يكره، لا تدفعه عاطفة الحب إلى المحاباة بالباطل، ولا تمنعه عاطفة الكره من الإنصاف وإعطاء الحق لن يستحق.

يقول تعالى في العدل مع من نحب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ.. } (النساء:135)، ويقول سبحانه في العدل مع من نعادي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ..} (المائدة:8)، وكم حفل التاريخ السياسي والقضائي في الإسلام بمواقف رائعة، حكم فيها لغير المسلمين، ضد المسلمين، وللرعية ضد الدعاة.

يأمر الإسلام بالعدل في القول، فلا يخرجه الغضب عن قول الحق، ولا يدخله الرضا في قول الباطل. يقول تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (الأنعام:152)، ويأمر بالعدل في الشهادة، فلا يشهد إلا بما علم، لا يزيد ولا ينقص، ولا يحرف، ولا يبدل. قال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} (الطلاق:2)، {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ}.

ويأمر الإسلام بالعدل في الحكم، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ..} (النساء:58).

وقد استفاضت الأحاديث في فضل "الإمام العادل" فهو أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وأحد الثلاثة الذين لا ترد لهم دعوة.

وبقدر ما أمر الإسلام بالعدل وحث عليه؛ حرَّم الظلم أشد التحريم، وقاومه أشد المقاومة، سواء ظلم النفس أم ظلم الغير، وبخاصة ظلم الأقوياء للضعفاء، وظلم الأغنياء للفقراء، وظلم الحكام للمحكومين. وكلما اشتد ضعف الإنسان كان ظلمه أشد إثماً. يقول الرسول لمعاذ: "واتق دعوة المظلوم، فليس بينها وبين الله حجاب". وقال: "دعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين".

ومِن أبرز أنواع العدل، الذي شدد فيه الإسلام ما سمي في عصرنا: العدل الاجتماعي. ويراد به: العدل في توزيع الثروة، وإتاحة الفرص المتكافئة لأبناء الأمّة الواحدة، وإعطاء العاملين ثمرة أعمالهم وجهودهم دون أن يسرقها القادرون وذوو النفوذ منهم، وتقريب الفوارق الشاسعة بين الأفراد والفئات بعضها وبعض، بالحد من طغيان الأغنياء والعمل على رفع مستوى الفقراء.

وهذا الجانب سبق فيه الإسلام سبقاً بعيداً، حتى إن القرآن منذ عهده المكي لم يغفل هذا الأمر الحيوي، بل إعطاء عناية بالغة، ومساحة واسعة. فمن لم يطعم المسكين كان من أهل سقر المعذبين في النار، {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} (المدثر:43-44)، ولا يكفى أن تطعم المسكين، بل يجب أن تحمل نصيبك في الدعوة إلى إطعامه، والحض على رعاية ضروراته وحاجاته: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ. فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ. وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} (الماعون:1-3).

وإهمال هذا الحض يضعه القرآن جنباً إلى جنب مع الكفر بالله تعالى، الموجب للعذاب الأليم، وصلي الجحيم: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} (الحاقة:30-34).

والمجتمع الجاهلي مجتمع مذموم مسخوط عليه من الله تعالى؛ لضياع الفئات الضعيفة فيه، وانشغال الأقوياء، بأكل التراث وحب المال: {كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} (الفجر:17- 20).

لقد اهتم الإسلام بالطبقات الضعيفة في المجتمع؛ فشرع لهم من الأحكام والوسائل ما يكفل لهم العمل الملائم لكل عاطل، والأجر العادل لكل عامل، والطعام الكافي لكل جائع، والعلاج الكافي لكل مريض، والكساء المناسب لكل عريان. والكفاية التامة لكل محتاج. وتشمل هذه الكفاية: المأكل والملبس والمسكن، وكل ما لا بد له منه، على ما يليق بحاله، من غير إسراف ولا تقتير، لنفس الشخص ولمن يعوله. وهذا تعريف الإمام النوى في "المجموع".

وفرض لذلك الإسلام حقوقاً مالية في الأموال الأغنياء، أولها وأعظمها الزكاة. التي اعتبرها الإسلام ثالث أركانه، يؤديها المسلم طوعاً واحتساباً، وإلا أُخذت منه كرهاً، ولو أن طائفة ذات شوكة امتنعت من أدائها قوتلت عليها بحد السيوف. تؤخذ الزكاة من الأغنياء لترد على الفقراء. فهي من الأمة واليها. والأرجح أن يُعطى الفقير من الزكاة كفاية العمر الغالب لأمثاله؛ متى اتسعت حصيلة الزكاة لذلك؛ وبذلك يصبح في العام القادم يداً معطية لا آخذة، عليا لا سفلى.

وقد أُلفت كتب في هذا الموضوع، ينبغي أن تراجع. وفى كتابنا "الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي" خطوط عريضة مركزة لمقومات العدل الاجتماعي في الإسلام، يحسن الرجوع إليها.

.....

- المصدر: "ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده" لسماحة الشيخ.