د. يوسف القرضاوي

إذا عرفنا بواعث التوكل؛ سهل علينا أن نعرف عوائقه، فبضدها تتميز الأشياء، ولا بأس أن أشير إلى أبرز المعوقات:

وأولها من غير شك: الجهل بمقام الألوهية، فمن لم يعرف رب الناس، ملك الناس، إله الناس، وما له سبحانه من الأسماء الحسنى، والصفات العلا؛ لا يُتصور منه أن يتوكل عليه جل جلاله.

من لم يعرف الله غنيًا له ما في السموات وما في الأرض مِلكًا ومُلكًا، يحتاج إليه كل ما سواه، ولا يحتاج إلى أحد مما سواه. أخبر تعالى عن غناه في حديث القدسي فقال: "يا عبادي؛ لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، اجتمعوا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل واحد مسألته؛ ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر".

ولم يعرف الله قديرًا، لا يحد قدرته حد، ولا يعجزها ضد: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يس: 82)، تعمل قدرته تعالى من خلال الأسباب التي خلقها، وتعمل -إن شاء سبحانه- من غير الأسباب، آية لنبي، أو كرامة لولي، أو إعانة لمظلوم، أو تفضلًا على محروم: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (الأنعام: 17، 18).

ولم يعرف الله جوادًا كريمًا، يده سَحَّاء الليل والنهار، يرزق البر والفاجر، ويعطي المؤمن والكافر: {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنسَانُ قَتُورًا} (الإسراء: 100).

ولم يعرف الله قهارًا أخذ الجبابرة العتاة، المتألهين في الأرض؛ أخْذ عزيز مقتدر، فما كان لهم من فئة ينصرونهم من دون الله وما كانوا من المنتصرين، كما قال تعالى: {فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (العنكبوت: 40).

من لم يعرف الله تعالى بهذه الأسماء، والصفات وسائر أسمائه وصفاته؛ لا يُنتظر منه أن يجعل اعتماده عليه، إذ كيف يعتمد على من لا يعرفه؟! وربما تجده يعتمد على مخلوق مثله، ولا يعتمد على ربه؛ لأنه يعرف مقام الرئيس أو الوزير أو المدير أو الغني، فهو يعتمد عليهم، ويثق بعونهم له، في حين لا يعرف مقام الذي خلقه فصوره وشق سمعه بصره.

مثله مثل رجل غريب دخل مجلس قوم فيهم الملك، فهو يسأل بعض خدمه، أو بعض جنود، ولا يسأل الملك نفسه؛ لأنه لا يعرفه، فإذا لم ينبهه منبه على جهله وسوء تقديره؛ فسيمضي في الطريق الغلط، ولن يعمل على ثمرة، ولن تقضى له حاجة.

......

- من كتاب «التوكل» لفضيلة الشيخ.