د. يوسف القرضاوي

بيَّن القرآن الكريم، كما وضحت السنة الشريفة: أن الأعمال عند الله متفاوتة المراتب، وأن هناك الأفضل والأحب إلى الله تعالى من غيره.

يقول الله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (التوبة:19-20).

وصحت الأحاديث: "أن الإيمان بعض وستون ـ أو بضع وسبعون ـ شعبة، أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق"؛ فدل هذا على أن هذه الشعب متفاوتة في القيمة والدرجة.

وهذا التفاوت ليس اعتباطيًا، ولكنه مبني على معايير وأسس ينبغي أن ترعى، وهذا ما نبحث عنه هنا.

من هذه المعايير:

أن يكون العمل أدوم: ومعنى الأدوم: أن يداوم عليه فاعله ويواظب عليه، بخلاف العمل الذي يقع منه بعض المرات في بعض الأوقات. وفي هذا جاء الحديث الصحيح: "أحب العمال إلى الله أدومها وإن قل".

وروى الشيخان عن مسروق قال: سألت عائشة رضي الله عنها: أي العمل كان أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: الدائم.

وعن عائشة أيضًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها، وعندها امرأة، قال: "من هذه؟" قالت: فلانة تذكر من صلاتها (تعني أنها تكثر جدًا من الصلاة) قال: "مه! عليكم بما تطيقون، فوالله، لا يمل الله حتى تملوا".

قالت عائشة: وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه.

و"مه" كلمة زجر عن تكلف المشقة الشديدة في العبادة، وتحميل النفس فوق طاقتها، وذلك أنه بالمداومة على القليل، تستمر الطاعة وتكثر بركتها، بخلاف الكثير الشاق، وربما ينمو القليل الدائم حتى يزيد على الكثير المنقطع، أضعافًا كثيرة؛ ولهذا استقر في فِطَر الناس في سائر الأمور: أن القليل الدائم خير من الكثير المنقطع.

وهذا ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يحذر من الغلو في الدين والتشدد فيه؛ خشية أن يأتي عليه يوم يمل فيه العمل، أو تضعف طاقته عنه، بحكم الضعف البشري، فينقطع في وسط الطريق، فإن المُنبَتَّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "عليكم من الأعمال بما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا". وقال: "عليكم هديًا قاصدًا (أي متوسطًا) فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه".

وسبب هذا الحديث ـ كما رواه بريدة ـ قال: خرجت ذات يوم لحاجة، وإذا أنا بالنبي صلى الله عليه وسلم يمشي بين يدي، فأخذ بيدي، فانطلقنا نمشي جميعًا، فإذا نحن بين أيدينا برجل يصلي يكثر الركوع والسجود! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتراه يرائي"؟! فقلت: الله ورسوله أعلم! فترك يده من يدي، ثم جمع يديه، فجعل يصوبهما ويرفعهما، ويقول: عليكم هديًا قاصدًا.. الحديث.

وعن سهيل بن حنيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشددوا على أنفسكم، فإما هلك من كان قبلكم بشديدهم على أنفسهم، وستجدون بقاياهم في الصوامع والديارات".

.....

- المصدر: "في فقه الأولويات.. دراسة جديدة في ضوء القرآن والسنة" لفضيلة الشيخ.