د. يوسف القرضاوي

مِن مزالق الاجتهاد المعاصر: تجاوز ما أجمعت عليه الأمة في عصور الاجتهاد غفلة عن هذا الإجماع وجهلًا به، أو إعراضًا متعمدًا عنه، مع أن الأصوليين جميعًا جعلوا من شروط المجتهد المتفق عليها: العلم بمواضع الإجماع؛ حتى لا يجهد المجتهد نفسه في أمر فرغت منه الأمة، وهي لا تجتمع على ضلالة.

وقد بينا في حديثنا عن هذا الشرط من شروط المجتهد ما المقصود بالإجماع الذي لا يجوز خرقه ولا تعديه، ونؤكد هنا أننا لا نريد مجرد دعوى الإجماع، فكم من مسائل ادعى فيها الإجماع وقد ثبت فيها الخلاف، كما تدل على ذلك الوقائع الكثيرة .

وإنما الذي نقصد إليه هنا: هو الإجماع المتيقن الذي استقر عليه الفقه والعمل جميعًا، واتفقت عليه مذاهب فقهاء الأمة في عصورها كلها، وهذا لا يكون عادة إلا في إجماع له سند من النصوص، فالنص هو الحجة والمعتمد، ولكن الإجماع المستمر على العمل به أعطاه قوة أي قوة، ونقله من الظنية إلى القطعية.

وإنما قيدت الإجماع بالمتيقن؛ خشية من دعاوى الإجماع الكثيرة فيما ثبت الخلاف فيه، كما يشهد بذلك كل من له اطلاع على المصادر الجامعة لمذاهب العلماء، ومن ذلك ما قيل من جواز زواج المسلمة في عصرنا بالكتابي، كما جاز زواج المسلم بالكتابية، هذا مع أن الفرق بينهما واضح جلي، فالمسلم يعترف بأصل دين الكتابية فهو يحترمها ويرعى حقها ولا يصادر عقيدتها، أما الكتابي فهو لا يعترف بدين المسلمة ولا بكتابها ولا برسولها، فكيف تعيش في ظل رجل لا يرى لها أي حق باعتبارها مسلمة؟!

والقول بأن القرآن إنما حرم "المشركات" والكتابيات غير المشركات، ينقضه قول القرآن: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (الممتحنة:10)، فهنا رتب الحكم على الكفر لا على الشرك حيث قال: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ}، وإذا كانت العبرة بعموم اللفظ فلفظ "الكفار" هنا يشمل الكتابي كما يشمل الوثني، فكل من لم يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فهو ـبالنسبة لأحكام الدنياـ كافر بلا نزاع.

ومن ذلك ما ذهب إليه الأستاذان الفاضلان: الدكتور شوقي إسماعيل شحاتة، والدكتور محمد شوقي الفنجري، من وجوب الزكاة في أموال النفط (البترول) مما تملكه الحكومات الإسلامية، في بلاد الخليج وغيرها، وهو بمقدار الخمس؛ بناء على أنه ركاز، وفي الركاز الخمس كما هو مذهب أبي حنيفة، وأبي عبيدة وغيرهما.

أما أن النفط ونحوه من المعادن ركاز، وأن في الركاز الخمس؛ فهو ما رجحته ودللت عليه، في كتابي "فقه الزكاة"، ولكن وجوب الخمس فيه إنما يتجه إذا كان يملكه أفراد أو شركات، فهنا يؤخذ منه الخمس ويصرف مصارف الزكاة على ما رجحنا، أما إذا كان ملك الدولة؛ فشأنه شأن كل أموال الدولة، وهذه لا زكاة فيها بالإجماع؛ وسر ذلك يعود إلى عدة أمور:

أولًا: أن الزكاة فرع الملك؛ ولهذا أُضيفت الأموال إلى مالكيها في مثل قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}، وقوله صلى الله عليه وسلم: "أدوا زكاة أموالكم"، ومال الدولة ليس ملك رئيس الدولة ولا وزير المالية، ولا غيرهما حتى يطالب بتزكيته ويطهر نفسه بإخراج حق الله فيه.

ثانيًا: أن من أخرج الزكاة من ماله ـربع العشر أو نصف العشر أو العشر أو الخمسـ طاب له الاستمتاع بالباقي ولا حرج عليه، إلا أن يطوع أو تأتي حاجة عامة أو خاصة. وهنا في مال النفط لا يكفي أن تخرج الحكومة مقدار الزكاة منه، وإن قدرناه بالخمس على ما هو المختار عندنا، إذ لابد من صرفه كله في مصالح المسلمين، ومنها مصالح الفقراء والمساكين وغيرها من الفئات المحتاجة، بل هي في مقدمة المصالح المنصوص عليها في مصارف الفيء، {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ} (الحشر:7).

ثالثًا: إن الدولة هي المأمورة بأخذ الزكاة (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ) فكيف تأخذ من نفسها وتصبح آخذا ومأخوذ منه في وقت واحد؟!

أنا أعرف أن الدوافع إلى هذا القول دوافع خيرة، وهي محاولة التغلب على أوضاع التجزئة الحالية التي تعانيها الأمة الإسلامية، بحيث تجعل بعض الدول أو الدويلات الصغيرة الحجم القليلة السكان، التي من الله عليها بالنفط في أرضها، تملك المليارات من الدراهم أو الدنانير أو الريالات، تغص بها خزائن البنوك الأجنبية، على حين ترى بلادًا إسلامية أخرى، كثيفة السكان، قليلة الموارد، تهددها المجاعات، وينشب فيها الفقر أنيابه، ويغدو أبناؤها من ضحايا الجوع فرائس سهلة لدعاة التنصير والشيوعية، على نحو ما قال بعض السلف: "إذا ذهب الفقر إلى بلد؛ قال له الكفر خذني معك"!

فأراد هؤلاء الأخوة الباحثون في الاقتصاد الإسلامي أن يحتالوا على هذه الأوضاع القائمة التي لا يقرها الإسلام؛ فذهبوا إلى وجوب الزكاة في النفط باعتباره "ركازا". وفي الركاز الخمس، ومادامت هذه زكاة فإنها ترد على فقراء الإقليم ومصالحه أولًا، وفق المنهج الإسلامي في التوزيع المحلي، وما زاد عن حاجة الإقليم يوزع على الأقاليم الإسلامية الأخرى: الأقرب فالأقرب أو الأحوج فالأحوج.

ولو كانت الخلافة الإسلامية قائمة، والبلاد الإسلامية موحدة، تحت رايتها كما كان الأمر من قبل؛ ما قالوا هذا القول، ولا ظهر هذا الاجتهاد أصلًا ولا كانت هناك حاجة إليه.

ورأيي أن القول بوجوب تزكية "النفط" لا يحل مشكلة التجزئة الإسلامية القائمة، ولا يترتب عليه بالضرورة حل مشكلات البلاد الفقيرة من العالم الإسلامي، حتى لو فرضنا أن الدول النفطية أخذت بهذا القول: أن في النفط الذي تملكه الدولة حقًا، وأنه الخمس لا ربع العشر، وأنه يصرف مصرف الزكاة لا مصرف الفيء، فمن يضمن ألا تنفق حصيلة هذا على فقراء الإقليم ومصالحه الاجتماعية والعسكرية وخصوصًا إذا قيل: إن تسليح الجيوش والإنفاق عليها من "سبيل الله" وهو أحد مصارف الزكاة؟ وعندئذ لا يبقى للمسلمين الآخرين شيء أو يبقى لهم الفتات.

وأولى من هذا في رأيي أن تعلن الحقائق الإسلامية الأساسية الواضحة وهي أن المسلمين ـ مهما اختلفت أوطانهمـ أمة واحدة، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، يكفل غنيهم فقيرهم، ويأخذ قويهم بيد ضعيفهم وهم متضامنون في العسر واليسر، متعاونون على البر والتقوى. ولا يجوز أن يعاني بلد إسلامي الفقر والمرض والجوع، وهناك بلد أو بلاد إسلامية أخرى تنفق على الكماليات آلاف الملايين، ولديها من الاحتياطي مئات البلايين!

كما لا يجوز أن يتحمل بلد إسلامي محدود الموارد عبء الجهاد ونفقاته الطائلة ضد أعدائه وأعداء الإسلام، على حين تقف الدول الإسلامية الغنية موقف المتفرج، دون أن تؤدى فريضة الجهاد بالمال، كما توجبه أخوة الإسلام.

وما قاله الفقهاء من ملكية النفط ونحوه من الموارد "للإمام"؛ فالإمام لا يعني حاكم الدول الإقليمية، وإنما يعني السلطة الشرعية للدولية الإسلامية الموحدة تحت راية العقيدة الواحدة، والشريعة الواحدة، وهذا يعني أن هذا المال ليس ملكًا لمجموعة معينة من الناس دون سواهم، بل هو ملك للأمة المسلمة وللمسلمين حيثما كانت مواقعهم في دار الإسلام.

.....

- المصدر: "الاجتهاد في الشريعة الإسلامية" لفضيلة الشيخ.