د. يوسف القرضاوي

لماذا حرص الإسلام كل هذا الحرص على الاتحاد والترابط، ولماذا حذر كل هذا التحذير من التفرق، والتشاحن؟

الواقع إن وراء الاتحاد منافع وآثارها في حياة الأمة لا تخفي على ذي لب.

( أ ) فالاتحاد يقوي الضعفاء، ويزيد الأقوياء قوة على قوتهم، فاللبنة وحدها ضعيفة مهما تكن متانتها، وآلاف اللبنات المتفرقة والمتناثرة ضعيفة بتناثرها وإن بلغت الملايين، ولكنها في الجدار قوة لا يسهل تحطيمها لأنها باتحادها مع اللبنات الأخرى، في تماسك نظام، أصبحت قوة أي قوة، وهذا ما أشار إليه الحديث الشريف بقوله: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" وشبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه.

ونبهت عليه الآية الكريمة، حيث يقول تعالى: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص(الصف:4) . والقصة المشهورة التي علمها الأب لأبنائه تؤكد هذا المعنى، إذ لم يستطع أي واحد منهم، أن يكسر مجموعة العصي المتضامة على حين أمكن بيسر كسر كل منها على حدة، وقال في ذلك:

كونوا جميعا يا بني إذا اعترى خطب ولا تتفرقوا آحادا!

تأبى العصي إذا اجتمعن تكسرا وإذا افترقن تكسرت أفرادا!

( ب ) والاتحاد كذلك عصمة من الهلكة، فالفرد وحده يمكن أن يضيع، ويمكن أن يسقط، ويفترسه شياطين الإنس والجن، ولكنه في الجماعة محمي بها كالشاة في وسط القطيع، لا يجترئ الذئب أن يهجم عليها، فهي محمية بالقطيع كله، إنما يلتهمها الذئب حين تشرد عن جماعتها وتنفرد بنفسها، فيجد فيها ضالته، ويعمل فيها أنيابه، ويأكلها فريسة سهلة.

وفي هذا جاء الحديث "عليكم بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار".

"إن الشيطان ذئب الإنسان، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية".

"عليكم بالجماعة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد".

ومما له دلالته القوية في الحفاظ على وحدة الجماعة ما ذكرته في كتابي "بينات الحل الإسلامي" مما سجله القرآن الكريم في قصة موسى عليه السلام حينما ذهب لمناجاة ربه، استجابة لوعد الله تعالى، الذي واعده ثلاثين ليلة، ثم أتممها بعشر، فتم ميقات ربه أربعين ليلة، وخلف في قومه أخاه وشريكه في الرسالة هارون عليهما السلام.

وفي غيبة موسى فتن قومه بعبادة العجل الذي صنعه لهم السامري، فلما رجع موسى إلى قومه، فوجئ بهذا الانحراف الكبير الذي يتصل بجوهر العقيدة التي بعث بها هو، وبعث بها كل الرسل من قبله ومن بعده.

وهنا غضب موسى، وألقى الألواح، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، وقال: (يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا، ألا تتبعن، أفعصيت أمري) (سورة طه: 92،93) فكان جواب هارون كما ذكر القرآن: (قال يا ابن آدم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين إسرائيل، ولم ترقب قولي) (طه:94) .

وفي هذا الجواب نرى أن نبي الله هارون اعتذر لأخيه بهذه الجملة: (إني خشيت أن تقول: فرقت بين بني إسرائيل، ولم ترقب قولي) .

ومعنى هذا أنه سكت على ارتكاب الشرك الأكبر، وعبادة العجل، الذي فتنهم به السامري، حفاظا على وحدة الجماعة، وخشية من تفرقها، وهي ـ لا شك ـ خشية موقوتة بمدة غياب موسى، حتى إذا عاد تفاهم الأخوان الرسولان في كيفية مواجهة الأزمة.

......................

* من كتاب "الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم" لفضيلة العلامة.