د. يوسف القرضاوي

إذا كان كل من عدا الرسول المعصوم المؤيد بالوحي: بشرًا يصيب ويخطئ، فإن من حقنا - بل من واجبنا النظر في تراث أسلافنا العظام من مفسرين ومحدثين وفقهاء ومتكلمين ومتصوفة - فضلًا عن غيرهم من الفلاسفة والأدباء والمؤرخين - لنعرف ما فيها مما يوافق محكمات القرآن والسنة الصحيحة، وما لا يتفق معها، مما يحمل قصور البشر، وأهواء البشر، وأوهام البشر، وتأثر البشر بالبيئة والعصر والمحيط، بحيث نميز بين الإلهي والبشري، بين الثابت والمتغير وبين ما يمكن قبوله، وما يجب رده.

وإذا كان عرض ما جاء عن السلف على الكتاب والسنة واجبًا، فعرض ما جاء عن الخلف أوجب. وبهذا نعلم أن تقويم تراثنا، ووزنه بميزان الله ورسوله، فرض علينا، لننتفع بصوابه، ونتوقى خطأه، ونأخذ بخير ما فيه، وقد وصف الله المهتدين العقلاء من عباده بقوله: {فَبَشِّرۡ عِبَادِ 17 ٱلَّذِينَ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقَوۡلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} [الزمر: 17، 18]، فهؤلاء الذين هداهم الله من أصحاب العقول لا يكتفون باتباع الحسن من القول، بل يتبعون أحسنه وأفضله.

الطوائف الأربع التي تتقاسم تراثنا:

ونحن نعلم أن تراثنا الديني خاصة تتقاسمه طوائف أربع، لكل منها اتجاهه ومنهجه.

فطائفة الفقهاء، الذين يعنون باستنباط الأحكام الفرعية الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، وفق أصول معينة ارتضوها. وإليهم ينتسب أصحاب المذاهب المتبوعة.

وطائفة المحدثين، الذين يعنون بحفظ الأحاديث النبوية، والآثار الصحابية والتابعية، ونقدها رواية ودراية. وإليهم ينسب أصحاب الكتب الستة أو التسعة، وغيرهم من أئمة الحديث والمتبحرين في علومه رواية ودراية.

وطائفة المتكلمين الذين يعنون بتأسيس العقائد على دعائم من العقل والنقل، وأبرزهم عند أهل السنة علماء الأشاعرة والماتريدية.

وطائفة الصوفية، الذين يعنون بالحياة الروحية والخلقية، وتربية الفرد المسلم وتهذيب نفسه. مثل الفضيل بن عياض ومالك بن دينار، وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني، والجنيد بن محمد وغيرهم ممن عاصرهم أو جاء بعدهم.

ولكل واحدة من هذه الطوائف أو الأصناف جهادها وجهودها في خدمة الإسلام وتعليمه والدعوة إليه والدفاع عنه، كل في مجالها الذي اشتغلت به، وتخصصت في دراسته، وتعمقت في نواحيه. وكل جماعة من هؤلاء تقرب أو تبعد من لباب الحق بمقدار ما تقرب أو تبعد من المنهل الأول للإسلام: القرآن والسنة، وبمقدار ما يؤتيها الله من الفقه فيهما، واليقين بعصمتهما، والوقوف عند حدودهما، وترجيحهما على كل مورد آخر، يستحسنه الذوق والوجدان، أو العقل والنظر القريب.

وقد يستبعد بعض الناس الوقوع في الخطأ أو البدعة أو المعصية من بعض المتقدمين من ذوي العلم أو الصلاح، أفرادًا أو فئات. كالذين يستبعدون أن يستدل الفقيه بحديث غير صحيح، أو يؤول المتكلم تأويلًا غير سائغ، أو يستنبط المحدث من النص حكمًا غير مقبول، أو يتعبد الصوفي بعبادة ليس لها أصل في الشريعة.

ولكن مجرد الاستبعاد لا ينفي ما سجله التاريخ من ذلك كله. وإعجاب كل طائفة بأسلافها وتراثها لا يغير الواقع، ولا يضفي عليهم قداسة ليست لهم، ولا عصمة لم يدعوها لأنفسهم.

......................

* من كتاب "كيف نتعامل مع التراث والتمذهب والاختلاف" لفضيلة العلامة.