عودتي إلى مصر بعد انقطاع عن زيارتها:

تحدَّثتُ من قبل عن انقطاعي عن زيارة مصر تسع سنوات «من سنة 1964م إلى سنة 1973م»، وفي شهر يونيو 1973م عدت إلى مصر، ودخلتها، كما دخلها سيدنا يعقوب وأولاده إخوة يوسف، حين قال لهم: {ٱدۡخُلُواْ مِصۡرَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ} [يوسف: 99].

ولم يسألني أحدٌ أي سؤال: لماذا غبت هذه المدة؟ أو نحو ذلك.

ولم يستدعني أحدٌ في الداخلية أو غيرها، ليوجِّه إليَّ سؤالًا، وإن كان سألوا بعض الناس عني، مثل: الحاج عبده مصطفى، رجل الجمعية الشرعية المعروف، الذي رآني مرة أسير في شارع شريف، فأسرع ينادي عليّ، ويدعوني أن أشرب عنده فنجانًا من القهوة.

كما سألوا أخي وصديقي الشيخ حسن عيسى عبد الظاهر «الدكتور بعد ذلك» لماذا ينقلني بسيارته ويهتم بشأني؟

أما أنا فلم أُسأل، وظللت هكذا، طوال عهد الرئيس أنور السادات رحمه الله ، ولم أكن أقف في المطار، ولا يعوقني عائق في السفر أو القدوم.

تغيُّر الأوضاع الأمنية:

وبعد قتل الرئيس السادات، وتولِّي الرئيس حسني مبارك للحكم، بدأ الوضع يتغيَّر؛ ففي يوم من الأيام: قيل لي: إنَّ هناك ضابطًا من أمن الدولة يريد أن تتصل به، وترك لي رقم هاتفه. وكنت على أهبة السفر، ولا أجد وقتًا للاتصال، فسافرتُ دون أن أتصل به.

وعندما قدمتُ لقضاء الإجازة الصيفية، وجدت الوضع في المطار قد تغيَّر، فأوقفت قليلًا، وأُخذ جوازي ليُعْرض على جهات الأمن في المطار. وقال لي الضابط الذي تسلَّم مني الجواز: إنها فرصة لتشرب معنا القهوة، ونسألك بعض الأسئلة، التي قد لا نجد من يجيب عنها غيرك. وسألوني بعض الأسئلة وأجبتهم عنها بما وفقني الله إليه.

تعامل الأجهزة الأمنية معي بأدب واحترام:

وبعد نصف ساعة أو أكثر جاءوني بالجواز، وكانوا غاية في الأدب والتقدير والاحترام. وقال أحدهم: لقد تعلمنا منكم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : «ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقّر كبيرنا، ويعرف لعالمنا»(1) «أي: حقه».

وكذلك تعاملوا مع بعض الإخوة المصريين في الخارج، الذين يحملون جوازات خليجية، مثل: د. كمال ناجي، الذي يحمل جوازًا قطريًّا، ود. عز الدين إبراهيم، الذي يحمل جوازًا إماراتيًّا.

وقد قال لي بعضهم: يمكنك أن تطلب مقابلة الوزير، وتشرح له وضعيَّتك، وهو يعرفك ويسمع عنك، ويقدرك حقَّ التقدير، وهو الذي يستطيع أن يحذف اسمك من القائمة...

قلت لهم: إنَّ نفسي لا تنشرح لهذا، وَلْيَجْر عليَّ ما يجري على غيري، وأنا لا أحب الذهاب إلى الداخلية مختارًا.

سياسة الوزير أحمد رشدي:

ولم يلبث أن تغيَّر وزير الداخلية، وجاء الوزير أحمد رشدي، وقد كانت له سياسة مخالفة لمن كان قبله، فلم أوقف في عهده مرة واحدة بالمطار، وأظن ذلك كان معاملة عامة. وبعده عاد الأمر إلى ما كان عليه.

مع المقدِّم محمد عبد الوهَّاب:

وفي صيف سنة 1995م دق جرس الهاتف في منزلي بمدينة نصر، فرفعت السماعة، فقال المتصل: أنا المقدم محمد عبد الوهاب من مباحث أمن الدولة، وأرجو أن أتشرف بمقابلة فضيلتكم في بيتكم في الوقت المناسب لكم، وتحديده متروك لكم.

قلت له: مرحبًا بكم في أي وقت، ولكني مسافر غدًا إلى الإسكندرية، وسأبقى هناك نحو خمسة أيام أو ستة، ثم أعود، ويمكنكم أن تتصلوا بي بعد رجوعي لنحدد وقت اللقاء.

قال: أنا أترك لفضيلتكم رقم تليفوني، وبعد عودتك واطمئنانك، تستطيع الاتصال بي وقت ما تشاء، وتحدد موعد زيارتي وقت ما تشاء. وأعطاني رقم تليفونه.

وبعد عودتي في أوائل أغسطس على ما أذكر، اتصلت به، وقلت له: يمكنك أن تشرفني غدًا في الساعة الثامنة والنصف مساءً، وأهلًا بك وسهلًا.

وفي الموعد المحدد، حضر الأخ المقدم محمد عبد الوهاب، وقدم لي نفسه، وقال: أنت رجل معروف في العالم الإسلامي كله، ونحن للأسف في بلدك، لا نعرفك حق المعرفة. وقد جئت أبلغك تحيات المسئولين عني، وإعجابهم بك، وإكبارهم لك. وأريد أن أسألك: هل هناك أي متاعب تشكو منها، يمكن أن نساعد في حلها؟

قلت مبتسمًا: هل تريد الصراحة؟

قال: نعم، لا شك.

قلت: المتاعب تبدأ من عندكم!

قال: كيف؟

قلت: إن لي زيارات شتى لبلاد كثيرة في أنحاء العالم الإسلامي وخارجه، وفي كثير من البلاد يقابلني الوزراء، ومندوبو الرؤساء، إلا في بلدي؛ فأوقف فيه ويؤخذ جوازي، وأنتظر وقتًا قد يقصر وقد يطول.

قال: أرجو أن تأخذ رقم هاتفي، وتتصل به قبل حضورك؛ لأرتِّب لك الأمر، ولا تحدث متاعب إن شاء الله.

ولم أعلق على ذلك؛ لأن هذا الاتصال ثقيل على نفسي، ولا أحب أن أقيد نفسي اختيارًا بإجراء روتيني، وليجر عليَّ ما يجري على الناس، ثم طفق يلقي عليَّ أسئلة أخرى، وكان في الحقيقة معي في غاية الأدب.

قال لي: هل عندك مانع أن أوجِّه إليك بعض الأسئلة لأسمع إجابتك عنها؟

قلت له: لا مانع قط، أنا رجل من أوائل مهمتي أن أتلقى أسئلة الناس وأجيب عنها.

رأيي في المحاكمات العسكرية:

قال: ما رأيك في المحاكمات العسكرية؟ والأحكام التي صدرت فيها؟

قلت: هل تريد رأيي بصراحة؟

قال: نعم.

قلت: الأحكام العسكرية كانت قاسية، بل شديدة القسوة، على أناس لم يقترفوا جرمًا، ولم يمارسوا عنفًا. فمن المعلوم لديكم أن الإخوان منذ خرجوا من سجون عبد الناصر إلى اليوم، لم يثبت في حقهم أنهم استخدموا العنف أو شاركوا فيه، ولا لمرة واحدة.

بل أنتم - ولا شك - تعلمون الصدامات التي وقعت بين شباب الإخوان في الصعيد وشباب جماعة الجهاد. حيث يتهمون الإخوان بالتخلي عن مبدأ «الجهاد»، والمهادنة للسلطة، والاستسلام للطواغيت... إلخ.

قال: ولكن لا يزال في الإخوان جماعات تتدرب على السلاح؟

قلت: جماعة الإخوان جماعة كبيرة، وممتدة في شرائح متنوعة من الشعب، ولا يبعد أن يوجد فيها عشرة أو عشرون يفكرون مثل هذا التفكير إن صح ذلك، وأنا أحكم على المجموع لا على الجميع، والمهم هو الاتجاه العام في الجماعة، الذي تقوم عليه التربية والثقافة والتوجيه العام. وقد كان الإخوان قديمًا يحتاجون إلى هذا النوع من التدريب العسكري حين لم يكن هناك تجنيد إجباري، أما في عصر التجنيد الإجباري فكل المصريين يدخلون الجيش، فلا حاجة لمثل هذا التدريب.

ثم عاد الحديث إلى الأحكام العسكرية. وقلت له فيما قلت: ولماذا المحاكمات العسكرية لأناس مدنيين ليس فيهم عسكري واحد؟ ثم هم لم يمارسوا أي عمليات عسكرية؟ ولم يتجهوا إلى العنف أو يجربوه بوجه من الوجوه، فيما أعلم عنهم، أو عمن أعرفه منهم على الأقل.

أعرف من الدفعة الأولى: الدكتور عصام العريان، أعرفه منذ كان طالبًا في كلية الطب، وكان أميرًا للجماعة الإسلامية، وقد كان حريصًا على أن ينتقل بالطلاب من الغلو والتشدد إلى الوسطية، وكان يستعين بي وبشيخنا الغزالي على ذلك. وأعرفه بعد أن نضج وأصبح وجهًا إسلاميًّا مصريًّا مشرّفًا له حضور واضح في المؤتمرات والندوات التي تعقد داخل مصر وخارجها. ماذا ارتكب عصام العريان حتى يحكم عليه بخمس سنوات؟


د. عصام العريان

وأعرف من الدفعة الثانية: الدكتور عبد الحميد الغزالي، وهو أستاذ متخصص في الاقتصاد الإسلامي، ومدير لمعهد البحوث والتدريب في البنك الإسلامي للتنمية، وقد جمعتني به حلقات وندوات ومؤتمرات خاصة بالاقتصاد الإسلامي، وهو يعيش بجدة منذ سنوات، وليس من نشطاء الإخوان.

قال: ولكنه صار من نشطاء الإخوان بعد أن توفيت زوجته.

قلت: هو لحق؟! إنه عاد من جدة منذ عدة أشهر فقط.

السماح بالوجود القانوني للإخوان:

قال: ولكن الإخوان يقيمون تنظيمات مخالفة للقانون؟

قلت له: سأسلّم معك بما تقول. ولكن لماذا تُلجئون الإخوان لمخالفة القانون؟

أنتم تعلمون أن الإخوان جماعة موجودة بالفعل، وتنمو وتتكاثر ككل كائن حي، فلماذا لا تسمحون لها بالوجود القانوني؟ أنتم سمحتم بذلك للشيوعيين والناصريين والقوميين وسائر الفئات، إلا الإخوان، أليس الإخوان مصريين؟ أهم مستوردون من خارج تراب الوطن أم هم جزء منه؟

إنَّ الصواب في ذلك: أن يُسمح للإخوان بالعمل علانية وفوق الأرض، وتحت سمع الدولة وبصرها، وبإذن من القانون، بدل أن نلجئهم إلى العمل تحت الأرض. فهذا من حقهم بوصفهم مصريين... والتزامهم بالدين وبالإسلام لا يجوز أن يكون سببًا في حرمانهم من ممارسة حقوقهم المشروعة.

ثم قلت: وقد كان الإخوان موجودين بالفعل منذ عهد الرئيس الراحل السادات، وكان الأستاذ التلمساني رحمه الله، يُدعى في الاجتماعات المختلفة باعتباره مرشدًا للإخوان!

قال: ولكن الأستاذ التلمساني، كان عنصرًا ملطفًا بطبيعته الهادئة، وشخصيته الطيبة، ثم لم يكن التنظيم مُحكمًا كما هو محكم اليوم.

قلت: الذي أراه مخلصًا: أن علاج هذا كله يكمن في الاعتراف بالإخوان جماعةً لها كيانها وأهدافها ونشاطها في حدود النظام العام والقانون. ونحن أحوج ما نكون إلى تجميع كل القوى، وتوحيد صفوف الأمة للبناء والتنمية والرقي بوطننا، بعيدًا عن التوترات والصراعات.

أنا أقول هذا بوصفي مصريًّا مسلمًا، يحبُّ الخير لوطنه، والإعزاز لدينه، وقد علمتني رحلاتي المختلفة إلى أقطار العالَم: أن مصر من أرجى بلاد الله لنصرة الإسلام، إن لم تكن أرجاها جميعًا.

أنا أقول لك هذا بصراحة العالِم، لا بمناورة السياسي، وأنا ليس لي أي وضع تنظيمي في الإخوان!

استعفائي من التنظيم العالمي للإخوان:

قال: نحن نعلم أنه ليس لك أي وضع تنظيمي في الإخوان داخل مصر، ولكن في التنظيم العالمي ألا يوجد لك مشاركة فيه؟

قلت: كان لي مشاركة من قبل، ثم استُعفيت منذ سنين؛ لأتفرغ لخدمة الإسلام بالعلم والفكر والدعوة، وأعتبر نفسي مِلْك المسلمين جميعًا، لا ملك الإخوان وحدهم. وهذا لا يعني أني أتنكر لفكر الإخوان أو لدعوتهم، وهم قد يعتبرونني منظّرهم أو مفتيهم، كما أن كتبي تعدُّ من مراجعهم الأولية، وهم أول الناس قراءة لها.

وهناك أسئلة أخرى جرت في هذه المقابلة، لا تهمنا هنا، إنما الذي يهمنا هو التعليق على بعض الأمور، مثل الأحكام العسكرية.

وبعد أكثر من ساعة، انتهت المقابلة، وانصرف الضابط المسئول مشكورًا، ولم أعرف الهدف من وراء المقابلة، ولعله مجرد التعرف والاستكشاف أو التعارف، المهم أني قلت ما أعتقد أنه الحق، ليوصله الرجل إلى من هم فوقه. وبالله التوفيق.

...................

(1) رواه أحمد بلفظ: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف حق كبيرنا» (6733)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، ورواه الترمذي بلفظ: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا» (1320).