تفاوت حظوظ الناس في الرزق:

أشرت في الجزء الأول إلى حظِّي في التجارة والمشروعات الاقتصادية أو الاستثمارية، وذكرت أن الناس متفاوتو الحظوظ في هذا، فمنهم من يضع يده في «الناشفة» فتصبح خضراء، ولو تاجر في التراب لربح منه، ومنهم من لا حظَّ له في ذلك، وذكرت أمثلة لذلك مما حدث لي في الصغر.

واليوم بعد أن صارت لي مدَّخرات مما جمعته من راتبي في قطر، ومن حقوق تأليف كتبي، وبعضها يطبع مرات ومرات، ومن مكافآت على أعمال مختلفة، أصبحت أشارك بنصيب في المشروعات الاقتصادية الإسلامية التي يعرضها أصحابها على المسلمين، وخصوصًا من صغار المستثمرين.

إسهامي في بعض المشاريع الاقتصادية:

وكنت لا أكاد أدع مشروعًا من هذه المشروعات إلا ساهمت فيه، تشجيعًا للاستثمار الإسلامي من ناحية، ولأني لا أستطيع أن أستثمر مالي بنفسي من ناحية أخرى، حيث لا خبرة لي، ولا وقت عندي.

خسارتي في جُلِّ المساهمات المالية:

ولكن - للأسف - جُلّ المشروعات التي ساهمت فيها خسرت، وبعضها حصلنا فيها على قليل من رأس المال، وبعضها لم نحصل فيها على نقير ولا قطمير، بل ذهبت كلها هباء.

حدث هذا معي في البنك الإسلامي الأوروبي.

وفي المصرف الإسلامي الدولي للاستثمار والتنمية في مصر.

وفي الشركة الإسلامية للصوتيات والمرئيات المتفرِّعة منه.

وفي الشركة الإسلامية للتنمية في الخرطوم.

وفي شركات توظيف الأموال التي اشتهرت في مصر، مثل: شركة الريان، وشركة الشريف ومصانعه، وشركة الحجاز، التي لم نحصل من رصيدنا فيها على دينار ولا درهم ولا فلس. لا أنا ولا أولادي ولا أصهاري.

ومن المؤسف: أني ورّطت أولادي معي بعد أن عملوا وأمست لهم رواتبهم ومواردهم الخاصّة، فدخلوا فيما دخلت فيه، فأصابهم ما أصابني. وآخر هذه الكوارث: بنك التقوى، الذي ضاع كل ما أودعناه من أسهم، ومن مضاربات، ومن أرباح، وهي خسارة كبيرة بالنسبة لنا.

نحن - المسلمين - عادة نركن ظهرنا إلى الأقدار وتقسيم الأرزاق، ونقول: قدّر الله وما شاء فعل، ونريح أنفسنا بهذا الرضا والتسليم، ولا نسأل عن الأسباب وفق نظام السنن التي أقام الله عليها هذا العالم.

لماذا تخسر المشروعات الاقتصادية الإسلامية؟

ولكن يجب أن نسأل أنفسنا: لماذا تخسر كل هذه المشروعات التي تنسب إلى الإسلام؟ ويزعم أصحابها: أنهم يطبقون المعاملات الإسلامية.

يمكننا أن نلجأ إلى التفسير التآمري، ونقول: هناك خطط جهنمية، وأيد خفية، ومكايد صهيونية وصليبية، تعمل في الخفاء وفي العلن، لتدمير هذه المشروعات، ووضع العقبات في طريقها، والحيلولة بينها وبين النماء الطبيعي. وهذا له وجه، وهو واقع.

ولكن إلقاء اللوم على الخارج دائمًا، يُبعدنا عن محاسبة أنفسنا، ومعرفة تقصيرنا، وأسباب إخفاقنا... وقد علَّمنا القرآن أن نلوم أنفسنا أولًا، كما قال تعالى بعد غزوة أُحد: {أَوَلَمَّآ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَدۡ أَصَبۡتُم مِّثۡلَيۡهَا قُلۡتُمۡ أَنَّىٰ هَٰذَاۖ قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡ} [آل عمران: 165].

إن بعض المشاريع كانت ناجحة ومبنية على أسس متينة، فلما تدخلت فيها الحكومة خسرت وضاعت، مثل: مصانع الشريف وشركاته حسبما شهدناها.

كما أنَّ كثيرًا من هذه المشروعات تقوم قبل أن تستكمل الدراسات اللازمة لإقامتها، المبنية على الأرقام والإحصاء والمعلومات الصحيحة، وإذا قدمت يومًا دراسات فيكتفى منها بما لا يشفي الغليل، وينير السبيل، وكثيرًا ما يتولاها غير المتخصِّصين، الذين ليس لهم في الاقتصادي النظري، ولا الاقتصاد العملي ناقة ولا جمل.

ولقد سألت بعض الإخوان المسلمين يومًا: لماذا اعتبرتم فلانًا من أهل الاقتصاد، وزكّيتموه ليأخذ عشرات الملايين ومئاتها من الناس، وليس هو من أهل الاقتصاد، لا دراسة، ولا ممارسة؟!

فقيل لي: إنه كان في السجن يدير فلوس الإخوان في شراء ما يحتاجون إليه، وتوزيعها عليهم، وتوفير ما يمكن توفيره منها، وكان ناجحًا في هذا العمل.

قلت: سبحان الله! تقيسون على هذا العمل الهيِّن اليسير، بهذه المبالغ القليلة المحدودة: عشرات الملايين ومئات الملايين من أموال الناس؟ والعمل داخل السجن لم يكن عملًا اقتصاديًّا ولا استثماريًّا، بل كان عملًا إنسانيًّا تنظيميًّا؟!

تجربة شركة الرَّيَّان:

ولقد سمعت بنفسي من الأخ الأكبر في جماعة الريَّان، ونحن في اجتماع المصارف الإسلامية في إستانبول، كيف بدءوا مشوارهم، من مطعم صغير عندهم، ثم بتجارة البيض يجمعونه من القرى حولهم، ثم توسّعوا شيئًا فشيئًا، وفتحوا الباب لمن يشاركهم من أقاربهم وأصدقائهم وجيرانهم، حتى وصلوا إلى المليارات، ولم يكونوا مهيَّأين لذلك.

ولم يكن لهذه الشركات مجالس إدارة منتخبة منتظمة، من جميعات عامة للمساهمين، ولا هيئات رقابة شرعية، ولا رقابة معروفة من جهات الحكومة، ولا حتى من الجمعية العمومية، كما في البنوك الإسلامية.

من أخطاء البنوك الإسلامية:

وحتى البنوك الإسلامية، التي لها جمعيات عمومية، ومجالس إدارة، وهيئات رقابة، قد وقعت في خسائر هائلة، كما وقع بنك فيصل الإسلامي المصري، بسبب تورطه مع بنك الاعتماد والتجارة، وكما خسرت «دار المال الإسلامي» في سويسرا: خسارة هائلة، حين تعاملت بالذهب، بواسطة أحد موظفيها، الذي ضربها ضربة قاصمة، ظلت سنين عددًا، تحول الإفاقة منها، وهي لا تقدر.

ثم إن الحكومة عالجت قضية شركات الأموال معالجة فجّة، غير علمية ولا مدروسة، ولا راعت حاجات الناس، مما سبَّب ضياع أكثر حقوق المودعين من أصحاب الأموال.

خسارتي في بنك التقوى:

وكانت أكبر خسائري أنا وأولادي: خسارتنا في بنك التقوى الذي وضعنا فيه جُلَّ مدَّخراتنا، والذي تجمَّعت عليه عدة عوامل شتى، انتهت به إلى أن ضاع رأس ماله كله، على الرغم من براعة إدارته التنفيذية، وأمانتها وحرصها على نظافة التعامل مع الناحية الشرعية؛ ولهذا لم يدخل بيع المرابحة، التي غرقت فيه كل البنوك والمؤسسات الإسلامية، كما أنه لم يتورط بالدخول في سوق السلع والمعادن؛ لما يشوبه من شبهة الشكلية، قلما توجد سلع حقيقية. ولكن البنك خسر حينما ضربت العملات في ماليزيا وإندونيسيا، وأفلست بعض الشركات التي تعامل معها البنك، وربما كان من الخطأ تركيز العمل في بلد أو بلدين. ثم توالت عليه الابتلاءات من كل جانب، حتى هلك كله. والعوض عند الله (1).

تأييدي البنوك الإسلامية:

ومما يتعلق بالناحية الاقتصادية: أني أيَّدت قيام البنوك الإسلامية حينما كانت فكرة في رءوس بعض الاقتصاديين الإسلاميين، وحلمًا في نفوس بعض رجال الإسلاميين، وكانت هناك دراسات قليلة تنشر هنا وهناك عن إمكان قيام بنوك بلا فوائد، ثم عن ضرورة إنشاء هذه البنوك، على المستوى النظري. ثم هيأ الله رجالًا من أهل الفكر والنظر التقوا رجالًا من أهل المال والعمل، وكان من ثمرات هذا اللقاء: تأسيس أول بنك تجاري إسلامي، وهو بنك دبي الإسلامي الذي تحمَّس له الرجل العملي المسلم الحاج سعيد لوتاه حفظه الله.

وقد دعاني إلى التعاون معه في أول الأمر، واعتبرني كأني مستشارًا للبنك تطوعًا، ثم عقد البنك مؤتمره الأول الذي كان بحق أول مؤتمر للبنوك الإسلامية، دعا فيه عددًا من العلماء المشغولين بفقه المعاملات وبالاقتصاد الإسلامي، وذلك في شهر مارس سنة (1975م).

ثم نشأ بعد ذلك بنك فيصل الإسلامي المصري، وبنك فيصل الإسلامي السوداني، وبنك التمويل الكويتي، والبنك الإسلامي الأردني، وبنك البحرين الإسلامي، وتلاحقت بعد ذلك البنوك الإسلامية، مثل: مصرف قطر الإسلامي، والمصرف الإسلامي الدولي في مصر، وغيرها.

الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية:

وكان الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية - برئاسة الأمير محمد الفيصل، وأمانة د. أحمد عبد العزيز النجار(2) - يقوم بدور علمي ونظري في تسديد مسيرة البنوك الإسلامية، وأصدر موسوعة البنوك الإسلامية؛ وهي تضم أبحاثًا ومؤشرات حول المصارف الإسلامية، وإن كان بعضها لم ينضج بعد.

وحاول د. النجار أن ينشئ معهدًا لتخريج مصرفيين إسلاميين، أو تدريب العاملين في المصارف منهم، وتهيئة دراسة منهجية: شرعية، واقتصادية، ومحاسبية، وإدارية، وغيرها. وكان مقر هذا المعهد في قبرص، وقد استمر فترة من الزمن ثم توقّف؛ لأن تكلفته كثيرة، بسبب موقعه.

الهيئة العليا للفتوى والرقابة الشرعية للبنوك:

ولقد حاول الاتحاد أن يشدّ أزر البنوك الإسلامية، فأنشأ هيئة عليا للفتوى والرقابة الشرعية للبنوك، اختير الشيخ محمد خاطر مفتي مصر الأسبق ورئيس هيئة الرقابة الشرعية لبنك فيصل الإسلامي المصري: رئيسًا لها، واختاروني نائبًا له. واجتمعنا في إسلام آباد في ضيافة الرئيس ضياء الحق رحمه الله . كما اجتمعنا في القاهرة وغيرها، وقد استمرت هذه الهيئة عدة سنوات، ثم توقفت؛ لعدم تجاوب البنوك الإسلامية معها لأسباب عدة.

الهيئة العامة للمحاسبة للبنوك والمؤسسات المالية:

ثم أنشئ مجلس للمعايير مهمته ترشيد المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية، ثم تطور إلى الهيئة العامة للمحاسبة للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية، ويتبعها مجلسٌ للمعايير. وقد اُخْترت في مجلس أمنائها لعدّة سنوات، وكان مقرها: البحرين، كما كان رئيسها: الأخ الصديق، الشيخ إبراهيم آل خليفة حفظه الله، ونائبه: صديقنا الاقتصادي الكبير الأستاذ الدكتور عبد العزيز حجازي رئيس وزراء مصر الأسبق، ونائب رئيس مجلس إدارة بنك فيصل الإسلامي لعدة سنين.

المجلس الشرعي للهيئة العامة:

ثم أنشئ في هذه الهيئة مجلس شرعي يضم عددًا لا بأس به من علماء الشريعة المهتمين بفقه المصارف الإسلامية. وقد رُشِّحت لرئاسة هذا المجلس فاعتذرت ورشحت له أخي العلامة الهندي الشيخ محمد تقي العثماني؛ وهو فقيه يجمع بين الأصالة والمعاصرة. وما زال المجلس يعمل ويشرف على إصدار المعايير التي تصدر من الهيئة، وضبطها بضوابط الشرع. وقد صدر عنه عدد كبير من المعايير لها وزنها وقيمتها العلمية والعملية.

تكاثر البنوك الإسلامية:

وقد تكاثرت البنوك الإسلامية، وأصبحت تُعدّ بالمئات، حتى أصبحت البنوك العالمية الأوروبية والأمريكية، حريصة على أن تكون لها فروع إسلامية في البلاد العربية والإسلامية المختلفة؛ لما رأوا إقبال أبناء الشعوب الإسلامية على هذه البنوك، فلم يدعوا هذه السوق للمسلمين وحدهم، وقالوا: نضع لهم المعاملات التي يريدونها. وقد رأوها في واقع الأمر وفي بعض الأحيان، لا تختلف اختلافًا جوهريًّا عن معاملاتهم، وهو ما سهَّل الأمر عليهم.

دخول معاملات صورية تقرّب البنوك الإسلامية من البنوك الربوية:

وقد دخلت على البنوك الإسلامية في السنين الأخيرة معاملات، جعلتها تتسم بالصورية والشكلية، وتقربها من البنوك الربوية، بحيث لا تكاد تجد فارقًا جوهريًّا بينها وبين البنوك التي يفترض أنها كانت بديلًا عنها، وخصوصًا بعد أن توسّع كثيرون في عملية المرابحة التي باتت هي أساس معاملات البنوك الإسلامية، ولم تعد تسمع عن المضاربات والمشاركات والبيوع والتجارات ونحوها، وليتهم يطبقون هذه المرابحة بشروطها وضوابطها كما تقرها الهيئات الشرعية، بل إن بعض الهيئات الشرعية أدخلوا فيها صورًا غريبة يعجب المرء لها.

كما دخل التورُّق في معاملات كثير من المصارف، حتى سمَّاه بعضهم: «التورق المبارك»، إلى غيرها من العقود والمعاملات.

وهذا مما جعلني أصرخ متخوفًا من مصير هذه البنوك إذا استمر الحال على ما هو عليه، بل ربما تزداد تدهورًا؛ وهو ما دفع أخي العلَّامة الشيخ تقي العثماني إلى أن يستنجد بي لعمل شيء لوقف هذا التيار.

ومنذ سنوات دعا صديقنا الشيخ صالح كامل رئيس مجموعة بنوك البركة إلى ندوة في شهر رمضان المبارك، يستصرخ فيها الغيورين على المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية، من معاملة «التورق» الذي غزا بعض البنوك الإسلامية، وكنت ممن استجاب له، ووقفت معه ضدّ هذا الغزو الخطير الذي يضرب البنوك الإسلامية من داخلها. وكان من أقوى الذين هاجموا هذا التوجه صديقنا العالِم الفقيه الشيخ صالح الحصين حفظه الله.

.............

(1) أشهد أن الله سبحانه قد عوضنا بعد ذلك، بما لم يكن في الحسبان، بفضله تعالى، ثم بفضل أولادي الذين أحسنوا استثمار أموالنا، وبارك الله جهودهم، فعوضنا خيرًا كثيرًا. ومنها وقفت وقفًا كبيرًا للدعوة والفكر وللخير. أرجو أن يكون ذخرًا لي يوم القيامة.

(2) هو أول من أسس بنكًا اجتماعيًّا بلا فوائد في مصر وفي العالم العربي، في منطقة ميت غمْر، وقد كان الساعد الأيمن للأمير محمد فيصل آل سعود في تأسيس الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية وتقويته، وله عدة بحوث وكتب في مجال الاقتصاد الإسلامي.