العالم المتمكن:

في هذه السنة الدراسية (1413هـ - 1993م) دعوت صديقنا العلامة المحدث الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، أستاذًا زائرًا لمركز بحوث السنة والسيرة، ليستفيد من علمه الباحثون والباحثات من القطريين والقطريات، فاستجاب رحمه الله ، وسعدنا به فصلًا دراسيًا.

والشيخ أبو غدة عالم متمكّن من عدّة علوم شرعية ولغوية، من الحديث والتفسير والفقه الحنفي، واللغة والأدب. مع ظرف وخفّة روح، ودعابة محببة، على ما عرف لدى كثير من أهل العلم، إلى ورع واستقامة وتقوى لله تعالى، نحسبه كذلك، والله حسيبه، ولا أزكيه على الله عز وجل.

وقد تعارفنا وتلاقينا مرَّات ومرَّات في ساحات العلم، وفي ساحات الدعوة والعمل الإسلامي، في بيروت، وفي عمان، وفي السعودية، وفي الجزائر، وفي قطر وبلاد الخليج وغيرها.

ترشيحي لفضيلته لجائزة سلطان بروناي:

وقد كنت رشحته باسم المركز لجائزة سلطان بروناي، التي ينظمها مركز أوكسفورد للدراسات الإسلامية، وكانت الجائزة في خدمة السنة وعلومها، فنالها عن جدارة، بما قدّم من كتب ودراسات وتحقيقات حول السنة، حازت رضا المشتغلين بها وإعجابهم، وكانت هي أول جائزة، أعطاها له سلطان بروناي، الذي جاء إلى لندن، وقدِّم الجائزة للشيخ في حفل بهيج شهدناه، وشهده جمّ غفير من رجالات المسلمين.

أثر زيارته لمركز بحوث السنة والسيرة:

وقد كان لوجود الشيخ أثر في أبنائنا وبناتنا الموظفين والموظفات في المركز، فقد أعطاهم دروسًا منهجية في الحديث وعلومه، ولا سيما في تخريج الحديث، وفي اللغة والنحو، وقد أحبّه طلابه، وانتفعوا بعلمه الغزير، وبتجربته الثرية، وبأدبه الرفيع، ولا سيما أننا لم نوفَّق في توظيف أساتذة للمركز، كما طلبنا وتمنَّينا، ووقف الروتين عائقًا دون ذلك، وظلَّ أخونا العالم الأزهري الجليل الشيخ الدكتور موسى شاهين لاشين، هو الأستاذ والخبير الوحيد في المركز، لم يهيئ لنا الروتين الإداري الصارم أن نُعزِّزه بثان، فضلًا عن ثالث ورابع. ولم يستطع وحده أن يفعل شيئًا ذا بال. ومن هنا انتدب لتدريس الحديث في كلية الشريعة.

استجازتي من الشيخ عبد الفتاح أبو غدة:

وقد انتهزت وجود الشيخ أبو غدة في الدوحة، فطلبت منه أن يجيزني في علم الحديث، على طريقة أسلافنا في ذلك، وكنت قد أخذت إجازة قديمًا من المحدث المغربي المعروف الشيخ أحمد بن الصدِّيق الغُماري، حين زار مصر أيام عبد الناصر حوالي سنة 1957م(1).

والحقيقة أني لم أُعْنَ من قبل بطلب الإجازات من العلماء؛ وإلا لكنت أخذت من عدد من المحدِّثين الكبار الذين لقيتهم، مثل الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا «الساعاتي»، والشيخ أحمد محمد شاكر، والشيخ حبيب الرحمن الأعظمي، وغيرهم.

ولكنّي رأيت في إجازة الشيخ أبي غدة شرفًا وبركةً، لما أعتقده فيه من فضل وخير وصدق، وقد رفض أول الأمر، وقل: مثلك يُجيز ولا يُجاز، أنا الذي أطلب منك... وهذا من تواضعه رحمه الله ، ولكني أصررت على طلبي، وقلت: أنا أتبرِّك وأتشرَّف بهذه الإجازة، فلا تحرمني منها، فكتب لي هذه الإجازة بخطه، تقبَّله الله في العلماء الربانيين الصادقين:

نص الإجازة:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى تابعيهم بإحسان من العلماء العاملين من الفقهاء والمحدثين، وسائر المتّقين.

أما بعد فيقول العبد الضعيف عبد الفتاح محمد أبو غدة الحلبي منشأ ودارًا، تاب الله عليه، وغفر له ولوالديه: قد طلب مني الإجازة في الحديث الشريف وعلومه أخي وصديقي العلامة الدرّاكة الداعية الجيل، والمحدِّث الفقيه الحاذق النبيل، الأستاذ المفضال الشيخ جمال الدين أبو المحاسن يوسف عبد الله القَرَضاوي، الغني عن التعريف، حفظه الله تعالى ورعاه، ونفع به العباد والبلاد وأولاده، وهو صاحب التصانيف المفيدة الرائقة، والآثار النافعة الفائقة، الشاعر المفكر الإسلامي، الموهوب المحبوب. وهو غنيٌّ عما طلب، بما آتاه الله تعالى من العلوم الواسعة، والمواهب العالية الساطعة. فامتنعتُ أول الأمر من تلبيته، إجلالًا وتقديرًا لفضله ومنزلته؛ متى استقت البحار من الركايا؟! ولكنه أصرَّ واستمر، فأجبته إلى طلبته، فأقول:

أجزتُ أخي العلامة الجليل الشيخ يوسف القرضاوي بما أجازني به شيوخي الأجلة رحماتُ الله عليهم، في بلاد الشام ومصر والحرمين الشريفين والهند وباكستان والمغرب واليمن والعراق وغيرها من البلدان، ليكون ذلك اتصالًا منه بساداتنا المحدِّثين الكبار، وعلمائنا الأفاضل الأخيار. والإجازة لمستحقها وأهلها سنة أولئك الأئمة الأبرار.

فأجيزه بما أجازوني به، وبكل ما صحَّ لي وعني روايته وكتابته، ليتصل سنده بسندهم، ويكون في سلك قافلتهم، وتنالني دعواتهم الصالحة. وأوصيه ونفسي - كما أوصاني شيوخي وأساتذتي - بتقوى الله تعالى في السرِّ والعلن، والتوقير لأهل العلم والدين، والسلف الصالحين، وأن يكون خير مُعلّم لمن يتعلَّم منه العلم والدين، رحمةً وشفقة وأمانة وورعًا وإتقانًا في التوقيع عن ربِّ العالمين، والله وليُّ المتقين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

في الدوحة من قطر يوم الثلاثاء 4 من ذي الحجة سنة 1413هـ

وكتبه

الفقير إلى الله تعالى

عبد الفتاح أبو غدة

...............

(1) وقد أصدر لي تلميذي المحب المحدث المحقق محمد أكرم الندوي ثبتًا سماه: «كفاية الراوي في إجازة الشيخ يوسف القرضاوي». وقد طلبت - لكثرة المستجيزين - من أنجب تلاميذ الشيخ عبد الفتاح أبو غدة العالم المحقق المحدث الشيخ محمد عوامة أن يجيزني، وألححت عليه في الطلب فأجازني إجازة موسَّعة.