في هذه الفترة «يونيو 1993م» ظهر كتابي «ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده» في (400) صفحة. وهو يتكوّن من أحد عشر فصلًا، تشمل كل مكوّنات هذا المجتمع بدءًا بـ «العقيدة والإيمان» التي هي أساس هذا المجتمع، ومرورًا بالعبادات والشعائر، ثم الأفكار والمفاهيم ... المشاعر والعواطف... الأخلاق والفضائل... الآداب والتقاليد، القيم الإنسانية... ثم التشريع والقانون... الاقتصاد والمال... اللهو والفنون، وختامًا: المرأة في المجتمع المسلم.

الإنسان مدنيّ بطبعه:

وقد بينت في مقدمة الكتاب: أن الإنسان كما قال القدماء: مدني بطبعه، وكما قال المُحَدّثون: حيوان اجتماعي. أي: أنه لا يستطيع أن يعيش وحده، بل لا بد أن يتعاون مع غيره، حتى تستقيم حياته، وتتحقق مطالبه، ويستمر نوعه. وقد قال الشاعر العربي:

الناس للناس من بدو وحاضرة      بعضهم لبعض -وإن لم يشعروا- خدم!

والإسلام لا يصور الإنسان كائنًا يعيش وحده، إنما يصوّره في مجتمع؛ ولهذا توجَّهت التكاليف إليه بصغية الجماعة: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ}. ولم يجئ في القرآن «يا أيها المؤمن»؛ وذلك أن تكاليف الإسلام تحتاج إلى التكاثف والتضامن في حملها والقيام بأعبائها. يستوي في ذلك العبادات والمعاملات.

فإذا نظرنا إلى فريضة كالصلاة وجدنا أنها لا يمكن أن تقام كما يريد الإسلام، إلا بمسجد يتعاون المجتمع على بنائه، ومؤذن يعلن الناس بمواقيت الصلاة، وإمام يؤمهم، وخطيب يخطبهم، ومعلم يعلمهم، وهذا كله لا يقوم به الفرد، وإنما ينظمه المجتمع.

وقد جعل القرآن أول أعمال الدولة المسلمة إذا مُكّن لها في الأرض: أن تقيم الصلاة، كما قال تعالى: {ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ} [الحج: 41].

ومثل ذلك يقال في فريضة الصوم، وضرورة ترتيب أمور الحياة في رمضان ترتيبًا يعين على الصيام والقيام والسحور وغيرها.

ومن باب أوْلى: الزكاة، فالأصل فيها أنها تنظيم اجتماعيّ تشرف عليه الدولة، بواسطة {وَٱلۡعَٰمِلِينَ عَلَيۡهَا} الذين نصّ عليهم القرآن [التوبة: 60]. وكذلك كل شعائر الإسلام وأركانه.

أما الأخلاق والمعاملات فلا يتصور أن تقوم - كما ينشدها الإسلام - إلا في ظلال مجتمع ملتزم بالإسلام، يتعبد لله بإقامة حياته على أساس الإسلام.

وقد علّم الإسلام المسلم أن يقول إذا ناجى ربه في صلاته: {إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ} [الفاتحة: 5]. فهو يتكلم بلسان الجماعة، وإن كان وحده، وكذلك إذا دعا ربه دعا بصيغة الجمع: {ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] ... فالجماعة حيّة في وجدانه، حاضرة على لسانه.

والمجتمع المسلم مجتمع متميّز عن سائر المجتمعات بمكوناته وخصائصه، فهو مجتمع رباني، إنساني، أخلاقي، متوازن.

أهمية إقامة المجتمع المسلم:

والمسلمون مطالبون بإقامة هذا المجتمع، حتى يمكِّنوا فيه لدينهم، ويجسّدوا فيه شخصيتهم، ويحيوا في ظلّه حياة إسلامية متكاملة: حياة توجّهها العقيدة الإسلامية، وتزكّيها العبادات الإسلامية، وتقودها المفاهيم الإسلامية، وتحرّكُها المشاعر الإسلامية، وتضبطها ا لأخلاق الإسلامية، وتجمّلها الأداب الإسلامية، وتهيمن عليها القيم الإسلامية، وتحكمها التشريعات الإسلامية، وتُوجّه اقتصادها وفنونها وسياستها: التعاليم الإسلامية.

تصوير خاطئ للمجتمع المسلم:

فليس المجتمع المسلم، كما يتصوره أو يصوّر كثيرون - هو فقط - الذي يطبق الشريعة الإسلامية في جانبها القانوني، وخصوصًا جانب الحدود والعقوبات، فهذا تصور وتصوير قاصر، بل ظالم لهذا المجتمع، واختصار لكلّ مقوماته المتعددة في مقوم واحد هو التشريع، وفي جانب واحد من التشريع هو التشريع الجزائي، أو الجنائي.

لهذا كان من المهم هنا: إلقاء الضوء على المكوّنات أو الملامح الأساسية لهذا المجتمع الذي ننشده، والذي قامت حركات وجماعات إسلامية في شتى أنحاء العالم العربي والإسلامي تدعو إليه، ليحل محل المجتمعات الحاضرة، التي اختلط فيها الإسلام بالجاهلية، سواء أكانت جاهلية وافدة، مما غزانا به الاستعمار الغربي بشقيه: الرأسمالي والاشتراكي، أم جاهلية موروثة، من رواسب عصور التخلف، التي ساء فيها فهم المسلمين لدينهم، كما ساء تطبيقهم له، حكامًا ومحكومين.

وقد صَدَر لي كتاب منذ سنين، هو: «غير المسلمين في المجتمع الإسلامي» وهو في الحقيقة جزء من هذا الكتاب. وقد تقدَّم الحديث عنه في المذكرات.

رسائل ترشيد الصحوة

اقترح عليّ عدد من الإخوة القريبين مني، المعنيين بإنتاجي الفكري، أذكر منهم الإخوة الكرام: عبد الحليم أبو شقة، وعبد العظيم الديب، وعصام البشير، أن أستل بعض الفصول في الموضوعات المهمّة من كتبي الكبيرة، لتصدر في صورة «رسائل صغيرة» يسهل شراؤها واقتناؤها، ويسهل قراءتها واستيعابها.

وكان كتابي «ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده» قد صدر حديثًا، وهو يشمل موضوعات على جانب من الأهمية للقارئ المسلم، مثل موضوع «الردة» وموضوع «المرأة» وموضوع «الفنون»، ونحوها.

وهناك موضوعات في كتب الفتاوى، مثل موضوع النقاب وغيره تحتاج إلى أن تفرد في رسالة، ليقرأه عشرات الألوف من الناس الذين قد لا تتاح لهم قراءة الكتاب الكبير.

وقد اقتنعت بهذه الفكرة، وبدأت أنفذها بإصدار سلسلة عنوانها: «رسائل ترشيد الصحوة» بدأتها بفصل استللته من كتابي «بيانات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين»، وهو فصل «الدين في عصر العلم».

ثم جعلت الرسالة الثانية بعنوان: «الإسلام والفن»، وهي فصل انتعزته من كتابي «ملامح المجتمع المسلم» بعد أن نقحته وأضفت إليه.

وبعض هذه السلسلة: رسائل أو كتب جديدة ألفتها لها، مثل: «المبشّرات بانتصار الإسلام»، «مستقبل الأصولية الإسلامية»، «القدس قضية كل مسلم»، «حاجة البشرية إلى الرسالة الحضارية لأمتنا»، «البابا والإسلام» وغيرها.

وقد وصلت حتى كتابة هذه المذكرات (فبراير 2008م) إلى ست عشرة رسالة.