من الأنشطة التي قمت بها في تلك السنة: المحاضرات التي دعتني إليها الجامعات المختلفة في العاصمة، وفي قسنطينة، وربما في غيرها في بعض الأحيان، وكذلك اللقاء للطلاب والطالبات في مساكنهم الجامعية، وخصوصًا الطالبات.

ومما أذكره: أني التقيت تجمّعًا حاشدًا للطالبات في قسنطينة، تجمع فيه طالبات أكثر من جامعة، وقد ذكرني بلقاء مشابه كان معهن في العام السابق.

إجابتي عن حكم حضور الطالبات الحاسرات الرؤوس:

وكان من الوقائع التي لا أنساها في المرة السابقة: أن سؤالًا قدّم إلى من بعض الطالبات الملتزمات: ما رأيك في الطالبات اللاتي يشهدن هذه المحاضرة الإسلامية، وهنَّ حاسرات الرءوس، وربما كاشفات عن أجزاء أخرى من الجسد كالذراعين والساقين. وكأنَّ السائلة كانت تتوقَّع مني أن أقول: هؤلاء المتكشِّفات المتبرجات في جهنم، ولا يجوز لهنّ حضور هذه المحاضرة، والواجب عليكنّ، أن تمنعوهن!! إلى غير ذلك، مما قد يقوله بعض الدعاة. أما أنا فلا أقوله. ولهذا اتجهت بالجواب وجهة أخرى، وقلت: إنَّ حرص هؤلاء الطالبات على شهود هذه المحاضرة، والاستماع إليها: دليل على أن جذوة الإيمان في قلوبهن لم تنطفئ تمامًا، وأن الإيمان لا يزال له حضور عندهن. وما من واحدة فيكنّ إلا مرّت عليها فترة لم تكن فيها محجبة، ثم شرح الله صدرها للالتزام بالحجاب: {كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبۡلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ} [النساء: 94]. وما يدريك - أيتها الأخت السائلة - لعل شهود هذه المحاضرة يحفز أختك هذه إلى التحجب، وعسى أن تريها في المرة القادمة مثلك وقد تسبقك، والهدى هدى الله.

حين أجبتُ بهذا الجواب: رأيت بعض الفتيات تغرورق أعينهم بالدموع. وهذا من دلائل الإيمان. هذا ما كان في المرة السابقة. أما في هذه المرة، فقد أقبل عليَّ بعض الطالبات المحجّبات، وذكّرنني بما قلته في تلك الليلة، وأنّ هذه الكلمات هزتهنّ من الأعماق، وبعدها قرّرن الامتثال لما أمر الله، وارتداء الحجاب مختارات، وقد كنّ قبل غير ملتزمات.

خطب الجمعة في مسجد الأبيار:

ومما لا أنساه من ألوان النشاط في تلك السنة: خطب الجمعة، فقد ألقيت عددًا من الخطب في عدد من المساجد، نسيت أسماءها، بعضها في قسنطينة، وبعضها في العاصمة. أذكر منها مسجد «الأبيار» وقد تجمًّع فيه عشرات الآلاف. حتى حدثني سفير قطر في الجزائر السيد «أحمد العسيري»: أن ابنه ذهب في الساعة الحادية عشرة، أي قبل الصلاة بساعتين، ليجلس بجوار المنبر، ليكون أول من يصافح الشيخ يوسف بعد الصلاة، فهو يرى نفسه أحق بالشيخ من غيره. قال السفير: ولكنه حين ذهب وجد المسجد ممتلئًا على بكرة أبيه، وليس فيه موطئ لقدم، بحيث لم يجد سبيلًا للدخول فيه. وصلى في الساحة مع الألوف الأخرى من المصلين، الذين ضاقت بهم الميادين والشوارع.

مسجد الشيخ جراح:

ومنها: مسجد الشيخ جراح، وأظن أنه من ثلاثة طوابق، امتلأت طوابق المسجد، وامتلأت ساحاته والميادين التي حوله، والطرق المؤدية إليه، وتعطّلت المواصلات، وقدَّر بعض الإخوة الحضور بأكثر نم مائرة وخمسين ألفًا ... وتكرر هذا أكثر من مرة، وذكر بعض شهود العيان: أن الأعداد لا تقل عن مائتي ألف.

صحوة هائلة:

لقد كانت الصحوة في الجزائر صحوة هائلة، لم أجد لها نظيرًا، حتى إنها فاقت الصحوة في مصر التي انطلقت منها الشرارة الأولى لهذه اليقظة.

وما زلت أذكر مشهدًا لم يبرح ذاكرتي، وهو مسجد صليت فيه المغرب مصادفة يومًا ما، أدركنا الوقت ونحن بقربه، فاقترح الأخ المرافق لي أن نعرج على هذا المسجد، لنصلِّي فيه. وكنت على وضوء، فنزلنا قبيل الأذان بقليل، وإذا بي أرى جموع الشباب، يتدفّق من كل جهة كالسيل العرم، على المسجد... منظر يسر قلوب المؤمنين، ويغيظ الكفار والذين في قلوبهم مرض. وامتلأ المسجد وكأننا في صلاة جمعة!

وقد رآني المصلون، فطلبوا مني أن أقول فيهم كلمة، ولم أتأخر عن إجابتهم، وقد أثّر في المشهد غاية التأثير. إن هذه الأمة لا يزال فيها الخير، ولا يزال الإيمان هو المحرك الأول لها إذا وجدت من يحركها باسم الله.

مسجد الأرقم:

وبعض المساجد لم يتح لي أن أخطب فيه، ولكن سعدت بإلقاء محاضرة فيه، مثل مسجد الأرقم الشهير، الذي كان إمامه وخطيبه الأخ الداعية الشيخ محمد سعيد الذي استشهد في أحداث فتنة الجزائر، وقد قدَّمني بكلمة طيبة. رحمه الله وغفر له.

توتُّر العلاقات بين الإسلاميين بعضهم وبعض:

كان الجو في الجزائر متوترًا بين الإسلاميين ببعضهم وبعض، وهذا مما يؤسف له، ولا سيما بين الفصيلين لكبيرين: الجبهة الإسلامية للإنقاذ «الشيخ عباس مدني وجماعته»، وحركة المجتمع الإسلامي: حماس «الشيخ محفوظ نحناح وجماعته».

وقوفي على الحياد بين الجماعات:

وقد التزمت أن أكون على الحياد بين الجماعات كلها، فلا أُحسب على واحدة منها، وإنما أكون للجميع، ومع الجميع، أنصح لهم، ولا أضنّ عليهم بمشورة، وأراهم جميعًا إخواني وأحبائي، وإن اختلفت مع بعضهم في الرأي الفقهي أو السياسي، فمن حق الناس أن يختلفوا في أمور الاجتهاد، ومن واجبهم أن يتسامحوا فيما يختلفون فيه، أو يتحاوروا حوله، وأن يتعاونوا في المجالات المتفق عليها، وما أكثرها.

دعاني الإخوة في حماس مرة إلى أن أشاركهم في تجمُّع ضخم دعوا إليه، وحضره عشرات الألوف، لألقي كلمة في الجماهير، فاعتذرت إليهم: بأن هذا التجمُّع له طابع سياسي وانتخابي، ولا ينبغي لمثلي أن يدخل في هذا المعترك بين الفئات المتنافسة بعضها وبعض. وأنا أوثر أن أكون للجزائريين جميعًا، لا لفصيل منهم دون فصيل.

أعتقد أنهم فهموا عني، وتقبلوا مني. ولا يسعني غير هذا.

وكان التنافس بين الفريقين قد وصل إلى مرحلة الصراع، مع أن الأهداف واحدة، ولكن الأساليب تختلف، والشخصيات أيضًا تختلف، وكل ميسر لما خلق له.

محاولات للتقريب والإصلاح بين جبهة الإنقاذ وجماعة حماس الجزائرية:

حاولت جاهدًا أن أقرب بين الفريقين، ولا أقول: أوحد بينهما، فالتوحيد غير ممكن في تلك الظروف، وأنا لا أرى مانعًا من تعدّد الجماعات الإسلامية، كما ذكرت ذلك في عدد من كتبي، ولا أوافق على فكرة: ضرورة توحيد الحركات الإسلامية، لنصبح حركة واحدة. لا مانع من التعدد والاختلاف إذا كان تعدد تخصّص، واختلاف تنوع، لا اختلاف تضاد أو تناقض، أو صراع.

إن توحيد الجماعات والحركات يقتضي أن يتفقوا في الأهداف، وفي ترتيبها، وأن يتفقوا في الوسائل والآليات والمناهج لتحقيقها. وأن يتفقوا على الأشخاص الذين يقودونهم. وهذا أمر يصعب تحقيقه.

لذا يكفينا التفاهم والتعاون والتنسيق بين بعض الحركات وبعض، وأن يقفوا في القضايا المصيرية صفًا واحدًا، مهما يكن بينهم من خلاف في الجزئيات، كما أشار إلى ذلك القرآن بقوله: {إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِۦ صَفّٗا كَأَنَّهُم بُنۡيَٰنٞ مَّرۡصُوصٞ} [الصف: 4]، أي: عند المعركة ومواجهة العدو، يجب أن يتلاحم الجميع في جبهة واحدة، وصف متراص.

لهذا كانت محاولاتي مع إخواننا الإسلاميين في الجزائر تقوم على التقريب لا على التوحيد، على الأقل: أن يكفّ كل فريق لسانه عن الآخر، وأن يدع له المجال ليعمل على طريقته، فالميدان فسيح، ويتسع للجميع.

دعوة الأخوين: عباس ومحفوظ:

وقد سعيت مرة على دعوة الأخوين الكريمين: الشيخ عباس والشيخ محفوظ، إلى فندق الأوراسي الذي أقيم فيه، رغبة في الإصلاح والتقريب، فاستجابا للدعوة، وحضرا عندي، وبحضور الأخ الكبير: الداعية والشاعر والدبلوماسي المعروف الأستاذ عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله .

وبدأت اللقاء بكلمة إيمانية، لترطيب القلوب بالمعاني الربانية، وتذكير الجميع بالدار الآخرة، وأن مقصدنا جميعًا هو رضا الله تعالى، لا مال ولا جاه ولا منصب، وأن أساس العلاقة بين الجميع يجب أن يكون هو الأخوة والحب في الله الذي يصحب أهله يوم القيامة: {ٱلۡأَخِلَّآءُ يَوۡمَئِذِۢ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوٌّ إِلَّا ٱلۡمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67].

قال الشيخ عباس: نحن أصحاب الحق، ويجب أن يخلوا الطريق لنا، فنحن الذين أخذنا زمام المباردة، وأسّسنا أول حزب إسلامي في الجزائر، فعليهم أن يفسحوا لنا الطريق، ولو كانوا هم الذين سبقوا وبادروا لفعلنا نحن ذلك.

قلت: يا شيخ عباس أنتم أخذتم زمام المبادرة، مشكورين ومأجورين إن شاء الله، ولكنهم موجودون على الساحة السياسية قبل إنشاء الحزب وبعده.

قال: موجودون، ولكن لا يعرفهم أحد.

وبدأ النقاش يحتد، والمنطق يغيب، وحاول الأستاذ الأميري بطريقته الدبلوماسية أن يُهدئ الجو الذي اكفهر وتلبّد بالغيوم.

وقلت: يا أخوتنا إن التقارب والتفاهم لا يمكن أن يتم إذا ظلَّ كل فريق مصرًا على موقفه متشبثًا به، لا يتزحزح قيد أنمله عنه. إن الرسول الكريم علمنا في تسوية صفوف الجماعة: مبدأ مهمًا يتمثل في قوله صلى الله عليه وسلم : «لينوا بأيدي إخوانكم»(1)... فعند تسوية الصفوف لا بد أن يلين المصلي في الجماعة في يد إخوانه، بحيث يتقدم هذا قليلًا ويتأخر هذا قليلًا، حسب الحاجة، حتى يستقيم الصف، أما إذا وقف كل مصلّ متخشبًا في موقعه، لا يريد أن يتحرك ولا أن يلين، فلا يمكن أن يستوي الصف أبدًا.

يا قومنا إن كنائس النصارى على اختلاف مذاهبهم التي يعتبر كل واحد منها أنه دين مستقل: يتقارب بعضهم مع بعض، بل إنّ النصارى حاولوا الاقتراب من اليهود - وهم أعداء تاريخيون لهم - فأصدروا وثيقة تبرئهم من دم المسيح عليه السلام. فلماذا نظل نحن المسلمين يصارع بعضنا بعضًا مع تحذير كتاب ربنا وسنة نبينا لنا من التفرق فيما بيننا؟!

وبعد قيل وقال: انصرف الجميع دون أيَّ حد أدنى من الاتفاق.



تشدُّد جماعة الإنقاذ:

وكان الطرف المتشدُّد منهم هم إخواننا في جبهة الإنقاذ ... كانوا يرون أنَّ الحقَّ لهم وحدهم، وأن الميدان يجب أن يفرغ لهم، وأنَّ على الجميع أن يتنحوا من طريقهم. وهذا منطق لا يقبل، لا في ميزان الشرع، ولا في ميزان السياسة.

قبول التعددية السياسية:

والتعددية السياسية مقبولة شرعًا، وقد كتبت في ذلك بتوسّع وبرهنت عليه. وقلت: إن تعدد الأحزاب في السياسة يشبه تعدّد المذاهب في الفقه، فالأحزاب مذاهب في السياسة، والمذاهب أحزاب في الفقه.

وأشرت إلى أن سيدنا عليّا رضي الله عنه: أقرّ وجود حزب الخوارج في عهده، مع أنّ لهم مبادئ لا يقرهم عليها، وهي مناهضة له ولمفاهيمه ولسياسته، ومع هذا اعترف بوجودهم ومشاركتهم في الحياة الدينية والجهادية والسياسية، ما لم يبدءوا المسلمين بقتال.

غلبة النزعة الظاهرية على جهة الإنقاذ:

ولكن إخوتنا في الإنقاذ كانت لهم رؤى واجتهادات في السياسة الشرعية، لا يوافقهم عليها غيرهم، وهي مؤسَّسة أحيانًا على استدلالات خاطئة. وتغلب عليها النزعة «الظاهرية» التي تنظر إلى حرفية النصوص، لا إلى التعمُّق في مقاصدها.

وذلك أن «جبهة الإنقاذ» لم تكن جماعة واحدة، ولا تمثّل فكرًا واحدًا، فهي جبهة ضمّت عناصر مختلفة، بعضهم من السلفيين، وبعضهم من الجهاديين، وربما بعضهم من التكفيريين، وانضمّت إليها بعض النخب من تلاميذ مالك بن نبي «ممن يسمونهم دعاة الجزأرة» ومعهم أفراد من الإخوان، كما انضمت إليهم جماهير غفيرة لا انتماء لها، لكنها وجدت حزبًا رفع شعار الإسلام فدخلت فيه.

موقفهم من الديمقراطية:

وكانت تصدر من بعض أعضاء جبهة الإنقاذ: تصريحات مثيرة تستفزّ الناس، مثل قول بعضهم عن الديمقراطية: إنها كفر! وهي مجازفة خطيرة، وقد سمعت هذا الكلام، وأنا في الجزائر، ورددت عليه في حينه، ثم رددت عليه في كتابي «فتاوى معاصرة»(2).

ومثل قول بعضهم: «لا تحالف في الإسلام» تعليقًا على ما نادى به الإخوة في «حماس» من ضرورة عمل «ميثاق وطني إسلامي» يتحالف عليه من شاء من الأحزاب. فردوا عليهم بحديث «لا حلف في الإسلام»(3) وهو حديث صحيح، لكنه وضع في غير موضعه، فقد تحالف الرسول مع خزاعة بعد صلح الحديبية(4)، وكان منهم مسلمون ومشركون.

وقد نسبوا إليهم أنهم قالوا: إذا وصلنا إلى الحكم، فلن نسلمه لغيرنا أبدًا. وإنما نتخذ الديمقراطية سُلمَّا للوصول، فإذا وصلنا ألغينا الديمقراطية ... وقد سمعت بنفسي الشيخ عباس ينفي هذا في لقاء معه في تلفزيون الجزائر.

الشيخ علي بن الحاج:

ولكن الشيخ عباس لم يكن هو وحده المتحدِّث باسم جبهة الإنقاذ، لعله هو المتحدِّث الرسمي، لكن هناك متحدثًا شعبيًّا، ربما كان أقوى منه صوتًا، وأوسع منه جمهورًا، ذلكم هو نائبه الشيخ علي بن الحاج، وهو يمثّل الاتجاه السلفي بمزاياه وعيوبه. وهو مُحبَّب عند الجماهير بلغته الهجومية على النظام الحاكم، والجماهير في بلادنا العربية تتعلق بكل من يهاجم الحكام، لأنه يشفي شيئًا من غليلهم، فيما يضمرونه من كراهية لهم وثورة عليهم.

لم أر الشيخ علي بن الحاج في الجزائر، ولكنّي رأيته مرة مصادفة في مطار جدة وصافحني بحرارة، ولكن لم يقدّر لي أن أقابله في الجزائر، إذ كان هو الذي يجب أن يسعى إلي باعتباري ضيفًا عليه. ويبدو أن تتابع الحداث وشدّتها وضغطها هو ما حال بينه وبين لقائي.

وفي اعتقادي أنه رجل مخلص، ولكن ينقصه ما ينقص كثيرًا من السلفيين من التعمُّق في فقه المقاصد، وفقه المآلات، وفقه الموازنات، وفقه الأولويات، وفقه الاختلافات، وقبل ذلك كله: فقه الواقع والعصر الذي يعيش فيه، وهو الفقه الذي ركزنا على الدعوة إليه، وإلى تأصيله وتعميمه في حياتنا الآن، وخصوصًا بين أهل العلم فيها.

السفر إلى قطر لقضاء رمضان فيها:

واقترب شهر رمضان، كان لا بدَّ لي من أن أودِّع الجزائر مؤقتًا، لأذهب إلى قطر، لأقضي شهر رمضان في الدوحة بين أسرتي، وفي مسجدي ومع جمهوري الذي ينتظرني، فليس ممكنًا أن أقضي شهر رمضان في غير قطر، حدث ذلك مرة واحدة، حين أجريت عملية الانزلاق الغضروفي في ألمانيا في رمضان 1405 هـ، يوليو 1985م.

لذلك استأذنت الإخوة في الجزائر في السفر إلى الدوحة، وقالوا لي: كم كنا نتمنّى أن نصلي وراءك التراويح، ونستمتع بسماع القرآن منك، قلت: أنا أقرأ برواية حفص، وأنتم تقرءون برواية ورش، وكل مسجد له إمامه الذي اعتاد الناس أن يصلوا خلفه. ثم إني يشقّ عليّ أن أتخلف عن الجمهور الذي يصلّي معي منذ نحو ثلاثين عامًا، وقد ألفني وألفته، فأستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، وإلى لقاء آخر بعد رمضان إن شاء الله.

رمضان في رحاب الدوحة:

وقضينا رمضان في رحاب الدوحة، بما له من واجبات معهودة: درس العصر في مسجد الأمير الشيخ خليفة وبحضوره، وقد سألني عن حالي في الجزائر، فطمأنته عليه، وصلاة التراويح بجزء من القرآن، ودرس التراويح بعد الأربع ركعات الأولى، حيث نُصلِّي التراويح ثماني ركعات على ما اخترناه من قديم، ممَّا هو ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع الشفع والوتر، وإن كنت لا أنكر على من صلى عشرين. فلم يأت نصٌّ بتحديد العدد في صلوات التراويح، والعشرون مأثورة من عهد عمر رضي الله عنه. وقد سار عليها أئمة الحرمين الشريفين إلى اليوم.

ملتقى الفكر الإسلامي بالعاصمة عن الاقتصاد الإسلامي:

وفي فترة وجودي في الجزائر، في شهر إبريل عُقد الملتقى الخامس والعشرون عن «الاقتصاد الإسلامي»، وكانت الملتقيات قبل ذلك تعقد في الإجازة الصيفية، ولكن قضية غزو الكويت، قد شغلت الأمة عن كل نشاط ثقافي أو فكري، وغرقت الأمة إلى أذقانها في متابعة الأحداث الدامية والمؤسفة.

لا أذكر ماذا حدث في هذا الملتقى مع أنه يتعلق بموضوع أنا من المتخصصين فيه ولي فيه جملة من الكتب.

كتابي «مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية»

ومن أهم ما صدر لي في تلك المرحلة (سبتمبر 1990م) وما بعدها. كتاب «مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية» وهو أحد المداخل العلمية الضرورية لمن يريد أن يتخصَّص في دراسة الشريعة الإسلامية. وهو غير «المدخل لدراسة الفقه الإسلامي»... لأن الحديث عن الشريعة غير الحديث عن الفقه.

وفي هذا الكتاب عن الشريعة بدأت بفصل عن الشريعة وعلاقتها بالشرائع السابقة «اليهودية والنصرانية» وبالفقه والقانون. كما تحدثت عن مصادر الشريعة المعصومة، وهي تتحدّد في: القرآن الكريم والسنة النبوية، ثم كلمة سريعة عن المصادر الأخري، وكذلك تحدثت عن «المقاصد العامة للشريعة» من حيث تحقيقها لمصالح الخلق، ودرؤها المفاسد عنهم.

كما تحدّثت عن خصائص الشريعة، التي تجسّدت في: الربانية والأخلاقية والواقعية الإنسانية والتناسق والشمول. وكذلك تحدثت عن عوامل السعة والمرونة في الشريعة، وهي خمسة عوامل: فصّلتها.

وأضفتُ فصلًا عن الشريعة في مجال التطبيق، وفصلًا آخر عن شروط النجاح لتطبيق الشريعة. ثم خاتمة في تقنين الشريعة الذي بدأ منذ ظهور «مجلة الأحكام» في أواخر العهد العثماني، ثم حدث فيه اختلاف، بين من يوجبه ومن يمنعه، وذكرت مخاوف بعض العلماء من التقنين. ثم بيَّنت الاعتبارات التي تُرجِّح التقنين. ثم وضحت ملامح التقنين الشرعي الذي ننشده.

وهذا المدخل للشريعة، غير المدخل للفقه كما سبق، فهذا يعني أن نتحدّث عن معنى الفقه ونشأته ومذاهبه، ما بقي منها وما انقرض، والفقه غير المذهبي، وتاريخ الفقه وتطوره من عصر إلى عصر، بين الاجتهاد والتقليد، وقواعد هذا الفقه، وكتبه، ومحاولات تجديد الفقه في عصرنا، ومجامع الفقه الحالية ودورها.

وقد كتبت هذا الكتاب ليقدّم لطلاب كلية الشريعة في جامعة قطر، أو لطلاب الدراسات الأدبية العامة. وكان تأليفه أو تمام تأليفه في الجزائر حين أعرت إليها من قطر في السنة الدراسية سنة 1990 - 1991م. ومن هناك أرسلته مع أحد الإخوة المسافرين ليسلِّمه إلى مكتبة وهبة، ولكن الأخ حدثت له ظروف أخرته عن إيصال الكتاب في موعده، حتى خشيت على الكتاب من الضياع. وربما لم يكن عندي صورة كاملة منه. وهذه مصيبة كبيرة لا يعرفها إلا من يعاني في تأليف الكتب حتى تكتمل وتتهيأ للطباعة والنشر.

والحمد لله، لقد طبع الكتاب ورأى النور، وقُرِّر في كلية الشريعة في قطر، كما قررته بعض الكليات في بلاد شتّى، منها: الكلية الأوربية الإسلامية وغيرها.

وهو كتاب صالح لأن يكون ضمن مكتبة المثقف المسلم العادي، فقد تجنّبت فيه وعورة المصطلحات، وغوامض المفاهيم، والعبارات القديمة التي لا يفهمها إلا المتخصّصون. وهو ما أحمد الله تعالى على أني أحسنته، واعتبرته من نعم الله تعالى وفضله عليّ. فله الحمد والمنة.

ندوة الإمام الشاطبي

التربية عند الشاطبي:

كما عقدت في شهر مايو من تلك السنة (1991 م) ندوة عن الإمام الشاطبي. وقد كُلِّفت بأن أكتب بحثًا عن الإمام الشاطبي، فوعدتهم أن أكتب عن «التربية عند الشاطبي»؛ إذ الموضوعات الأصولية والفقهية سنجد كثيرين يكتبون عنها، ولكن ربما كان موضوع التربية يغفل عنه كثيرون.

وقد تنبّهت إلى هذا الموضوع حين كنا نقرأ «الموافقات» في السجن الحربي، وقد صحبته معي، وبدأت أقرأ فيه، فوجدت في المقدمات العلمية التي قدم بها لكتابه: نظرات تربوية أصيلة، تتفق مع أحدث نظريات التربية.

وزاد ذلك تأكيدًا عندي: أن المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بالأردن «مؤسسة آل البيت للفكر الإسلامي الآن»: كان قد طلب إليّ منذ سنوات أن أكتب عن الشاطبي «مربيًا» ضمن عدد من رجال التربية في التراث الإسلامي، ولم تمكِّنّي الظروف والمشاغل المتكاثرة من أن أستجيب لطلب المجمع، فاعتذرت لهم آسفا، وبقي الموضوع في ذهني.

فلما كانت هذه الندوة، وجدتها فرصة لإحياء الفكرة القديمة، والبحث عنها في تراث الإمام الذي عرف بالأصول والمقاصد، ولم يعرف بالتربية.

اهتمام الشاطبي بأركان التربية في مقدْمات الموافقات:

ورجعت إلى مقدِّمات الموافقات، فوجدته قد اهتم بكل أركان التربية: من المادة العلمية، والأستاذ الذي يعلمها، والطريقة التي يوصل بها مادته، والطلاب الذين يتلقون هذه المادة، والكتاب الذي ينظر فيه هذه المادة. وسطرت هذه المعاني في بحثي أو محاضرتي، التي ألقيتها في هذه الفترة، واستحسنها الحاضرون، وعقّب عليها المعقبون.

وقد علمت من تعقيباتهم: أن الغربيين قد اهتموا بهذا الجانب من جوانب الشخصية العلمية الشاطبية. ولم يغفلوا عنه، وإن ذكر بعض المعقبين أني قد استوعبت في بحثي نقاطًا لم يلتفتوا إليها.

وأنا في الحقيقة لم أقرأ ما كتبه الغربيون أو المستشرقون عن هذا الموضوع في حياة الشاطبي العلمية، ويبدو أنه لم يترجم إلى العربية، أو تُرجم ولم أطلع عليه. وكنت أحبُّ أن أطلع عليه، لأعرف فيم وافقتهم، وفيم خالفتهم. وأستفيد من نظراتهم وتحليلاتهم حول الموضوع، فالحكمة ضالة المؤمن، يلتمسها من أي وعاء خرجت.

..................

(1) رواه أحمد (5724)، وقال مخرجوه: إسناده صحيح عن عبد الله بن عمر.

(2) انظر: «فتاوى معاصرة» (2/636 - 651) نشر دار القلم.

(3) رواه مسلم في فضائل الصحابة (2530) عن جبير بن مطعم.

(4) وقد رددت على هذا الاستدلال في «فقه الجهاد» (ص 905، 906).