مركز دراسات المستقبل الإسلامي:

في شهر مايو سنة 1990م انعقدت بالجزائر ندوة حول «قضايا المستقبل الإسلامي» دعا إليها الكاتب الصحفي المعروف محمد الهاشمي الحامدي، الذي أسّس في لندن مع جماعة من المفكرين والمهتمين «مركز دراسات المستقبل الإسلامي» بالتعاون مع معهد الدراسات الإستراتيجية بالجزائر، الذي كان يديره الأستاذ محمد يزيد.

وكان الحامدي قد لقيني منذ أشهر في أمريكا في مدينة واشنطن، حيث نزلت ضيفًا على الإخوة في المعهد العالمي للفكر الإسلامي، بعد مشاركتي في مؤتمر رابطة الشباب المسلم العربي السنوي. وقد أقمت أيامًا بينهم، اجتمعت فيها بقياداتهم وبأبرز العاملين في المعهد، على عادتي كلما مررت بواشنطن.

أخبرني الحامدي عن مركزه في لندن، وعن نيَّته في عقْد الندوة، وقال: إني سأدعو إليها عددًا ممن تحبُّهم ويحبُّونك من المفكرين الإسلاميين - وغير الإسلاميين أيضًا - من مصر والسودان وبلاد الشام والمغرب العربي، ولكي يغريني بالحضور، قال: إن الندوة ستقام بالبلد الذي تحبه ويحبك: الجزائر.

اهتمامي بترشيد الصحوة الإسلامية:

وطلب الحامدي إلي أن يكون بحثي في هذه الندوة عن «أولويات الحركة الإسلامية في العقود الثلاثة القادمة» لما رآني شديد الاهتمام بما أسميته «فقه الأولويات» الذي ركّزت عليه، وكرّرت الحديث عنه في السنوات الأخيرة، ثم أّلفت فيه كتابًا بعد ذلك، وهو جزء من اهتمامي بترشيد الصحوة الإسلامية، وتسديد الحركة الإسلامية، فهذا همّي الأكبر، وما أعظمه وأثقله من همّ أدعو الله تعالى أن يوفقني ويعينني على القيام بحقه، فلا حول ولا قوة إلا به، وهو المستعان في كل عظيمة.

أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة:

ولم يسعني إلا أن أستجيب لهذه الدعوة، وأعددت بحثي الذي جعلت عنوانه: «أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة»، ولم أشأ أن أتقيد بـ «العقود الثلاثة» كما طلب مني: لأني لا أستريح لمثل هذا التحديد الصارم، في هذا الزمن السريع التغيّر، الحافل بالمفاجآت الكبيرة.

وما كتبته في هذا البحث ليس جديدًا كل الجدة، إنما هو امتداد وتكملة للاتجاه النقدي البنَّاء، الذي بدأته من قبل، في «الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا؟»، و«الحل الإسلامي فريضة وضرورة»، و «ظاهرة الغلو في التكفير»، و«أين الخلل؟»، و«الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف» و«الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي الإسلامي» وغيرها.

ولقد ألقيت خلاصة بحثي شفهيًا على المشاركين، وقد وقع موقع القبول منهم ولا سيما ما يتعلَّق بنقد الحركة الإسلامية... وكان ممن أثنى عليه شيخنا الغزالي الذي أمتعنا ببحثه قبل هذا، والدكتور توفيق الشاوي، وعدد من الإخوة المفكرين المشارقة. أما المفكر المغربي المعروف المهدي المنْجَرَة، فأطال الثناء على البحث؛ وقال: كنت أتعلم وأستمتع في الوقت نفسه كأني أستمع إلى سمفونية عالمية.

وكان مما أخذه الأستاذ المنجرة على هذه الندوة: أن المرأة غير ممثّلة فيها كما ينبغي، فلم يكن يمثل النساء غير الأخت أسماء بن قادة، ثم أضيفت إليها بعد ذلك الأخت هالة.

فكرة إنشاء اتحاد للكتاب المسلمين:

ومما أذكره في هذه الندوة: أني تقدّمت في خواتيم الندوة بمقترح مهم للمشاركين، وهو فكرة: إنشاء اتحاد للكتاب أو المفكّرين المسلمين، فكما أن هناك اتحادات للكتاب المحليين، اتحادًا للكتاب العرب، فينبغي أن يكون هناك اتحاد لأرباب القلم والفكر من المسلمين خارج المحيط العربي وداخله.

ولاقى هذا الاقتراح القَبول من الحضور بصفة عامة، وإن كان الأخ الدكتور محمد عمارة، أبدى ملاحظة قائلًا: إن بعضنا عضو في اتحاد الكتاب العرب، وإن مثل هذا الاتحاد قد يتعارض مع ذاك.

وقلت له: نحن نقول في تراثنا: لا تعارض بين الخاص والعام، فكما أن بعضنا عضو في اتحاد قُطْري في بلده، وهو كذلك عضو في اتحاد عربي، ولم يجد غضاضة ولا تناقضًا في ذلك، كذلك لا تعارض بين اتحاد الكُتَّاب العرب، واتحاد على مستوى العالم الإسلامي، بل على مستوى المسلمين في العالم كله، والمعروف أن العرب يكوّنون حوالي خمس المسلمين.

وقد تحدثت الصحف الجزائرية بصورة عامة عن الندووة، وعن محاضرتي، ثم عن هذا الاقتراح الأخير الذي أعطته اهتمامًا خاصًا، وقد أرسل إليّ الدكتور الهاشمي أخيرًا ما نشرته مجلة «الوحدة الجزائرية» في عددها الصادر في 24 مايو 1990م تحت عنوان: اقتراح الدكتور القرضاوي إنشاء اتحاد المفكرين الإسلاميين.

وقد أوردت المجلة تعليق الدكتور «عزي عبد الرحمن» من معهد علوم الإعلام والاتصال على هذا الاقتراح، حيث قال: المبادرة التي قدمها الأستاذ يوسف القرضاوي مبادرة جيدة وإيجابية؛ لأننا حقيقة نلاحظ أن تطور الفكر الإسلامي قد ظهر بصفة متقطعة ومجزّأة، لم يحدث هناك تلاقح بين هذا الفكر، وأصبح كل فكر ينمو وفق خصوصيات معينة، لم يحدث أن وقع انسجام خاص بتطور الفكر الإسلامي ونقل الخبرة المجودة في كل المجتمعات الإسلامية... يعني أنه لم تكن هناك بعض المحاولات مثل ما قام به مركز الدراسات الإسلامية بلند، والمركز العالمي للكتاب الإسلامي ومراكز أخرى في المشرق العربي... وكلّما كانت هناك جهود نحو التوحيد «أي توحيد هذا التراكم» كلما استطعنا اكتساب الخبرة، وكلما كانت هذه الجهود مشتّتة ومبعثرة كلما أدّى ذلك إلى الإطالة أو إلى عدم توحيد هذه الجهود.

وقد أوردت المجلة أيضًا تعليق الدكتور «أبو عمران الشيخ»، حيث قال: أنا أرحّب بالفكرة حتى أميّز بين المسلم العالم والمسلم الأمي، والآن كل واحد يفتي ويقول ما يشاء. لماذا اتحاد للمفكرين أو العلماء الإسلاميين فقط؟ حتى نغربل المستويات العلمية ونميّز بين العلوم... ولا يدخل في الاتحاد إلا العلماء المسلمون، والمفكرون الذين اشتهروا بمؤلفاتهم وتدخلاتهم وآرائهم ومقالاتهم في الندوات العلمية وغيرها.

وأوردت المجلة أيضًا تعليقًا للأستاذ «عبد الرزاق قسّوم» من معهد الفلسفة، الذي دعا إلى التريث، حيث قال: ليس المشكل في إقامة أو عدم إقامة اتحاد أو تنظيم للمفكرين الإسلاميين. العالم الإسلامي يعج الآن، بل يبالغ في التنظيمات، وهي كلها قوالب جاهزة، لكن أفرغت من محتواها الحقيقي. أنا طبعًا أي تنظيم كان للمثقفين، للكتاب، للمفكرين في الحقل الإسلامي، لكن شرط أن يصاحب هذا الجانب، الجانب التطبيقي، والوسائل التي تمكّن من العمل، والوعي بخطورة الواقع الذي نعيش فيه. أنا أخشى أن يكون ويبقى هذا على شكل محنّطات. ومع ذلك أدعو إليه مع التأمل والتريث في إعطاء المقومات الحقيقية للبقاء.

تحمُّس الشاوي والعوّا لفكرة الاتحاد:

وكان من المتحمِّسين لفكرة هذا الاتحاد: شيخ القانونيين العرب والمسلمين أ.د. توفيق الشاوي، رحمه الله ، ومعه أ.د. محمد سليم العوا، اللذان أخذا على عاتقهما، صياغة الفكرة صياغة قانونية. على أن يكون مقر هذا الاتحاد هو: الجزائر، التي رحّب المسئولون فيها بالفكرة، وباستضافة المؤسسة التي تنشأ لخدمتها.

وشاء الله تعالى أن تتغيّر الأمور في الجزائر بعد ذلك، وتدخل في دوامة من الصراع الدموي، الذي دميت له قلوبنا، قبل أن تدمع أعيننا، وظل ذلك إلى سنوات، لم نكن نملك أمامها إلا الحوقلة والاسترجاع.

واختفت فكرة الاتحاد، ولكنها لم تمت في نفسي، بل اختزنتها، حتى ظهرت فكرة أخرى، لتجميع العقول المسلمة في الأمة هي فكرة «الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين» الذي ظللت عدّة سنوات، أدعو إليه من أعرف من علماء الأمة، حتى أمسى حققة واقعة، وهو ليس بديلًا عن فكرة اتحاد كتَّاب المسلمين، فلا يُغْني أحدهما عن الآخر، فليس كل كاتب عالمًا، ولا كل عالم كاتبًا، فبينهما - كما يقول علماء المنطق - عموم وخصوص من وجه... حقَّق الله به ذلك الأمل المنشود، في شكل جديد، وتحت عنوان جديد.