اتصال الأخ يوسف ندا وإعلامي بتأسيس بنك التقوى:

اتصل بي الأخ الصديق المهندس يوسف ندا هاتفيًا من «لوجانو» في سويسرا، وقال: لعلك عرفت يعزمنا على تأسيس بنك إسلامي، اخترنا أن نسميه «بنك التقوى» وربما قرأت أسماء المكتتبين أو الراغبيت في الاكتتاب والمشاركة فيه.

قلت: نعم قرأت ذلك، وتمنّيت لو استشرتني قبل ذلك، وأنت تعلم اهتمامي بشأن البنوك الإسلامي.

قال: نعم أعلم ذلك، وقد رشّحتك - مع من رشَّحوك - لمجلس إدارة بنك فيصل الإسلامي في القاهرة من زمن طويل، وبماذا كنت تشير علينا لو استشرناك، فما زال للشورى مكانها؟

رأيي في اختيار اسم البنك:

قلت: لكلِّ شيء أوانه، فإذا فات أوانه لم تعد تُجْدي المشورة. فقد كنت أود أن تختاروا اسمًا غير اسم «التقوى» مثل: بنك الخير، بنك الطيبات، بنك الاستقامة، أو نحو ذلك.

قال: وهل في تسمية «بنك التقوى» حرج؟

قلت: لا حرج، ولكن فيها شيء من تزكية النفس، وعلى كلِّ حال، هذا أمر قد وقع، ونسأل الله أن يؤسِّس البنك على تقوى من الله ورضوان.

رأيي في إعلان أسماء المكتتبين في البنك:

والأمر الآخر: كنت أود ألا تعلنوا على الناس هذه القائمة من الإسلاميين من أقطار شتى، فكأننا نزفّهم إلى رجال المباحث وأمن الدولة.

قال: أردنا أن نُعْلم جماهير الملتزمين بالإسلام: أن هذا البنك مؤيَّد ومشجِّع من كل شخص غيور على الإسلام، عامل لخدمته.

قلت: لا شك في أن هدفكم نبيل، وأن نيتكم كانت صالحة، ولكنها قدّمت خدمة للمتربصين بالدعوة الإسلامية، والحركة الإسلامية. ولعل الله تعالى يجزيكم بحسن نيتكم، ويعمي أعينا لكائدين للإسلام وأمته عنكم.

رئاستي لهيئة الرقابة الشرعية في بنك التقوى:

ثم قال المهندس يوسف ندا: لقد اتصلت بك لتضع يدك في أيدينا، لنقيم هذا البنك على أسس إسلامية واقتصادية سليمة، وأن ترأس هيئة الرقابة الشرعية في البنك، حين ننتهي من تأسيسه، وتختار لها من تحب من إخوانك العلماء الذين تثق بقوتهم وأمانتهم.

قلت: عزيز علي والله أن أعتذر من عدم استجابتي لرغبتك، برغم معزّتك عندي، ولكن كثُرت الأعباء عليّ، وهي تعطلني عن عملي العلمي، الذي أرى في حياة روحي، وروح حياتي.

قال: يعني يا شيخ يوسف تتحمّل مسئوليات بنوك شتّى هنا وهناك، وحين يلجأ إليك إخوانك الذين كلهم ثقة بك، تتخلّى عنهم؟!

قلت: والله ما أتخلّى عنهم، ولكن أخشى ألا أقوم بالأمور المنوط بي كما يجب، ولا سيما أن هذا العمل يتطلب أسفارًا إلى أوربا.

فقال: سنخفِّف عنك ما استطعنا، وسنعفيك من الأسفار ما أمكننا، وسنعقد بعض الاجتماعات عندك في الدوحة.

قلت: إذن نستعين بالله، ونتوكل عليه، وندعوه أن يقوي ظهرنا.

وقلت للمهندس ندا: ليتك تبعث إليّ بنظام البنك لأنظر فيه مع بعض أقراني، وهل هو قابل للتعديل أو لا؟

قال: نعم، هو قابل للتعديل، ولكم أن تعدلوا فيه ما شئتم حتى يكون متوافقًا مع مبادئ الشريعة الإسلامية.

تعديلات جذرية في النظام الأساسي:

وأرسل إليّ النظام الأساسي، واجتمعت أنا وبعض إخواني: الدكتور جمال الدين عطية الذي كان يعمل أستاذًا بكلية الشريعة، والدكتور علي محيي الدين القرداغي، ونظرنا في هذا النظام، وعدّلنا فيه تعديلات جذرية. وأرسلناها إلى المهندس يوسف ندا وشريكه الأستاذ غالب همّت، ليأخذ طريقه القانوني في إقراره واعتماده من الجهات المسئولة في «البهاما» التي سجّل فيها البنك. وقد أدخلنا على النظام تعديلات مهمة، ليصبح موافقًا للشريعة الإسلامية، ولعله أول بنك يتاح له مثل هذا، وقد وافق إخواننا المؤسّسون على كل ما طلبناه.

هيئة الفتوى والرقابة:

ثم طلب إلى الأخ يوسف ندا أن أختار من يعملون معي في هيئة الفتوى والرقاية الشرعية، فاخترت الأخوين الكريمين: الدكتور علي محيي الدين القرداغي من قطر، والدكتور عبد الستار أو غدة من سوريا، وهو يعمل في جدة، مع الشيخ صالح كامل.

ومما نشهد الله عليه: أنّ إخواننا في إدارة بنك التقوى ندا وهمّت ومن يعاونهما، كانوا صادقين في التعاون معنا على أن تكون معاملات البنك شرعية خالصة، لا شائبة فيها، ولا دخل.

وكنا نطيل النقاش في فهم القضايا والإحاطة بها من جميع جوانبها، حتى يفصل فيها، دون محاولة من فريق الاحتيال على الآخر، وكما قال الأخ ندا: نحن نريد ربحًا حلالًا صرفًا.

استقامة معاملات بنك التقوى:

وكان بنك التقوى فيما شاهدت: أسلم البنوك الإسلامية من حيث استقامة المعاملات وبُعدها عن الصورية التي وقع فيه كثير من المصارف؛ ومن هنا لم يدخل البنك في بيع المرابحة، لما فيه من قيل وقال، وقد رأينا أخانا الشيخ صالح الحصين يحاول تخليص شركة الراجحي من المرابحة، فما استطاع.

كما لم يدخل بنك التقوى في متاهات سوق السلع والمعادن الدولية، التي تحيط بها شبهات الشكلية والصورية من كل جانب، ولا يكاد المرء يرى فيها سلعًا تتحرك من منتج إلى مستهلك، إلا ما ندر. وإنما هي أوراق تُسوّد وتنقل الملكية من فلان إلى فلان، والسلعة في مكانها لم تغادره.

وظل البنك سنين يعطي من الأرباع للمساهمين والمضاربين أفضل مما يعطي غيره من البنوك.

كيد القوى المتربصة:

ولكن أعين المراقبين من القوى المتربصة بالإسلام وأمته، الراصدة لكلِّ حركة في الأمة، وخصوصًا حركة المال والاقتصاد، بدأت تكيد للبنك وتشوّش عليه سمعته، وتزعم أنه يموّل جهات إرهابية، يقصدون حركة المقاومة الإسلامية «حماس».

بدأت ذلك بعض الصحف الإيطالية، وليس معها أي دليل تقدِّمه، إلا دعاوي عريضة ليس عليها أدنى بيّنة، ثم تلا ذلك فيلم في سويسرا، كل ذلك بقصد تعكير الأجواء، وتخويف الناس، ليسحبوا أموالهم من البنك فينهار، ولا ريب في أن أغلبية الناس لم يبالوا بهذه الدعايات المسمومة، ولكن أقلية من الناس تأثرت بها، فطلبت سحب رصيدها. ومجرّد طلب السحب يحدث هزة ليس في صالح البنك.

الزلزال المالي:

ثم جاء الزلزال المالي والنقدي الذي حدث في جنوب شرقي آسيا، في ماليزيا وإندونيسيا، وانخفاض قيمة العملات انخفاضًا هائلًا مرة واحدة، وأثّر ذلك في كثير من الشركات والمؤسّسات، وبعضها كانت لبنك التقوى معه معاملات كبيرة، وهو من أوليات الأمور التي يعيبها الاقتصاديون: أن تضع بيضك كله أو جله في سلة واحدة، فإذا سقطت السلة، وانكسر البيض، ضاع كل شيء.

ولكن هذا ما كان، مع ظروف أخرى، زادت الأمر تعقيدًا، ولم يكن في الإمكان تدارك الخسارة، ولم يكن لدى البنوك الإسلامية صندوق للتضامن يمكن منه جَبْر الكسر، حتى يصح ويقوى.

مصادرة البنك وتصفيته:

وزادت الطين بلة أحداث 11 سبتمبر 2001م، فشلَّت البنك تمامًا عن أيَّ حركة، بل صادرته وأدخلته تحت الحراسة، وفي هذا نفقات هائلة، كلها عبء على البنك، الذي يدفع ولا يكسب، بالإضافة إلى القضايا التي رفعها البنك في اتّجاهات شتّى، وكلها أعباء ونفقات ضخمة وتؤخذ من لحم الحي، مما بقى من رأسمال البنك الذي أحاطت به المصائب من كل جانب، وما زال الإلحاح على إدارته من الجهات المسئولة في البهاما، ليقوم بتصفية البنك نهائيًا، وهو ما كان.

خسارتي بخسارة بنك التقوى:

لقد كانت خسارتي أنا وأبنائي وبناتي كبيرة بخسارة بنك التقوى، فقد وضعنا فيه في النهاية جُل مدّخراتنا، وهي مبالغ كبيرة بالنسبة لنا، ولم يقدر لنا أن نصرف بعض الأرباح، كما فعل بعض المودعين، بل ما تحقَّق لنا من أرباح وضعناه في مضاربات البنك. ولا يسعنا إلا أن نحتسب ما أصابنا عند الله سبحانه، وندعوه جل شأنه أن يعوّضنا عن كل خسارتنا، في الدنيا والآخرة.