في سنة 1984م دعيت إلى السفر إلى الخرطوم للمشاركة في «المسيرة المليونية» التي دعا إليها الرئيس السوداني جعفر نميري، وشارك فيها بقوة: الإسلاميون، وكل فئات الشعب، وحضر عدد كبير من العلماء من بلاد عربية وإسلامية شتى، أذكر منهم: شيخنا الشيخ محمد الغزالي، وأخانا الداعية الكبير الشيخ صلاح أبو إسماعيل، وكثيرون من علماء العالم الإسلامي لم أعد أذكرهم.

وكان النميري في أواخر عهده قد اختار طريق الشريعة الإسلامية، حين رأى أن هذا الطريق هو الذي يحل المشكلات من جذورها، ويقطع الجريمة من دابرها، ويؤسس لتكافل اجتماعي حقيقي بين فئات الشعب، ويدعم مسيرة الطهر والاستقامة في المجتمع، ويقاوم الانحراف والرذيلة فيه، ولا سيما بين القادة والمسئولين.

ثم إن هذا هو «حكم الله» الذي أمر به عباده، وليس «حكم الجاهلية» المستورد، من الغرب أو الشرق، وقد قال تعالى: {أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].

وقد أقيم للمدعوين سرادق في مكان متميز في الخرطوم، بحيث يشرفون من موقعهم على المسيرة وهي تمر أمامهم، ممثله لفئات المجتمع المختلفة، ومهنه المتنوعة، من الجمعيات الخيرية، ومن الطرق الصوفية، ومن النقابات المهنية، ومن التجمعات القبلية، ومن الجماعات السياسية، ومن غير ذلك من الفئات والجهات، التي شملت الشعب كله، وكلها تهتف من أعماقها للشريعة الإسلامية، وللدعوة الإسلامية، وعلى وجوه الناس الفرحة والثقة، وهذا استفتاء صادق للشعب ... وقد كان الجو حارًا، والمسافة طويلة من بداية المسيرة في الخرطوم إلى منتهاها في أم درمان، ولكن الناس كانوا أقوى من الحر، وأقوى من طول المسافة.

وفي الحقيقة كان يومًا حافلًا، ويومًا رائعًا، ويومًا من أيام الله، وكان كثير من المدعوين - وأنا منهم - تغرورق عينه بالدموع، كلما رأى هذه المناظر الشعبية التلقائية، المؤيدة لشرع الله، وأحكام الله.

وكان أخونا الشيخ صلاح أبو إسماعيل يقول في حرقة وحرارة: متى أرى مثل هذه المسيرة في القاهرة؟ أسأل الله ألا يميتنا حتى يقرّ أعيننا برؤية مثل هذه المسيرة. ولكنه انتقل إلى رحمة الله قبل أن يرى هذه المسيرة.

مشكلة الحرية:

والحقيقة أن المسيرة في القاهرة موجودة وكامنة، ولا تحتاج إلا إلى الحرية، لتنطلق بأضعاف مسيرة الخرطوم. إنَّ المشكلة هي مشكلة الحرية. ولهذا ناديت مرارًا: يجب أن ننادي بتحقيق الحرية، قبل أن ننادي بتطبيق الشريعة الإسلامية.

علام تدلّ هذه المسيرة؟ إنها تدل على أن شعوبنا مع الشريعة. فما السودان إلا نموذج لسائر الشعوب العربية والإسلامية، فلماذا لا تستجيب حكوماتنا لشعوبها لتحقيق إرادتها وطموحاتها؟ أليست هذه هي حقيقة الديمقراطية: النزول على رأس الشعب، وإرادة الشعب؟

ولقد سألني بعض الصحفيين في الخرطون عن رأيي في هذه المسيرة ودلالتها؟ وهل أنت مؤيد لها؟

وقلت في إجابتي: لو لم أكن مؤيدًا لها ما جئت من الدوحة إلى الخرطوم، وهل يتصور أن أكون إلا مع الشريعة؟! إني مع الشريعة لأمرين:

الأول: أنها إرادة الله، والثاني: أنها إرادة الشعب.

كل ما لي من تعليق هنا هو: ما المراد بـ «الشريعة»؟

المراد بالشريعة:

للأسف أكثر الناس يفهمون من الشريعة: تطبيق العقوبات والحدود الإسلامية، وهذا جزء من الشريعة، وليس كل الشريعة، ولهذا نزلت أحكامها في أواخر العهد النبوي، وفي أواخر ما نزل من القرآن في سورة المائدة.

إن الشريعة تعني: العبادات والمعاملات والقيم والأخلاق والآداب، وليس مجرد الجانب القانوني، وخصوصًا الجزء الجزائي والعقابي فيه.

على أن القوانين وحدها لا تصنع المجتمعات، ولكن تصنعها التربية والثقافة والتوجيه، والدعوة والإعلام، وهي التي تنشئ العقول المستنيرة والضمائر الحية، والإرادات الحافزة إلى الخير، الرادعة عن الشر.

من أخطاء التطبيق السوداني للشريعة في عهد النميري:

وأود أن أقول: إن مسيرة الشريعة في عهد النميري، لم يقدر لها أن تستمر في خطها الصحيح، لأن التصور للشريعة لم يكن واضحًا تمام الوضوح للسلطة التنفيذية، فظنت أنها بمجرّد الجلد والقطع والقتل، تنفذ الشريعة حقًّا. وليس هذا هو كل شيء، فقبل أن نقطع يد السارق، لا بد أن نوفر الخبز للجائع، والعمل للعاطل، والسكن للمشرَّد، والكفالة لليتيم، والرعاية للمحتاج، ونقيم التكافل الاجتماعي في الشعب. فقبل أن ينزل الله: {وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا جَزَآءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلٗا مِّنَ ٱللَّهِ} [المائدة: 38] أنزل قوله تعالى: {وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ} [البقرة: 43] {وَوَيۡلٞ لِّلۡمُشۡرِكِينَ 6 ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ} [فصلت: 6، 7] {وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ هُوَ خَيۡرٗا لَّهُمۖ بَلۡ هُوَ شَرّٞ لَّهُمۡ} [آل عمران: 180] {أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ 1 فَذَٰلِكَ ٱلَّذِي يَدُعُّ ٱلۡيَتِيمَ 2 وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِينِ} [الماعون: 1- 3].

لا بد إذن أن نكفل حاجات الناس، ونسدّ الثغرات في حياتهم، وأن نعلِّمهم ونكفيهم، ثم نطبق عليهم العقوبات التي شرعها الله.

ثم إنَّ العقوبات إنما هي لغير الأسوياء، أي لمن شذُّوا عن القاعدة العامة. والشريعة إنما جاءت لتجعل الناس أسوياء مستقيمين.

وكان من أخطاء التطبيق السوداني للشريعة: أن الدولة في عهد نميري، أفرجت عن المساجين الذين حكم عليه القضاء السوداني في جرائم السرقة ونحوها، وهم ألوف مؤلفة، فلما أفرج عنهم دفعة واحدة، عادوا إلى مزاولة مهنتهم، وعاثوا في الأرض فسادًا، ولم يصدّقوا أن أيديهم ستقطع، فقطعت أيد كثير في زمن قصير، على غير المعهود في البلاد التي تطبع الشريعة كالسعودية.

وكان الإفراج الجماعي والفوري عن هذه الأعداد الكبيرة التي تمرست بالإجرام، خطأ بينًا، ولا سيما في أول عهد التطبيق الشرعي، إذ كانوا يحتاجون إلى أن يوضعوا تحت رعاية إسلامية فترة من الزمن، وألا يخرجوا إلا بعد أن يصلوا مرحلة معينة تظهر معها علامات التوبة عليهم، وأن تهيأ لهم أعمال مناسبة يزاولونها، وأن يؤخذ عليهم تعهّد بالاستقامة والبعد عن الرفقة المنحرفة، وأن يوضعوا تحت المراقبة فترة من الزمن، حتى نعينهم على أهواء أنفسهم. ولكن ذلك لم يحصل.

لا إسلام بغير إسلاميين:

ومن ناحية أخرى، أثبتت التجربة: أن الإسلام لا يحسن تطبيقه بحق إلا الملتزمون به إيمانًا وفكرًا وسلوكًا، وكما يقول الماركسيون: لا اشتراكية بغير اشتراكيين، نقول نحن: لا إسلام بغير إسلاميين!

ولا غرو أن هذه المسيرة لم يكتب لها النجاح تمامًا. ومن المؤسف أن نرى العلمانيين والماركسيين وأشباههم يحسبون ذلك على الإسلام، والحق أن الإسلام لا ذنب له إنما الذنب على الذين أساءوا فهمه، وأساءوا تطبيقه، ولله الأمر من قبل ومن بعد.